كتب لكل راغب في التقدم في الحياة

كتب لكل راغب في التقدم في الحياة
TT

كتب لكل راغب في التقدم في الحياة

كتب لكل راغب في التقدم في الحياة

هناك علاقة ارتباط واضحة بين القراءة والإنجاز، تبدأ منذ سن الطفولة المبكرة. وعبر دراسات مستمرة، توصل باحثون على نحو متكرر إلى أن الأطفال الذين يقرأون كثيراً يبلون بلاءً حسناً في المدرسة. كما أن القراءة نشاط ينير العقل، ويعزز الحصيلة اللغوية من الكلمات، وكذلك القدرة على الاستيعاب وتركيز الانتباه. وإذا ما شعرت بأن هذه النتائج تتوافق معك، وإذا كنت ترغب في دفع نفسك نحو الأمام في معترك الحياة، ننصحك بتفحص قائمة الكتب الرائعة التالية المرتبطة بـ10 شخصيات ناجحة:
1 - «عصر رأسمالية المراقبة» لشوشانا زوبوف
عبارة عن تحليل مفصل للوضع الاقتصادي الذي نعيش فيه اليوم، بالاعتماد على حصيلة ضخمة من البيانات، وترتيب السلطة في طبقات، وغياب الإشراف التنظيمي. أما زوبوف، فتعد خبيرة اقتصادية من الطراز الأول، وهي تتناول القضية عبر توجه شامل يغطي سنوات بأكملها.
2 - «الكيميائي» لباولو كويلو
رغم أن سنوات طويلة مرت منذ قراءتي هذا الكتاب، فإن رسالاته الجوهرية ما تزال باقية في ذهني، في العمل والحياة. وتدور الفكرة الكبرى المهيمنة على الكتاب حول أنه يتعين علينا السعي وراء تحقيق أحلامنا من خلال السير وراء ما ترنو إليه قلوبنا؛ إنها قصة راعٍ أندلسي يدعى سانتياغو، وكيف أمكنه الاستعانة بقلبه في التغلب على مخاوفه. كما تعلم أيضاً تجاوز الكراهية من خلال التشبث بالناس، وعدم خسارتهم مطلقاً.
3 - «هياكل الثورات العلمية» لتوماس كون
وهذا واحد من أكثر الكتب التي تركت أصداءً بداخلي على الإطلاق. فعبر صفحات الكتاب، يشرح كون فكرة النموذج على نحو بالغ التبسيط يسهل فهمها. ويشرح بصورة واضحة للغاية العلاقة بين النظرية والأرقام، وكيف تتسبب البيانات في النهاية في اشتعال ثورة عندما يفقد النموذج فائدته أو دقته في تمثيل سلوك البيانات. ورغم أنه كتاب أكاديمي، فإنه في الحقيقة ينطبق على كل شيء بحياتي.
4 - «قوة الآن - دليل التنوير الروحي» لإيكهارت تول
ويركز الكتاب على العيش في الحاضر، وعدم السماح للأفكار المرتبطة بالماضي أو المستقبل باعتراض مسارك الحالي. وأعتقد أن هذه فكرة مهمة للجميع، لكن بوجه خاص الأشخاص الذين يديرون نشاطاً تجارياً. عندما أواجه تحديات، أذكر نفسي بأن أظل في الحاضر، خصوصاً فيما يتعلق بالمشكلات اليومية. وبغض النظر عما حدث، سواء كان خطأً مقصوداً أو غير مقصود، فإنه حدث في الماضي.
5 - «بحث الإنسان عن معنى» لفيكتور إي. فرانكيل
على ما يبدو، يتسم الكتاب بنزعة وجودية. أما بالنسبة لما تعلمته من هذا الكتاب، فهو تحديد ما أهتم به في حياتي، لأنه في اللحظة التي أحدد فيها اهتماماتي، سأصبح قادراً على التعامل مع أي شيء. ويدور الكتاب حول واحدة من قصص «الهولوكوست» المأساوية، وبالتالي تعلمت من الكتاب التوقف عن الشكوى، وإدراك مدى روعة الحياة التي أحظى بها. وفي الواقع، يعينك هذا الكتاب على وضع حياتك في إطارها الصحيح، والمضي قدماً، وتجاوز الأمور غير المهمة.
6 - «21 درساً من القرن الـ21» ليوفال نواه هاراري
في كتابه الرائع الجديد، يتناول المؤرخ يوفال نواه هاراري التحديات الراهنة التي تواجهها البشرية (مثل ارتفاع درجات حرارة الأرض، والدين، والقومية، والإرهاب). وعلى خلاف الحال مع كتابيه الأخيرين «سباينز» (الذي ركز خلاله على الماضي) و«هومو ديوس» (الذي ركز على المستقبل)، فإنه اختار في هذا الكتاب التركيز على الحاضر. أما أكثر ما أعجبني في الكتاب فهو النصيحة العملية التي طرحها بشأن ضرورة إبقاء أذهاننا في حالة نشاط مستمر، وكيفية تعاملنا مع التحديات العالمية الحالية. ويدور الدرس الرئيسي المستفاد من الكتاب حول أن التعامل الصائب مع تحديات الحياة اليومية يستلزم التأمل الواعي. ومن أجل تحقيق ذلك، يشجع المؤلف القراء على ممارسة التأمل.
7 - «المبادئ: الحياة والعمل» لراي داليو
واحد من أكثر الكتب تأثيراً، من وجهة نظري، على مدار السنوات القليلة الماضية، وهو عبارة عن مجموعة رائعة من أطر العمل لحياة ومسيرة مهنية وتجارية ناجحة (بغض النظر عن تعريفه للنجاح). وفي رأيي، يتمثل الدرس الأكبر من وراء الكتاب في أن العنصر الأهم في بناء شركة تجارية هو فريق العمل (من؟) والثقافة (كيف؟ ولماذا؟)؛ بمعنى أنه يتعين عليك اختيار الأفراد الملائمين في الأدوار الملائمة لبناء هيكل متناغم.
8 - «إتقان القيادة» لمايكل ستراسنر
أشارك في برنامج متقدم معني بمهارات القيادة في لوس أنجليس، مع الكاتب مايكل. ويركز هذا الكتاب على مدى سهولة انجذاب كل منا نحو «الانجراف» إلى أعماق ضحالة الحياة اليومية. ويحدد الكتاب 12 خطوة تسهم في إتقان مهارات القيادة، منها تحمل المسؤولية الكاملة عن كل شيء، وإشراك آخرين في صياغة رؤيتك. باختصار، إنه كتاب يستحق القراءة بكل تأكيد.
9 - «كيف تقيم حياتك؟» لكلايتون كريستيانسن
يعتمد الكتاب على ملاحظات دقيقة ورؤى ثاقبة تعين القارئ على رسم معالم طريقه نحو الإنجاز وتحقيق الذات. وفي الحقيقة، راق لي هذا الكتاب كثيراً، لأنه لا يقدم إجابات، وإنما يقدم لك أطراً عامة تعينك على الوصول للإجابات من تلقاء نفسك. على سبيل المثال، يساعدك الكتاب على إدراك منافع وأخطار الزواج وتكوين أسرة، والحياة المهنية والقرارات التجارية. وبالتأكيد، المعلم البارع ليس من يمنحك الإجابة، وإنما من يعينك للوصول إليها بنفسك؛ وهذا تحديداً ما يحققه هذا الكتاب على نحو بارع.
* خدمة «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.