الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

تركيا مقتنعة بحصولها على ما تريد في شرق الفرات... وتهم «بيع الأكراد» تلاحق ترمب

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن
TT

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

الاتفاق القلق على وقف «نبع السلام» اختبار للثقة بين أنقرة وواشنطن

بعد 8 أيام من القصف المكثف والاشتباكات العنيفة بين القوات التركية وفصائل «الجيش الوطني السوري» الموالية لأنقرة، من ناحية، وميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تشكل «وحدات حماية الشعب» الكردية مكوّنها الأساسي، من ناحية أخرى، أوقفت تركيا بضغط أميركي عمليتها العسكرية التي أطلقت عليها «نبع السلام».
العملية كانت قد بدأتها أنقرة يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري من أجل السيطرة على منطقة شرق الفرات والقضاء على وجود ميليشيا «الوحدات» الكردية فيها. غير أن القيادة التركية وافقت على وقف اجتياح مناطق شمال شرقي سوريا أول من أمس (الخميس) لمدة خمسة أيام من أجل السماح للميليشيات الكردية بالانسحاب من «المنطقة الآمنة» التي تسعى أنقرة لإنشائها في المنطقة تشمل بلدتي رأس العين وتل أبيض، ووصولاً إلى الحدود مع العراق، بعمق 32 كيلومترا وامتداد 444. بحسب آخر حدود لـ«المنطقة الآمنة» التي أعلنها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
جرى الإعلان عن الوقف المؤقت للعملية العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا على لسان نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، في أعقاب مباحثات مطولة أجراها في أنقرة مع الرئيس التركي، وشارك فيها أيضا وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن الأميركي روبرت أوبراين. ولقد جاءت هذه الخطوة بعدما وصلت العلاقات التركية - الأميركية إلى منعطف حاد بسبب الاندفاع التركي نحو الانتهاء من فرض «المنطقة الآمنة» التي حددتها أنقرة من جانب واحد، وهو ما دفع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تحت ضغوط شديدة من الكونغرس إلى فرض عقوبات «ناعمة» على تركيا شملت وزراء الدفاع خلوصي أكار والداخلية سليمان صويلو والطاقة فاتح دونماز، ووزارتي الدفاع والطاقة، مع تهديده بتدمير الاقتصاد التركي ما لم توقف أنقرة العملية العسكرية.

استخفاف تركي
تهديد الرئيس الأميركي قابلته تركيا بالاستخفاف، والتأكيد على الاستمرار في العملية العسكرية حتى تحقيق جميع أهدافها التي حددتها في سياق «القضاء على التنظيمات الإرهابية» - وتقصد بها ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، وأضافت إليها «داعش» من أجل الحصول على المباركة الأميركية -، وكذلك إعادة ما يتراوح بين مليون ومليوني لاجئ سوري من أصل 3.6 مليون لديها ومنع إقامة ما تسميه «ممرا إرهابيا» على حدودها الجنوبية.
لقد بنت تركيا موقفها على قرار ترمب بسحب القوات الأميركية من سوريا الذي كان قد أصدره في السادس من أكتوبر، والذي قرأته تركيا على أنه «ضوء أخضر» أميركي لشن غزو بشمال شرقي سوريا وسحق المقاتلين الأكراد، الذين هم حلفاء لواشنطن، قبل أن يتخلى عنهم ترمب ويتركهم فريسة سهلة لتركيا.
هذا، وشجّعت الرسائل المتناقضة الصادرة عن ترمب تركيا على المضي قدُماً في عمليتها العسكرية، إضافة إلى المواقف الأوروبية التي جاءت «في الحد الأدنى»، للتأثير على الموقف التركي أيضا بإدانة العملية العسكرية والتلويح بعقوبات «غير محددة»، وإعلان بعض الدول – منها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد - وقف تصدير السلاح لتركيا.
كل ذلك دفع إردوغان إلى التمادي، رغم المؤشرات التي كانت تقطع بأن المواقف الدولية، سواءً الأميركية أو الأوروبية، قد تتطوّر إلى ما هو أبعد في معاقبة تركيا، وصولاً إلى تدمير اقتصادها بالفعل.
لكن الرئيس التركي أدرك بعدما رفض مقابلة الوفد الأميركي أن ثمن عداء أميركا قد يكون فادحاً، وأن تركيا قد تجد نفسها في عزلة تامة وظهرها للحائط... ولذا عاد وقبل بلقاء الوفد.
وهنا يقول مراقبون إن القطع بفكرة أن الولايات المتحدة «باعت» الأكراد افتراض خاطئ، نتج عن تغريدات ترمب المتناقضة التي تحدث فيها تارة عن فك الارتباط مع «وحدات حماية الشعب» الكردية بعدما قاتلت مع أميركا ضد «داعش»... وكلامه عن «تلقيها الكثير من المال مقابل ذلك»، وأن «عليهم - أي الأكراد - أن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، لأن أميركا لن تبقى في رمال سوريا لخمسين سنة قادمة من أجل حمايتهم».

اختبار للثقة
في الواقع، عكس الاتفاق الذي أعلنه بنس من أنقرة أول من أمس حالة انعدام الثقة بين أنقرة وواشنطن. إذ تضمّن وقف تركيا عمليتها العسكرية لمدة 5 أيام «للسماح بانسحاب وحدات حماية الشعب خلال هذه الفترة مع عدم فرض عقوبات أميركية جديدة على تركيا خلال الأيام الخمسة»، على أن يتم إلغاء العقوبات التي سبق فرضها بسبب العملية العسكرية بعد أن تعلن تركيا وقفاً نهائيا لإطلاق النار.
وفي البنود الأخرى، حصلت تركيا على العمق الذي تريده لـ«المنطقة الآمنة»، وهو 20 ميلا (32 كيلومترا) بينما لم يذكر شيء عن طول المنطقة التي تطالب أنقرة بأن يكون 444 كيلومتراً من منبج إلى حدود العراق، وإنهاء تركيا العملية العسكرية مع اكتمال انسحاب الميليشيات الكردية وامتناعها عن أي عمل عسكري في مدينة عين العرب (كوباني) التي دخلتها قوات نظام دمشق. كذلك، لن يكون للولايات المتحدة جنود على الأرض، بينما تلتزم أميركا وتركيا بالتوصل لاتفاق سلمي بشأن «المنطقة الآمنة» في سوريا، يضمن أمن أنقرة والأكراد، وضمان حماية الأقليات في شمال سوريا، وحماية السجون الموجودة هناك، مع التأكيد على أن هزيمة «داعش» هو الهدف المشترك لكل من أنقرة وواشنطن.
من جانبه، أكّد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن «المنطقة الآمنة» ستكون بعمق 32 كيلومترا في سوريا وتمتد من شرق الفرات وحتى الحدود العراقية. وأنه جرى الاتفاق على تسليم الميليشيات الكردية سلاحها الثقيل إلى الجيش الأميركي، وأن تكون السيطرة على «المنطقة الآمنة» للقوات التركية، ومناقشة وضع منبج ومناطق أخرى بين تركيا روسيا، لافتاً إلى أن بلاده لم تقدم أي ضمانات بشأن عين العرب. وما يستحق الإشارة، أن نائب الرئيس الأميركي اعتبر أن «ما اتفق عليه سيخدم مصلحة الأكراد في سوريا ويؤسس لمنطقة عازلة طويلة الأمد»، ووصف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الاتفاق مع تركيا بأنه «نجاح كبير وسينقذ حياة الملايين». وذكر بيان أميركي تركي مشترك أن القوات المسلحة التركية ستتولى إقامة «المنطقة الآمنة»، ورأى مسؤولون أتراك أن أنقرة حصلت على ما تريد بالضبط من المباحثات مع واشنطن.
هذا، وفي حال تنفيذ الاتفاق، يرى مراقبون أن الهدنة ستحقق الهدفين الرئيسيين اللذين أعلنت عنهما تركيا عندما شنت الهجوم قبل ثمانية أيام، وهما: السيطرة على شريط من الأراضي السورية بعمق يتجاوز 30 كيلومتراً، وإخلاء المنطقة من ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، الحليف السابق لواشنطن.

تحفظ كردي
أما بالنسبة للأكراد، فقد صرّح القيادي الكردي البارز آلدار خليل بأنه يرحب بوقف المعارك مع تركيا في شمال سوريا، لكنه أكد أن الأكراد «سيدافعون عن أنفسهم إذا تعرضوا لهجوم، ثم إن إردوغان يريد التوغل 32 كيلومترا في سوريا وسبق لنا أن رفضنا ذلك». وقال مظلوم عبدي، القائد العام لميليشيا «قسد» بأن الميليشيا قبلت بالاتفاق مع تركيا في شمال سوريا و«سنفعل كل ما يلزم لإنجاحه»، لافتاً إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار هو «البداية، فحسب»، ويجب ألا تتحقق أهداف تركيا التي شنت توغلا في شمال سوريا الأسبوع الماضي، مركزاً على أن الاتفاق يقتصر على المنطقة الواقعة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض الحدوديتين.

أزمات متعددة
على صعيد متصل، فجّر الهجوم الذي كانت تركيا بدأته الأربعاء قبل الماضي أزمة إنسانية جديدة في سوريا تمثلت بنزوح ما بين 200 و300 ألف مدني، وأثار هذا الأمر مخاوف أمنية تتعلق بآلاف من مقاتلي تنظيم داعش المحتجزين في سجون الأكراد، بالإضافة إلى أزمة سياسية يواجهها ترمب في الداخل، منها الاتهامات بالتخلي عن المقاتلين الأكراد الذين كانوا شركاء واشنطن الرئيسيين في معركة إنهاء «داعش» في سوريا. ويبدو أن تركيا لم تتجنب تماماً خطر العقوبات بسبب غضب المشرّعين الديمقراطيين والجمهوريين مما قامت به في شمال شرقي سوريا، فلقد تعهد نواب في الكونغرس بمواصلة العمل بكل قوة لفرض عقوبات صارمة على تركيا رغم إعلان وقف إطلاق النار بشكل مؤقت في سوريا.
غير أن الأمم المتحدة رحبت، من جانبها، «بأي جهود» لوقف تصعيد الموقف في شمال سوريا وحماية المدنيين، وذلك بعدما وافقت تركيا على وقف هجومها داخل المنطقة.
أما ترمب نفسه، فإنه أثنى على نظيره التركي إردوغان، وهو الذي كان قد كشف قبل مباحثات الوفد الأميركي في أنقرة عن رسالة بعث بها إليه يوم انطلاق العملية العسكرية وصفه فيها بالمتصلب والأحمق وهدده بتدمير الاقتصاد التركي، قبل أن يعود ليصفه بأنه «زعيم فذ». وجاء في ثناء ترمب قوله «إردوغان صديق لي، وأنا سعيد بأننا لم نواجه مشكلة، لأنه بصراحة زعيم فذّ... إردوغان رجل قوي وقد فعل الشيء الصحيح، وأنا أقدر ذلك، وسأظل أقدره في المستقبل».

مخاوف عودة «داعش»
جدير بالذكر، أنه منذ إعلان إردوغان عن بدء عملية «نبع السلام» تفجرت المخاوف من عودة «داعش» إلى الظهور من جديد عبر الهجوم التركي الذي قد يمتد إلى السجون التي وضعت فيها قسد الآلاف من عناصر التنظيم المتطرف. وفعلاً، أعلنت ميليشيا «قسد» أن 800 من أفراد عائلات مقاتلي «داعش» فرّوا من مخيم في بلدة عين عيسى (محافظة الرقة) بسبب القصف التركي، وأن خمسة من المتشددين فروا من مركز احتجاز. واسترجعت تقارير بهذا الشأن المواقف السابقة لتركيا تجاه «داعش»، وادعاءات دعمها للتنظيم وإمكانية تجنيد عناصره في صفوف الجيش الوطني للقتال ضد «قسد»، أو إطلاقهم إلى مناطق صراعات كحال ليبيا مثلاً، أو استخدامهم ضد بعض دول المنطقة والدول الأوروبية.
ومن جانبه، استغل «داعش» الغزو التركي للأراضي السورية، بإطلاقه سراح عدد من المحتجزات التابعات للتنظيم، غرب مدينة الرقة.
وادعت وكالة «أعماق» التابعة لـ«داعش»، في بيان أول من أمس، أن عددا من عناصر التنظيم الإرهابي تمكنوا من مهاجمة مقر تابع لـ«قسد» في قرية المحمودلي، غربي الرقة، ونجحوا في إطلاق سراح مجموعة من الداعشيات. وكان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قد قال، أول من أمس، إن 9 فرنسيات من المنتميات لتنظيم داعش قد فررن من مخيم خاضع لسيطرة الأكراد في شمال غربي سوريا
من جانبه، قال عبدي، القائد العام لـ«قسد»، بأن قواته لن تسلم عناصر التنظيم المتطرف وعائلاتهم المعتقلين لديها إلى أي جهة. وأضاف «أن عناصر «داعش» وعائلاتهم لدينا، نحن من ألقى عليهم القبض، ونحن من يحدد مصيرهم». ويذكر أنه، وفق المعلومات المتوافرة، تحتجز «قسد» نحو 11 ألف عنصر من «داعش»، بينهم 9 آلاف من العراق وسوريا و2000 ينتمون إلى نحو 50 دولة. وسبق أن حذرت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الدول الأوروبية من نقل المئات من عناصر «داعش» من سجون «قسد» في سوريا إلى العراق، بالتزامن مع العملية العسكرية التركية شرق الفرات.
وأعربت المنظمة عن قلقها من أن «بعض الدول الأوروبية لا تريد استعادة مواطنيها الدواعش، بل تسعى لنقلهم إلى العراق، بعدما أثار هجوم بدأته أنقرة قبل نحو أسبوع ضد المقاتلين الأكراد في سوريا خشيتها من أن يتمكن هؤلاء من الفرار من السجون». ودعت المنظمة كلا من «فرنسا والدنمارك وألمانيا وبريطانيا» ودولا أخرى لاستعادة مواطنيها، مع العلم أن محاكم عراقية أصدرت خلال الصيف أحكاما بالإعدام على 11 فرنسياً كانوا قد اعتقلوا في سوريا، بسبب انتمائهم إلى تنظيم داعش. وأعلنت بلجيكا، أمس، فرار عناصر من التنظيم يحملون جنسيتها من أحد السجون الخاضعة لسيطرة «قسد» في شمال شرقي سوريا. وفي المقابل، دعت أنقرة، مع انطلاق عمليتها، الدول الأوروبية إلى التعاون واستعادة عناصرها الذين قاتلوا من قبل في صفوف «داعش»، وادعت أنها ستكون قادرة على السيطرة على عناصر التنظيم الموجود في السجون متهمة «قسد» بتوظيفهم.

الدور الروسي
في هذه الأثناء، يتوقع العديد من المراقبين أن يتعاظم دور روسيا في رسم خارطة الشمال السوري في الفترة المقبلة رغم الاتفاق التركي – الأميركي، إذ انتقل ملف منبج وعين العرب فعلياً إلى روسيا الآن، وذلك بعدما دخلت قوات نظام دمشق المدينتين السوريتين بدعم من روسيا للتوصل إلى اتفاق بين النظام و«قسد». وهو ما يعني أن تركيا ستحتاج في جميع خطواتها القدمة إلى التنسيق مع روسيا.
ومعلوم، أن أنقرة فتحت بالفعل مشاورات مع موسكو بشأن الوضع في المنطقة. وأعلن وزير الخارجية التركي أول من أمس أن روسيا تعهدت بإبعاد الميليشيات الكردية عن الحدود التركية، كما أعلن عقب مباحثات الوفد الأميركي، أنه تم الاتفاق على التنسيق مع روسيا بشأن منبج و«مناطق أخرى»، في إشارة إلى عين العرب.
وحسب المعطيات، لا تمانع أنقرة في سيطرة نظام دمشق على المدينتين، بل رحب إردوغان بذلك قائلا «ليس لدى تركيا نية للهجوم على عين العرب»، لافتا إلى أن اتفاق «خارطة الطريق» في منبج، الموقع مع أميركا في يونيو (حزيران) 2018، لم يتحقق. والمرتقب أن يزور إردوغان موسكو في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري لبحث التطورات في سوريا.
ومن المنتظر، وفق المراقبين، أن يطلب الدعم الروسي بالنسبة لـ«المنطقة الآمنة» مع ضمان عدم حدوث اشتباكات بين قوات نظام الأسد والقوات التركية وحلفائها، في ظل موقف دمشق من الاتفاق التركي - الأميركي بشأن شرق الفرات، إذ رأت أنه «اتفاق غامض».

حقائق وأرقام عن العملية حتى الآن
> خسرت تركيا 8 جنود في الاشتباكات و20 مدنياً بالإضافة إلى عشرات المصابين جراء قصف ميليشيا «قسد» المناطق الحدودية، بالإضافة إلى آليات عسكرية عدة.
> قتل من «الجيش الوطني السوري» الموالي لتركيا 46 مسلحاً وأصيب 136 آخرون خلال الاشتباكات مع «قسد».
> تسببت عملية «نبع السلام» العسكرية في تراجع سعر صرف الليرة التركية، بأكثر من 5 في المائة لتصبح صاحبة الأداء الأسوأ بين العملات الرئيسية في أكتوبر الجاري. وصنف بنك «جي بي مورغان» الأميركي الليرة التركية، مع الروبل الروسي، كأكثر العملات انكشافا على التقلبات السياسية.
> علقت مجموعة فولكسفاغن الألمانية لصناعة السيارات خططها لإنشاء مصنع جديد لها في تركيا بسبب الغزو التركي لشمال شرقي سوريا.
> خسرت ميليشيا «قسد» 702 من عناصرها، إلى جانب مفاجأة تخلي ترمب عنهم بعد سحب جنوده من شرق الفرات.
> بسبب خروج الجيش الأميركي، واتخاذه موقف الحياد تجاه ما يحدث للأكراد، اضطر الأكراد إلى عقد صفقة مع نظام دمشق، برعاية روسية. وبارك الرئيس الأميركي دونالد ترمب هذه الخطوة، قائلا إن «النظام السوري أولى بالدفاع عن الأكراد في المنطقة».
> قدم الاتفاق فرصة للنظام لاستعادة السيطرة على مدينتي منبج وعين العرب بمباركة الأكراد أنفسهم وامتناع أي طرف سواء روسيا أو أميركا أو تركيا عن الاعتراض. ولقد وصل النظام إلى الحدود السورية التركية ومناطق شرق الفرات الغنية.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.