مهرجان لندن السينمائي ينطلق بـ345 عملاً

من عاش لندن السبعينات والثمانينات يعرف كم تغيرت عما كانت عليه. بل تغيّرت، في الواقع، عما كانت عليه قبل 10 سنوات. محلات تفتح وتقفل طوال الوقت. مبانٍ جديدة. مطاعم تكاثرت ومكتبات قلّت. وفي مجال صالات السينما تواكب تحويل صالات شارع أكسفورد وليستر سكوير والمناطق البعيدة نوعاً عنهما، إلى دكاكين.
رحيق تلك الفترة التي كانت أفضل وأعلى حقبة ثقافية شهدها العالم في كل مجالات الفنون والكتابات، ما زال قيد الظهور في ملامح مختلفة. هناك صالات سينما ترفض أن تغلق أبوابها ولو بات على معظمها، الاكتفاء بعرض السيل الآتي من هوليوود، وصالات بديلة تقاوم ببسالة وتستمر راعية مصالح روّاد يفضلون أفلام مايك لي وأوليفر أساياس وروي أندرسون على أفلام المسلسلات المصنوعة ميكانيكياً وبالديجيتال والمؤثرات الإلكترونية في أي وقت من العام.
الرحيق موجود وكثير منه مجسد في مهرجان لندن السينمائي الذي ينعقد في مثل هذه الأيام من السنة. الدورة الثالثة والستون انطلقت في الثاني من هذا الشهر وتستمر حتى الثالث عشر. بدأت بفيلم كوميدي مستوحى من تاريخ رواية «ديفيد كوبرفيلد» وتختتم بفيلم مارتن سكورسيزي «الآيرلندي». بينهما 343 فيلماً آخر موزعة في 18 قسماً وبرنامجاً بحيث لا تستطيع أن تنتهي من فيلم إلّا لتدخل آخر.
‫يعود هذا التقليد السنوي إلى عام 1956. لا بد أنّ أحداً هناك نظر إلى ما كان منتشراً من مهرجانات في ربوع أوروبا وفي الولايات المتحدة وتساءل: «… ولم لا يكون لدينا مهرجاننا الخاص؟».
الجهة التي أشرفت عليه منذ البداية هي «ذَ بريتيش فيلم إنستتيوت»، وكانت معظم عروضه، حتى أواخر الثمانينات، تعرض في صالات «ذي ناشيونال فيلم ثيتر». كلتا المؤسستين من مؤسسات السينما النادرة تحتوي على أرشيف شامل، وتعرض برامج حافلة طوال السنة وتتوخى استمرار نشر الثقافة السينمائية ومتعة اكتشاف الجديد القيم سنة بعد سنة. بالنسبة لمهرجان لندن، فإن الثقافة والمتعة يتلازمان في برنامج مليء بما يستدعي الاكتشاف. تقول مديرة المهرجان أليسا تاتل، إنّ «أكثر من نصف الأفلام التي يعرضها المهرجان العام الحالي جديدة، ولم يسبق لها أن عُرضت في أي مكان آخر. ونحن نؤمن بأنّ ذلك مهم بالنسبة لنا وبالنسبة للندن كمركز جامع وثابت تقصده الأفلام طوال السنة». بعض هذه الأفلام التي لم يسبق عرضها عالمياً تُعرض داخل المسابقات الأربع التي يتكون منها البرنامج الأساسي: المسابقة الرسمية، ومسابقة أول فيلم، ومسابقة الفيلم التسجيلي ومسابقة الفيلم القصير. في البرنامج الرئيسي، على سبيل المثال، «أيام صيف باغنولد» لسيمون بيرد و«القديسة مود» لروز غلاس و«سكينة مع الجياد» لنك رولاند و«شغب أبيض» لروبيكا شاه.
أن يشهد المهرجان عرض أكثر من نصف الأفلام عروضاً دولية أو أوروبية أولى إنجاز مهم عليه أن يُتابع لمعرفة ما إذا كانت أهميته نوعية أو مجرد عددية. لكن، وفي كل الأحوال، فإن المسافة بين هذا الوضع الحاصل منذ عدة سنوات وما كان عليه المهرجان في العقود الأربعة الأولى من حياته، شاسعة.
آنذاك كان المهرجان يطلق على نفسه «مهرجان المهرجانات» (التسمية ذاتها التي أطلقها على نفسه مهرجان تورونتو في الثمانينات). هذا يوعز بأن الأفلام التي كان المهرجان الإنجليزي يعرضها آنذاك جُمعت من مهرجانات المنطقة الأولى مثل فينيسيا وكان وبرلين ولوكارنو. لكن إحدى سمات التطوّر أن ينتقل مهرجان ما من بداياته إلى مراحل متقدمة ينفض عن نفسه خلال ذلك تبعيته لمهرجانات أخرى. المهمّة ليست سهلة، فلندن عاصمة يصعب زيارتها لروّاد آتين من باقي بريطانيا، فما البال بروّاد أوروبيين. على ذلك، فإن إحصاءات الأعوام القليلة الماضية أكدت أن مبيعات التذاكر في كل دورة تجاوزت 150 ألف تذكرة، بل وصلت في العام الماضي إلى نحو 200 ألف تذكرة مبيعة.
صحيح أن معظم الجمهور لندني، لكن الحجم الكبير من الإقبال لا يمكن تجاهله.
هناك معايير أخرى لا تنجح في إثارة أهل العلم بل تترك وراءها علامات تعجب واستفهام كبيرة. أحدها، حقيقة أنّ نحو 60 في المائة من أفلام المهرجان من إخراج نساء. هذا ما كانت مديرة المهرجان قد صرّحت به في أغسطس (آب) الماضي، وطبّقته في الدورة الحالية.
• هل حقيقة وجود غالبية نسائية من المخرجات المشتركات هنا مهمّة بحد ذاتها ولماذا؟
• ألا يعني ذلك، بالضرورة، أن تضخيم العدد لاستخدامه في الجدال الدائر، منذ 3 أعوام، حول «غياب المرأة» أو وجودها في مهرجانات السينما الكبرى، نوع من المزايدة على مهرجانات أخرى انتقدها الإعلام الباحث عن الإثارة وحدها لقلة عدد المخرجات النساء أو قلتهن؟
• ماذا لو أنّ عدد الأفلام التي أخرجتها نساء انحسر على نحو ملحوظ في العام المقبل؟
• هل على المهرجان السينمائي أن يتماشى مع ما تردده الجمعيات الخاصة لإرضائها؟ أم عليه أن يحرص على قيمة الأفلام المشتركة بصرف النظر عما إذا كان مخرجوها نساءً أو رجالاً؟
ثم يأتي السؤال الكبير عما إذا كان مشترو التذاكر من الروّاد، يفرق كثيراً معهم إذا كان المخرج رجلاً أو امرأة. قد يفرق لو كان ولداً دون السادسة عشرة أو إنساناً آلياً ينبئ بمستقبل آلي مقبل، لكنها مرّات قليلة هي تلك التي يتحفّز فيها المشاهد لدخول فيلم من إخراج امرأة.
إحدى هذه المرّات القليلة تتجسد في اشتراك فيلم «المرشحة المثالية» لهيفاء المنصور في المسابقة الرسمية، ليس لأنّه اشترك في تلك المسابقة (وهو كان اشترك في مسابقة مهرجان فينيسيا الرسمية قبل شهرين)، بل لأنّه عنوان مهم في المتغيرات الاجتماعية التي تمر بها السعودية، وتترك تأثيرها الإيجابي على المرأة ودورها في المجتمع وكيف تواجه ما يعترض طموحاتها المحقة.
فيلم الافتتاح كان لا بد أن يكون عملاً بريطانياً، وكان من الأفضل له أن يكون من تراث إنجلترا الأدبي والكلاسيكي. «التاريخ الشخصي لديفيد كوبرفيلد» احتوى هذه الاهتمامات وجسدها. هو فيلم عن رواية تشارلز ديكنز (قال عنها إنها أفضل رواياته من تلك التي يقود بطولتها أطفال) يحتوي بطبيعة الحال الغطاء الزمني المناسب للفيلم التاريخي (الحقبة الفيكتورية) والمعالجة الجديدة التي يوفرها المخرج أرماندو إيانوتشي.
كان إيانوتشي قد أنجز بضعة أعمال تلفزيونية بريطانية ناجحة، وهو هنا سعى إلى تطوير حكاية «ديفيد كوبرفيلد» لتناسب الذوق العام اليوم عوض الحفاظ على مكانتها التاريخية كعمل. حافظ على الفترة التاريخية التي تدور فيها الأحداث، لكنّه منحها تلميعاً عصرياً وفي هذا السياق حوّلها من حكاية بؤس إلى معالجة كوميدية.
إحدى علامات هذا التلميع الممنوح للرواية الكلاسيكية اختيار الممثل الهندي ديڤ باتيل، ليلعب شخصية ديفيد كوبرفيلد. وديڤ ممثل جيد فيما يقوم به، وهو جيد هنا لكن وجوده في الدور الرئيسي الذي وضعه ديكنز ليناسب شخصية لندنية بيضاء يواجه أولئك الذين يميلون إلى سينما تأخذ مقوّماتها من الاحتفاظ بالأصول الأساسية.
المسألة الأخرى، أن ما كان سرد حكاية تراجيدية في الأساس تحوّل إلى فعل كوميدي. سوء الطالع ومعاناة الحياة والتفاوت بين الطبقات والبؤس الاجتماعي، كل ذلك لا يزال موجوداً، لكن المخرج يحوّله إلى مادة تثير الترفيه وليس الإمعان. إحدى الشخصيات الأخرى المثيرة للاهتمام في هذا الفيلم هي شخصية العمّة بتسي (تؤديها تيلدا سوينتون). هي امرأة ذات أطوار غريبة إلى حد (كما في الرواية)، لكن ديكنز لوّن تلك الأطوار على نحو خالٍ من تكرار السلوك و- بالتالي - المفاد. هنا نجد العكس هو ما حصل. حدة شخصية بتسي وعصبيتها لا تأتي بجديد بعد المشاهد الأولى لها، بل تستمر بلا إضافة.