إنجلترا مطالبة بمحاربة العنصرية قبل اتهام بلغاريا

لم يمر وقت طويل على تعرض مهاجم مانشستر سيتي الدولي رحيم سترلينغ لهجوم شرس من جانب قطاعات من الصحافة والجماهير داخل إنجلترا، لكن اللافت أن حالة من النفاق الشديد استعرت بعد الأحداث العنصرية التي وقعت خلال مباراة إنجلترا وبلغاريا في استاد صوفيا.
وفي تحول من النقيض إلى النقيض، تبدي بعض قطاعات الصحافة الإنجليزية اليوم دعماً ومؤازرة كبيرة لرحيم سترلينغ. في الواقع، يبدو الأمر برمته مثيراً ومضحكاً، ذلك أن صحفاً بعينها ظلت تكرس صفحاتها لفترة طويلة لتوجيه الانتقادات اللاذعة للمهاجم الإنجليزي، لأسباب لم تتمكن هذه الصحف من توضيحها حتى هذه اللحظة، وإن كان اللاعب نفسه بمقدوره ذلك بعدما أصبحت القضية تجاه وجود العنصرية في الملاعب حساسة فجأة.
إن المشاهد المقيتة التي ظهرت خلال المباراة التي جرت بين إنجلترا وبلغاريا واضطر المسؤولون لإيقافها مرتين قبل أن تنتهي بفوز إنجلترا بنتيجة 6 - 0 شكلت نقطة تحول دفعت مثل هذه الصحف أخيراً إلى بلوغ النضج، وتحول الكثير من وسائل الإعلام والمعلقين إلى مهاجمة الاتحاد الأوروبي «يويفا» بسبب السلبية التي كان المعلقون والوسائل يدعمونها بحماس منذ قرابة دقائق فقط. نحن على ثقة من أن سترلينغ وآخرين سيشعرون بدهشة كبيرة حيال تعالي أصوات سبق وأن هاجمته بشدة لمجرد شراء منزل أو ما شابه، والآن تشدد على أنه كان ينبغي للمنتخب الإنجليزي الانسحاب من المباراة لما تعرض له اللاعبون السود من عنصرية!
فيما يخص بعض قطاعات الإعلام (غالباً ما تشكل أقلية) من المفيد بالتأكيد عندما ترصد صور شخصا ما يلقي بتحية نازية أو ينطق بسباب عرقي، نتفق جميعاً على أنه عنصري. وكذلك الحال مع محاكاة أصوات القرود ـ بالتأكيد هذا أيضاً تصرف عنصري. وحتى صحيفة «ديلي إكسبريس»، خرجت يوم الثلاثاء وفي صدر صفحتها الأولى عنوان «إنجلترا تتصدى للجماهير العنصرية».
ومع ذلك، فإنه للأسف الشديد سيضيع تأثير مثل هذا العنوان في خضم الصفحات الأخرى الكثيرة الكريهة التي لطالما خرجت بها نفس الصحيفة علينا يوميا لتأكد أن بلدا مثل إنجلترا لم يتخلص من وباء العنصرية بعد. ومع هذا، يرى البعض أن التجاوزات العنصرية في بلدان أخرى أسوأ مما هو جار ببريطانيا، ما يجعلهم يشعرون ببعض الرضا تجاه ما هم عليه الآن.
إلا أن هذا الوضع يبقى غير مرض بالتأكيد للأشخاص الذين يتعرضون للعنصرية في إنجلترا. إن كرة القدم تعكس حال المجتمع، وليس العكس. تجدر الإشارة هنا إلى أن المدرب غاريث ساوثغيت تحدث بنبرة حزينة عن المناقشات التي دارت بينه وبين اللاعبين أصحاب البشرة السمراء بالمنتخب الإنجليزي، قائلاً: «المثير للحزن أنه بسبب التجارب التي تعرضوا لها ببلادنا، أصبحوا أكثر صلابة في مواجهة العنصرية. لا أدري ما الدلالات التي يحملها ذلك عن مجتمعنا، لكن هذه هي الحقيقة».
ومع ذلك، يتعين علينا تقديم التحية لساوثغيت الذي دائماً ما يصر على مواجهة الجوانب الأكثر تعقيداً من موقف ما، مهما بدا من الأسلم له تجاهله بسبب ارتفاع بعض الأصوات شديدة التطرف. في الواقع، يثبت ساوثغيت أنه قائد استثنائي لجيل من اللاعبين ومصدر إلهام لهم بصور ونواح مختلفة وكثيرة للغاية. (المصادفة العجيبة أنه تقلد منصبه الحالي بمحض الصدفة).
ويعكس ساوثغيت في هذا الموقف مبادئه التي لطالما اتسق معها، لكن هذا القول لا ينسحب على كثيرين آخرين تعالت أصواتهم بالنقد والتنديد لما جرى في صوفيا.
وتبدو موجة الغضب تلك سابقة لأوانها بعض الشيء في بلد تعرض رئيس وزرائه لاتهامات في مناسبات متكررة باستخدام لغة عنصرية، ولم تتمكن فضيحة بحجم فضيحة ويندرش من تغيير أي شيء بالمجتمع، في الوقت الذي تواجه الأقليات العرقية تفاقماً كبيراً في الانتهاكات والتمييز الذي تتعرض لها منذ استفتاء «بريكست». وخلال الأيام الماضية، سمعنا كثيرا من الحديث حول غناء قطاع من الجماهير الإنجليزية في صوفيا أغنية تشيد بسترلينغ وتنتقد عنصرية الجماهير البلغارية، لكن في غمرة هذا نسي الكثيرون أن قطاعاً أكبر بكثير من الجماهير الإنجليزية أصبح يردد أغنية «لا استسلام» ذات الطابع العنصري المسيء لآيرلندا داخل الملاعب بمعدل جعلها أقرب ما يكون إلى النشيد الوطني.
والملاحظ أن أصوات غناء «لا استسلام» ازدادت ارتفاعاً على نحو مستمر خلال السنوات القليلة الماضية، بعد مرور 21 عاماً كاملة على «اتفاق الجمعة العظيمة»، بجانب ترديد الجماهير عبارات مسيئة لبابا الفاتيكان وإساءات لفظية أخرى كان ينبغي أن تكون اليوم في حكم التاريخ، لكنها ليست كذلك.
أما حجة الدفاع المتكررة فهي أن الجماهير التي تردد مثل هذه الشعارات المسيئة تشكل أقلية ضئيلة، لكن ليس من الضروري أن يوضح المرء في كل مرة حقيقة يفترض أنها بطبيعتها واضحة للغاية مفادها أن هذه الأقلية تسيء وتجرح مشاعر آخرين داخل هذا المجتمع.
وتظل الحقيقة أن الأقليات الضئيلة من الممكن أن تترك تأثيراً كبيراً، ولا ينبغي النظر إلى قرار هذه الأقلية الضئيلة المقيتة داخل استادات كرة القدم بالتنقل عبر المدن ورفع أعلامها مع ارتفاع أصواتها بأغان تحمل قدراً كبيراً من كراهية الأجانب والإساءات العنصرية، باعتباره حدثا منفصلا وقع في حالة من الفراغ. في الواقع، تترك مثل هذه الأعمال تأثيرات قوية على أبناء أقليات أخرى ضئيلة. وعندما تظهر مشاهد أمام الجميع لمجموعات مخمورة من الجماهير تعتدي على قوات الشرطة، مثلما حدث في براغ، وتلقي عليها الزجاجات الفارغة ويجري إلقاء القبض على بعض أفرادها، بينما تنقل شاشات التلفزيون ونشرات الأخبار هذه الصور، فإن هذا الأمر بدوره يخلق مناخاً عاماً يتسم بكراهية الأجانب ومعاداتهم بسبب أقلية صغيرة لكن مؤثرة من جماهير كرة القدم الإنجليزية. واليوم، أصبحت سمعة هذه الفئة من الجماهير تسبقها، وربما تشعر أقليات أخرى داخل البلد بأن تلك الأقلية تشكل تحدياً لها.
ورغم ذلك، لا يزال البعض يروج لفكرة أن الأوضاع المتعلقة بالعنصرية أسوأ في بلدان أخرى، وبالتالي لا ينبغي لنا الإفراط في الاهتمام بهذا الأمر. وما دام أنه يجري منع الأشخاص الذين يرفعون أيديهم بتحية النازية من دخول الملاعب، ولا ينال الناس بوجه عام فرصة التعرف عن قرب أكبر على الإساءات العنصرية التي تحدث بالأدوار الأدنى من بطولة الدوري، وجرى تغريم ميلوول 10 آلاف جنيه إسترليني لترديد بعض الجماهير شعارات عنصرية أثناء مباراة ببطولة كأس الاتحاد، فإنه لا بأس مطلقاً في تجاهل النقاط الأوسع التي لا يزال سترلينغ يسعى للفت الأنظار إليها، مثل تشويه صورة اللاعبين أصحاب البشرة السمراء وما إلى غير ذلك.
الحقيقة، أنه في إنجلترا لم يتم التعامل بحسم لمحاربة العنصرية، رغم أن البعض لا يزال يشعر بالفخر من أنه بعد التاريخ الطويل وحربين عالميتين ألقيت موزة واحدة فقط على الملاعب خلال الموسم الماضي ـ يا له من إنجاز! دعونا نخلده برسمه على العلم الوطني ليعرف بأمره العالم بأسره!