«آن»... رواية عن «مملكة العراق» المتشحة بالسواد

وفاء عبد الرزاق تستعين بالتقنية التاريخية لتسقطها على الواقع

«آن»... رواية عن «مملكة العراق» المتشحة بالسواد
TT

«آن»... رواية عن «مملكة العراق» المتشحة بالسواد

«آن»... رواية عن «مملكة العراق» المتشحة بالسواد

على الرغم من المبنى التاريخي لرواية وفاء عبد الرزاق «آن»، الصادرة عن دار «أفاتار للطباعة والنشر» في القاهرة، فإنّ النص السردي ليس كذلك في واقع الحال فهو يُشير إلى الزمن الحاضر ويتطابق معه، ويتماهى معه إذا ما جرّدنا الرواية من مجازيتها، ونزعنا عنها حلّتها التاريخية والرمزية.
تُحسِن وفاء عبد الرزاق اختيار الثيمة الروائية التي تتجلى على مدار النص الروائي. لكنها لا تكتفي بثيمة واحدة، بل تلجأ إلى تقنية الثيمات المتعددة التي تتوازى فيها من حيث الأهمية. فحينما تنتحر الملكة «شمس» يصرخ الملك «ماهود»: «ألا لعنة على جسد الرجل ورغباته الشهوانية!». ابنته الحكيمة «ياقوت» تزوّدنا بثيمة ثالثة حين تقول: «إن الجهل طاعون لو تسرّب إلى جسده الأمة أفسده»، حتى عبده «مصباح» لم يجد حرجاً في القول: «مملكتكَ سيدي اتشحت بالسواد بعد أن كانت مسكناً للجمال والعلم».
تفاجئنا الروائية في الفصل الأول بأنّ الملك مجهول الهُويّة، ولا أحد يعرف منْ هي أسرته، ومن أين أتى إلى هذه الديار؟ ومن بين تضاعيف هذا السرد الغامض نجد أنفسنا في مواجهة ثلاثة حُرّاس: أمين وملاذ وبُراق، ينتمون إلى عالم الجن أو الوهم في أقل تقدير، اعترضوا موكبه وأخبروه بأنه لن يحكم هذا الشعب الذي يؤمن بالسحر والخرافات من دونهم، وأنهم مستعدون لخدمته في نشر الوعي والمعرفة بين صفوفهم. وحينما يستفسر منهم عن الجهة التي أرسلتهم يمتنعون عن الإجابة ويتذرعون بأن المملكة ستنهار برمّتها إنْ هُم باحوا بهذا السرّ الخطير، وقد أقنعتنا الروائية بهذه الشخصيات الجنيّة خصوصاً «بُراق» الذي يظهر ويتوارى متى يشاء.
يستجيب الملك «ماهود» لبُراق ويتجه معه إلى قصر الأشباح وتصبح جاريته «سرمار» أماً لابنيه «قمران» و«نجمان» وابنته «ياقوت» لكنه يقع في حُب الجارية الجديدة «شمس» ويتزوجها فتبدأ الدسائس والمؤامرات حيث ترشو «سرمار» الخادمة فتخنق «نوران»، بِكر «شمس» لتحرق قلب أمه وأبيه لكن الله يعوّض الأخيرة بوليدٍ جديد سمّته «بُغدان» ويتعهد الملك بأنه سيقتل كل منْ يتآمر على «شمس» التي استحوذت على عقله وقلبه بجمالها الأخّاذ، وصوتها الرخيم حتى إنه يسمّي مملكته الجديدة باسم «بُغدان» تعبيراً عن حبهِ لها ولابنه الذي يعقد عليه الآمال.
تتعمّق أسطورة الثُّعبان الذي يحرس مياه البئر السوداء فيُصاب الجميع بالخوف والهلع من هذه الأكذوبة التي ستصبح حقيقة دامغة في القادم من الأيام. ومع رغبة ملك مملكة «فرطوسيان» في زيارة مملكة «بُغدان» وبئرها السوداء تطلب منه «سرمار» أن يعفو عن «أريان»، رئيس وزرائه السابق، ويدعوه لحضور الحفل، خصوصاً أن الملك بدأ يقترب منها بعد أن هجرها لبعض الوقت. لم تكن «سرمار» وفيّة للملك وإنما كانت تخونه مع العبد فقتلهما معاً ودفنهما في الخلاء، وبدأ يفكر بالانتقام من «أريان»، لكنّ خبر اختطاف «بُغدان» نزل عليه كالصاعقة فبحثوا عنه في كل مكان لكنهم عادوا خائبين.
وعلى الرغم من حبه لـ«شمس» يقع الملك في حُب الجارية «فَتَك» فيجعلها محظية له لكن «شمس» تنتحر رداً على انتهاك أنوثتها المُهانة. وفي هذه الأثناء يسلّم أمر المملكة إلى ولده «قمران» وولي عهده «نجمان» بينما كانت عقلية «ياقوت» تنضج على نار هادئة حتى أصبحت حكيمة القصر بلا منازع. يتآمر عليه «قمران» فيضعه الملك في السجن، ويعامله كأي خائن للوطن، وتخونه «فَتَك» فيُفرغ في جوفها قارورة سمٍّ كاملة.
لم يتوقع الملك أنّ ابنته «ياقوت» تفكر بالانتقام من الخائن «أريان» وطلبت من والدها أن يوافق إنْ تقدّم ابنه الأمير «زهران» وطلب يدها للزواج فسوف تقتله بخنجر مسموم. تتم الزيجة كما خُطِّط لها وتضع مولودها الأول وتسمّيه «بُغدان» أيضاً لكنها تطلب من أبيها حُرية «قمران» لأن «بُغدان» يريد أن يرى خاله. يبدو أن «قمران» قد وقع في حب «قبلان»، ابنة «أريان» بعد أن دعته «ياقوت» إلى مضاربها.
تُحيلنا الروائية في الفصل الرابع عشر إلى وضع سياسي مشابهٍ تماماً لما يجري في الوقت الحاضر، فقد أسس «قمران» حزب «سينيان» فيما أطلق «نجمان» حزب «شينيان» وكل منهما له سجونه وسجّانوه وتكتلاته، لكن الحزب الأخير تفنّن في تحريف الطقوس وتشويهها، وحرّم كل شيء؛ الغناء والطرب والخمور؛ وصاروا ينهبون ويسرقون ويقتلون الفنانين أو يضعونهم في السجون بينما كان هدف «أريان» تقسيم المملكة إلى دويلات لإضعافها والسيطرة على مواردها النفطية. فجأة ينقلب السحر على الساحر ويخرج «قمران» من السجن ويحشر والده في نفس المكان الذي كان مسجوناً فيه. لم يزره في السجن سوى خادمه «مصباح»، وحينما يسأل عن «بُراق» ولماذا لم يأتِ لإنقاذه، يخبره بأن «بُراق» كان من صنع خياله وأوهامه، وليس هناك حارس بهذا الاسم، وهو يشبه إلى حدٍّ كبير أسطورة الثُّعبان الذي صنعتهُ مخيلتهُ المتقدة. يستمر «أريان» وابنه «زهران» في سرقة النفط وبناء مملكتهم التي تزدهر على حساب «بُغدان» الغارقة في الأزبال والطقوس المحرّفة بينما كان الملك «ماهود» يذوي في سجنه، ويتبول على نفسه. ومن قلب هذه المحنة ينبجس الضوء حينما يخبره «مصباح» نقلاً عن «ياقوت» بأن «بُغدان» سجين في مدينة بصريان، جنوب المملكة.
تعود بنا الروائية إلى قصة «ماهود» قبل أن يسود ويصبح ملكاً فنعرف أنّ ابنة شيخ القبيلة التي ينتمي إليها قد اتهمتهُ زوراً بأنه استباحها لأنه لا أسرة له، فسجنوه في العراء وتركوا أمره للرعاة الذين كانوا يرأفون به.
يخرج «بُغدان» من السجن، ويستعين بصديق من مملكة «ساميان» ويطلب منه إحضار أكبر عدد من الزوار المدربين على القتال فينتقم الملك من ولديه الخائنين ثم يطعن «زهران» ويطلب من ولده «بُغدان» أن يكمل عملية الطعن حتى يُسكت آخر رمقٍ فيه. وفي صبيحة اليوم الثاني يعلن «مصباح» انتصار الأمير «بُغدان» الذي أصبح ولياً للعهد بينما فرّ جيش «زهران» فرار الجبناء.
لم تهدف وفاء عبد الرزاق، كما قلنا، إلى كتابة رواية تاريخية وإن كان التاريخ بحد ذاته سرداً وإنما استعانت بالتقنية التاريخية لتُسقِطها على الواقع العراقي المزري الذي يعيش فيه شعبنا المغلوب على أمره. وعلى الرغم من قسوة الأحداث وفجائعيتها فإن هناك بصيصاً من الأمل يَلوح في نهاية النفق المظلم، فالـ«آن» على ما يبدو قد بات قريباً جداً.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.