استحضار الطريق الطويل للسرد العربي

«تاريخ العيون المطفأة» لنبيل سليمان

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

استحضار الطريق الطويل للسرد العربي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

أولى جيرار جينيت الحكاية اهتماماً خاصاً، حتى أنه وضع كتاباً في استعادة خطابها، والسبب بنيتها الكلية التي تقوم على خطابين، أحدهما اختياري هو نص السارد، والخطاب الآخر هو الشخصية أو الشخصيات، ومثاله الحكاية البروستية في رواية «بحثاً عن الزمن الضائع» (عودة إلى خطاب الحكاية، ص9)، مؤكداً أن التمييز النقدي، أو بالأحرى التقسيم اللساني بين الثالوث: القصة - الحكاية - السرد، مما كان الشكلانيون والبنيويون مؤمنين به، أمر عفا عليه الزمن، بعد الشمول الذي صار يحيط بمجموع الواقعة السردية الذي به زالت الحيرة، على أساس أن الأصل في الواقعة قصة وقعتْ، ثم سُردت بفعل حكاء، ثم دونت احتمالاً في نص مكتوب.
وأهمية الحكاية تكمن في أن القصة تقاطع نفسها بنفسها كي تُخلي المكان لنمط آخر من الخطاب، هو السرد، فتصبح المسافة المتجسرة بين خطاب الحكاية وخطاب السرد هي بمثابة وهم محاكاتي، وهو ما اعتمده الروائي نبيل سليمان في روايته الجديدة «تاريخ العيون المطفأة»، الصادرة بطبعتها الأولى عن دار «ميم» للنشر في الجزائر 2019، جاعلاً الحكاية فعلاً ارتجاعياً، به يعاد إنتاج فعل السرد. والشفرة هي «العمى» التي اتخذت بعداً سيكولوجياً جعل الشخصيات إمّا مبأرة أو مبئرة، والوسيلة الفنية التي يسرت هذا التشفير هي طريقة الاستدعاء لراويين: الأول حكاء، والآخر سارد.
والرواية تستحضر التاريخ الطويل للسرد العربي، الذي كان فيه الحكاء هو المهيمن، بالتخييل وبحكايات عادة ما تكون قصيرة، وفيها شخصية تتعرض لصنوف من الأحداث الفنتازية.
وبين وجود حكاء يتولى السرد قاصداً التخييل، وسارد يتوخى محاكاة الواقعة، يكون التنازع السردي قد تحقق. ومن تبعات تحققه أن كلاً منهما يريد إزاحة الآخر عن دربه، فميدان السارد الموضوعي واقع نصي يريد عرضه بمنطقية التحبيك، وبصوت أحادي غائب، والحكاء ميدانه التخييل الفنتازي الذي به يَسْرح بخياله كيفما شاء، محلقاً في أجواء من الحلم، حتى لا يكون هناك خيط فاصل بين ما هو منطقي وما هو غير معقول، منتقلاً من الحاضر إلى الماضي بلوازم مثل «ضاع نفس الأركيلة، وضاعت الجمرات، يا محترم» أو «تململت القطة في الحضن الأنيس» أو «فيلبد كالقطة في الحضن الأنيس».
وهو ما يسميه جان لينتفلت السرد اللاحق، ويسميه جينيت قصة مثلية، وما المماثلة القصصية المتأتية من وجود راويين إلا نوع من التظاهر باللازمنية بين حكاية هي سرد مثلي لأن الحكاء مشترك بقصته الخاصة، وقصة هي سرد غيري لأن السارد وإن كان داخل القصة، فإنه غير مشترك في أحداثها، كما هو الحال مع شهرزاد التي هي سارد داخل القصة، لكنها ساردة غيرية القصة لأنها لا تحكي قصتها ألبتة.
وبوجود سارد ينافسه حكاء، ينقسم المسرود له إلى قسمين: واحد خارج القصة حقيقي، والآخر داخل القصة خيالي.
ويتلاقى عمل الحكاء والسارد في صنع شخصيات قصصية محتملة تجعل الحكاية مرتبطة بالكون السردي، عبر علاقة موضوعية لكنها تفسيرية، بمعنى أنها تريد أن تعلل لمَ كانت شخصية «مولود» وحدها هي العاقة والخائنة التي قبلت بالتآمر والتجسس على الأقربين بكل تخاذل وجبن وصفاقة. وكيف أن التلاعب بالزمان استرجاعاً واستباقاً بالأحلام والتنبؤات سيُفسر لنا لمَ كانت الشخصيات كلها معرضة للعمى، باستثناء مولود الذي جعله كل من الحكاء والسارد في منأى عن العمى.
ولأنهما يدركان حرفة السرد، يزداد التنازع بينهما قوة، وكأن قدامة الحكاء وحداثة السارد لا تؤثر في جمالية السرد وهما يقصان حكاية المدن الثلاث، كمبا وقمورين وبر شمس، التي تفشا بين أهلها العشو ليلاً والعمى نهاراً، وعلامته «نقطة بيضاء تظهر في عين كل ولد وهو رضيع. النقطة تكبر حتى تصبح مثل غيمة تحجب النظر في النهار» (الرواية، ص144).
والحكاء هو الذي يبتدئ الرواية في شكل حكاية لها مقدمة يسميها كالمقدمات، وتنتهي بخاتمة يسميها كالخواتيم، وما بينهما متون فيها العهدة في السرد تلقى على الراوي «وعلى ذمة الراوي، يا سادة يا كرام». وتقسم المتون إلى عيون، وهنا يظهر السارد الموضوعي، بادئاً بالشكوى من أن الحكايات تعددت وتضاربت، لذا يحاول هو ضبط ما جرى واقعياً في المدن الثلاث.
لكن السارد يظل يتتبع خطوات الحكاء، من خلال توظيف الحكايات والرسائل، مراعياً قصر كل فصل، ومتكئاً على طريقة التتابع «أواصل ما انقطع أمس من الحكاية». وتوكيداً لرغبة السارد في مجاراة الحكاء، يجمع الماضي الشفاهي بالحاضر الكتابي، جاعلاً متلقيه مستمعاً يلبد ولا يشاكس، مختتماً بجمل سردية من قبيل: «تململت القطة في الحضن الأنيس، فتململ مولود في حضن الكنبة»، أو «القطة تفر من الحضن الأنيس مجفلة. مولود يفر من حضن الكنبة مذعوراً، ولا يزيده السرير إلا ذعراً» (الرواية، ص97).
ورغم المجاراة والمنافسة، فإن السارد يحاول أن يثبت وجوده عبر المداومة على ضمير الغائب، وبالمونولوجات التي تأتي بضمير الخطاب، مع توظيف التداعي الحر. وقد يحصل أن يباغت الحكاء السارد خلسة، فيجعله يداخل السرد بالحكي، كقوله «رأى مولود نفسه كما لو أنه أبو وعد يحكي حكاية» (الرواية، ص237).
وكذلك يدلل السارد على حضوره بالنزعة الواقعية الغرائبية التي تظل واضحة وهو يصعِّد مستوى الحبك، بادئاً بالشيخ حميد ماء العينين، وزوجته فخر النساء، منتقلاً إلى أولاده مولود فمهيمن ثم معاوية، محاولاً بالتغريب صنع الشخصيات الفنتازية (أم قنفذ والسنديانة والجنية وكبابة الشوك)، والقصد مجاراة الحكاء الذي بدا منافساً قوياً للسارد في هذا الاتجاه.
وبينما يدلل الحكاء على نفسه ببلاغة الألفاظ وفصاحة المفردات، استتباعاً للسالف من السرد العربي، فضلاً عن براعة استعمال المنامات بالعبارات «يرى فيما يرى النائم أو فيما يرى اليقظان»، أو قوله «بين ما ليس بالنوم وليس باليقظة» (الرواية، ص130).
وفي مغالبة الحكاء للسارد دلالة قوية على أن مخيال السرد العربي كان قوياً وأكثر مدى من مخيال الشعر العربي الذي تقيده موجبات الوزن والتقفية، وهو ما يغيب عن أذهاننا بسبب تركيزنا النظر على المخيال الشعري، مستنتجين عدم مجاراة المخيال العربي للمخيال اليوناني، مما كان أبو القاسم الشابي قد ذهب إليه في بحث كتبه عن الخيال عند العرب.
ويشترك الحكاء والسارد في رغبتهما في الاستباق باستعمال المفارقة الساخرة الناجمة عن إثبات الشيء ثم إتباعه بما ينفيه، رغبة في شد القارئ وتشويقه لما ستؤول إليه أحداث القصة، متعامليْن مع ثيمة العمى تعاملاً آليغورياً جديداً يغاير الدلالة السلبية المعتادة التي فيها العمى رمز للجهل والضلالة والمرض الذي يصيب الحيوات فيجعلها ضعيفة مستكينة، إلى دلالة إيجابية فيها النجاة والتحصن والبراءة التي لا يحظى بها إلا الأنقياء، كالشيخ حميد ماء العينين، وزوجته فخر النساء، وأماني ومليكة، وغيرهم. وهذا التعامل الآليغوري الجديد مع العمى يتماشى مع ما كانت العرب قديماً تستعمله استعارة، فتسمي الكفيف بصيراً. ولطالما فخر الشعراء العميان بعماهم، ومنهم بشار بن برد، وقد تغنى أبو العيناء البصري بالعمى، عاداً إياه نعمة بسببها اغتنى، بينما غيره من الشعراء افتقر. وكان الجاحظ قد أورد في كتابه «البرصان والعرجان والعميان والحولان» مواضع كثيرة تؤكد أن أشراف العرب كانوا من العميان، وأن عددهم بلغ من الكثرة ما لم يستطع معه إحصاءهم.
وإذا كان توظيف ثيمة العمى قد عرفها السرد العربي القديم، وكذلك طرقها السرد الحديث، فإن التعاطي معها في السردين، وعند الراويين، كان واحداً من ناحية الارتفاع بمنزلة العميان، وعدم انتقاص حالهم أو استضعافهم.
وفي العصر الحديث، تطور تعامل الكتاب الغربيين مع ثيمة العمى، فجوزيه ساراماغو الذي تعامل مع العمى سيكولوجياً في روايته «العمى»، وغدا الإبصار خطيئة في رواية «بلد العميان» لهربرت جورج ويلز، بينما فقدانه تكفير عنها. وهذا ما تعلمه البطل نونيز الذي اعتقد خاطئاً أنه «في بلد العميان، يكون الأعور ملكاً» (ص13)، وهو رديف للمثل العربي الشائع «الأعور في بلد العميان أمير». لكن نونيز وجد العجب، وفي مقدمة هذا العجب أن لا وجود لكلمة اسمها «أرى». والمدهش أن دليل نونيز ومعلمه كان الرجل الأعمى الذي عرفه أن «هناك الكثير ليتعلمه المرء في العالم».
أمّا ما تؤكده رواية «تاريخ العيون المطفأة»، فهو أن الحياة تعاش بالعمى حين تسير بالمقلوب، وأن العمى فيها بحسب النورولوجيا الحديثة والقديمة على درجات، فهناك الأعشى والأعمى والمبصر والبصير والرائي بقلبه والناظر بإحساسه.
وبسبب ذلك صار للعيون تاريخ يجمع الماضي والحاضر معاً. فأما الماضي، فيعرضه الحكاء الذي يراهن على التخييل، مستعملاً جملة «قال الراوي» و«قلنا، يا سادة يا كرام»، مستدعياً حكايات الجنيات. وأما الحاضر، فيقدمه السارد الموضوعي الذي يراهن على الواقع، مستدعياً مسائل العولمة، كالهجرة والنزوح بحثاً عن الحرية أو الدراسة أو المال، وقضايا المراقبة والاستجواب التي تهدد الإنسانية، وبسببها تتشظى الهويات، وتتزعزع الانتماءات، وتنهار القيم الأخلاقية.
وما تقسيم الرواية إلى فصول بثمانٍ وأربعين عيناً، ثم تكرار ذكر عام 1948، سوى إشارة آليغورية تدلل على ما ساد أمة العرب في هذا العام من ظلام كبير فتت وحدتها وضعضع أملها بالقادم. وإذا كان النور قد انطفأ في العيون، فإن القلوب الصامدة هي وحدها التي ستظل مبصرة طريقها في العتمة، مستمدة من الإسلاف قوتها.
وبذلك تكون رواية «تاريخ العيون المطفأة» رواية ما بعد حداثية، تسير في درب السرد القديم، وتستمد من السرد الحداثي توجهاته، سابرة الممكن والمستحيل، وقد تعاضد التجريب في الأشكال مع الترميز في الثيمات. وطبيعي ألا يكون للتجريب الشكلي أهمية، إن لم يسانده اشتغال موضوعي جمالي، تماماً كالنظرية التي لا قيمة لها، إذا لم تصلح لخلق الممارسة، كما يقول جينيت.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.