المشاعات ضحية الجشع والنفوذ وعجز الدولة عن حماية الأملاك العامة

25 % من أراضي لبنان غير ممسوحة والخلافات بشأنها تثير التجاذبات الطائفية

TT

المشاعات ضحية الجشع والنفوذ وعجز الدولة عن حماية الأملاك العامة

أصدر وزير المال اللبناني علي حسن خليل، قراراً سمّى بموجبه أربعة مسّاحين للمباشرة بعمليات ترسيم الحدود بين منطقتي بقاعصفرين وبشرّي العقاريتين في قضاء الضنية من شمال لبنان، بعد خلاف بين المنطقتين على حدود كل منهما في قمة القرنة السوداء، أعلى قمم جبال لبنان، بحيث يقدم كل طرف في المنطقتين ما لديه من وثائق وحجج ليُبنى على الشيء مقتضاه.
كانت قضية الخلاف العقاري بين المنطقتين قد تفاعلت قبل أيام، على خلفية هوية القرنة وتبعيتها إدارياً وعقارياً، واعتراض فعاليات بشرّي على مباشرة بلدية بقاعصفرين بإنشاء بِركة للمياه بموجب قرار من وزارة الزراعة في القرنة السوداء لأنها لا تستوفي المعايير البيئية المطلوبة. ويذكر أن القانون اللبناني سمح بإنشاء بركتين واحدة لبشرّي وأخرى لبقاعصفرين، وما حصل أن عملية الحفر لبركة بقاعصفرين جرى نقلها إلى منطقة سمارة في القرنة بترخيص من زارة الزراعة، لتحصل عملية الحفر على ارتفاع 2700 متر، في حين يمنع القانون الحفر على ارتفاع أكثر من 2400 متر نظراً إلى تأثيراته الجيولوجية على المياه الجوفية.
ولقد أدى الخلاف العقاري إلى توتر بين المنطقتين، خرج عن الإطار العادي وتحوّل إلى تراشق طائفي على المنابر ووسائل التواصل الاجتماعي بين أهالي بشرّي المسيحيين وأهالي بقاعصفرين المسلمين. وأسفر اعتراض بشري عن صدور قرار عن قاضي الأمور المستعجلة بوقف أعمال الحفر في البركة، بعد ادعاء بشرّي على بلدية بقاعصفرين ووزارة الزراعة.
ويقول الرئيس السابق لبلدية بشرّي أنطوان الخوري طوق، لـ«الشرق الأوسط»، إن «النزاع ليس حديثاً، إذ كان يجري في السابق مد أنابيب لسحب المياه من القرنة إلى بقاعصفرين خلافاً للقانون. والعملية ليست طائفية. فالقرنة تحوي أكبر خزان مياه جوفية في الشرق الأوسط. وأي إخلال بطبيعتها يؤثر على جيولوجيتها لأن الأرض لا تحتمل أشغال الحفر وجرّ المياه. وقد أزلنا المخالفات مراراً وتكراراً. وبعيداً عن القوانين العقارية، ومنعاً للتجاذبات الطائفية، من المفترض أن تصنف المنطقة محمية طبيعية بمنع المسّ بها وإقامة المنشآت عليها لحمايتها».
الواقع أن مشكلة القرنة السوداء ليست إلا نموذجاً من نماذج الخلاف العقاري في لبنان. وتفيد مصادر السجل العقاري في وزارة المالية لـ«الشرق الأوسط» أن «حل مشكلة العقارات في لبنان واضح وفق القوانين، وذلك بموجب القرارات التي ترعى أعمال تحديد وتحرير العقارات وإنشاء اللجان المختصة للقيام بأعمال المسح والإشراف القضائي قبل قيدها في سجل الملكية. لكنّ العلّة في التطبيق، إذ يُفترض أن تبادر وزارة العدل إلى تسليم ملف العقار موضوع الخلاف إلى قاضٍ عقاري يتعاون مع مسّاح ومختار المنطقة حيث العقار موضوع الجدل والبلدية في المنطقة. والمفروض أن ينزل القاضي العقاري إلى الأرض ليقوم بعمله ويطّلع على الحجج والصكوك المتعلقة بالأرض. وهذا الأمر كان يحصل أيام الانتداب الفرنسي وكان المخاتير يقومون بواجباتهم، لتسير الأمور متوازية وصولاً إلى مسح الأرض ورسم حدودها وتحديد ملكيتها. لكن القضاة العقاريين يقومون بأعمال أخرى في الإطار العقاري، ما يعوق سرعة تحركهم وتفرغهم لهذا الملف». وتشدد المصادر على أن «تطبيق القانون يعطي كل صاحب حق حقه. ويمنع تحويل الخلاف العقاري إلى فتنة طائفية أو قضية لها أبعاد سياسية ومناطقية».
مسح العقارات في لبنان بدأ في مرحلة السلطنة العثمانية وحدد نظام السلطنة الملكيات الفردية والعامة وفقاً لعلامات وإشارات جغرافية محليّة بموجب «الدفترخانة» أو «الدفتر الشمسي».
وفي عام 1926 أدخل الانتداب الفرنسي مفهوم السجل العقاري الحديث، ونقل العقارات من «الحدود التقريبية» إلى علم الطوبوغرافيا وتحديد مساحة العقارات وترقيمها، ثم تسجيلها وتدوينها في سجل عقاري. ونجح في استكمال أعمال مسح نسبة 50% من الأراضي اللبنانية وتحديدها، من عام 1926 حتى عام 1946 بدءاً بالمدن الساحلية والعاصمة بيروت.
لم تستطع الدولة اللبنانية بعد الاستقلال استكمال أكثر من 25% من أعمال المسح والتحديد للقسم الباقي من الأراضي، لتبقى 25% من أراضي لبنان غير ممسوحة وغير محدّدة، ومنها ما هو متنازع على ملكيته بين القرى والبلدات أو في البلدة الواحدة بين الأهالي والجمهورية اللبنانية.
وتشكّل المشاعات، تحديداً، مادة دسمة للمخالفات والخلافات العقارية. وغالبية هذه الأراضي تمتد نحو 3000 كلم مربّع، وتوجد غالبيتها في سفوح «جبل لبنان القديم» الممتدّة من القرنة السوداء شمالاً وصولاً إلى جزين جنوباً. وتنعم بـ«ترتيب خاص» منذ زمن السلطنة مروراً بالانتداب وصولاً إلى الاستقلال. ولطالما شكّلت مراعي للمزارعين وأصحاب المواشي من أبناء القرى والجرود وكانت فاصلاً بينهم وبين البقاع وبين سهل عكار وجروده وبين سهول الجنوب وجباله وبين الساحل وأهل الجبل. وتميّزت في عهد الأمير فخر الدين الثاني (عاش بين 1572 و1635 م) بوضع ملكية المشاعات العامة في «جبل لبنان القديم» باسم أهالي القرى والبلدات. ومع المسح الفرنسي بقيت على حالها، في حين تقع بقية المشاعات في الشمال والبقاع والجنوب والساحل تحت إمرة الدولة اللبنانية.
وتوضح المصادر «أهمية المشاعات وتحديداً في المناطق الريفية لأنها ضرورية للتحطيب والرعي والخدمة العامة، وتستطيع البلديات استثمارها لتأمين مردود مالي مع المحافظة عليها. ومن دون هذه المشاعات لا متنفس للمناطق الريفية التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى غابات باطون».
والتعدّي على المشاعات بدأ خلال الحرب الأهلية اللبنانية بتواطؤ بين البلديات وقوى الأمر الواقع في كثير من المناطق اللبنانية، ولا يزال مستمراً بفعل غياب الدولة وعجزها عن ردع المخالفات على الأملاك العامة. ولكن نجت منها «سفوح جبل لبنان القديم» لأن ملكيتها تخص الأهالي وليس البلديات.
ولا تنتهي المخالفات العقارية الفاقعة، والأسباب كما توضح مصادر السجل العقاري، «تعود إلى الجشع والنفوذ والتجاذبات الطائفية، وينتج عنها خلل يستمر عشرات السنين لتصبح معالجته معقدة. كما في منطقة الأوزاعي على الساحل الجنوبي لبيروت، حيث البناء العشوائي، مع أنها محددة ومحررة، لكن ذلك لم يَحُل دون انتشار البناء غير الشرعي، كما في مناطق كثيرة في لبنان. وحل المسألة يحتاج إلى قوانين تتناول كل موضوع بموضوعه».



​تنسيق عربي - أميركي لحلحلة الأزمة السودانية

شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
TT

​تنسيق عربي - أميركي لحلحلة الأزمة السودانية

شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)
شاحنة تحمل مسلحين سودانيين تابعين للجيش يوم الاثنين في ولاية القضارف شرق البلاد (أ.ف.ب)

كشف مصدر مصري مسؤول لـ«الشرق الأوسط» عن جهود عربية - أميركية جديدة لدفع جهود التهدئة في السودان. وقال المصدر، الذي طلب عدم ذكر اسمه، إن دول «السعودية ومصر والإمارات تعمل مع الولايات المتحدة، على التنسيق على أمل حلحلة الأزمة السودانية».

وأفاد المصدر المصري بأن «اجتماعاً ضم مسؤولين من الدول الأربع، استضافته السعودية نهاية الأسبوع الماضي، ناقش دفع الجهود المشتركة؛ لتحقيق انفراجة بالأزمة».

وسبق أن شاركت الدول الأربع في اجتماعات «جنيف»، التي دعت لها واشنطن لإنهاء الحرب بالسودان، منتصف أغسطس (آب) الماضي، إلى جانب ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، غير أنها لم تحقق تقدماً، في ظل مقاطعة الحكومة السودانية المحادثات.

غير أن المصدر المصري، قال إن «اجتماع السعودية، الذي عقد يومي الخميس والجمعة الماضيين (ليس امتداداً لمبادرة جنيف)، وإن الآلية الرباعية الحالية هي للدول صاحبة التأثير في المشهد السوداني، وتستهدف دفع الحلول السلمية للأزمة». ورجح المصدر «انعقاد اجتماعات أخرى؛ لدفع جهود الدول الأربع، نحو وقف الحرب، وإيصال المساعدات الإغاثية للمتضررين منها».

صورة جماعية بختام اجتماعات جنيف حول السودان في أغسطس الماضي (إ.ب.أ)

ويشهد السودان منذ أبريل (نيسان) 2023 حرباً داخلية، بين الجيش السوداني، و«قوات الدعم السريع»، راح ضحيتها آلاف المدنيين، ودفعت «ما يفوق 10 ملايين سوداني للفرار داخلياً وخارجياً لدول الجوار»، حسب تقديرات الأمم المتحدة.

وعقب اندلاع الحرب، استضافت مدينة جدة العام الماضي، بمبادرة سعودية - أميركية، محادثات بين الجيش السوداني، و«قوات الدعم السريع»، أفضت إلى توقيع «إعلان جدة الإنساني»، الذي نصّ على حماية المدنيين، والمرافق الخاصة والعامة، والامتناع عن استخدامها لأغراض عسكرية. وتتمسك الحكومة السودانية بتنفيذ مخرجات «اتفاق جدة»، قبل الانخراط في أي مفاوضات مباشرة مع «قوات الدعم السريع».

توحيد الجهود

وترى مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفيرة منى عمر، أن «توحيد جهود الأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة السودانية، سيسهم في تحريك حلول وقف إطلاق النار»، موضحة: «أدى تضارب الرؤى والمسارات الدولية، بسبب كثرة المبادرات والتدخلات التي خرجت من دول أفريقية وإقليمية ودولية، إلى إضعاف أي تحركات لوقف الحرب السودانية».

وقالت لـ«الشرق الأوسط»، إن «التنسيق الرباعي بين مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة، سيسهم في دفع جهود إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين من الحرب على الأقل بصورة أكثر فاعلية»، مشيرة إلى أن «هناك مناطق مثل الفاشر في دارفور وولاية الجزيرة، تعاني من أوضاع إنسانية مأساوية».

ودعت إلى ضرورة تركيز تحرك الرباعي الدولي على «جهود وقف إطلاق النار، وأعمال الإغاثة، وصياغة خريطة طريق سياسية، تنهي الأزمة السودانية».

سودانيون يتلقون العلاج في مستشفى ميداني أقيم بمدينة أدري التشادية المحاذية للحدود مع السودان أغسطس 2023 (أ.ف.ب)

ويواجه السودان «واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية حالياً»، حسب تقديرات الأمم المتحدة، وأشار مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم، إلى أن «أكثر من نصف سكان السودان، يواجه خطر المجاعة والكوارث الطبيعية، مما يؤدي لانتشار الأوبئة»، وخلال زيارته لمدينة بورتسودان، في سبتمبر (أيلول) الماضي، شدّد على أن «الأزمة الإنسانية بالسودان، لا تجد اهتماماً كافياً دولياً».

دول مؤثرة

وباعتقاد الباحث السياسي السوداني المقيم في مصر، صلاح خليل، فإن «تشكيل رباعية من الدول صاحبة التأثير في الساحة السودانية، قد يحرك مسار الحلول السلمية، وتفعيل مسار جدة»، مشيراً إلى أن «توحيد جهود هذه الأطراف، سيسهم في تغيير مسار الأزمة السودانية»، منوهاً بأن «الدول الأربع تؤيد العودة لمسار جدة».

ورجح خليل، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، مشاركة الحكومة السودانية في مسار مفاوضات «الآلية الرباعية حال العودة إلى مسار جدة، ولن تقاطعه كما فعلت في مبادرة جنيف».

وأشار إلى أن «فوز المرشح الجمهوري دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية، قد يغير من معادلة التأثير الدولي في الحرب داخل السودان».

وكان السفير السوداني في القاهرة عماد الدين عدوي، شدّد على «تمسك بلاده بمسار جدة، بوصفه آلية للتفاوض لوقف الحرب»، وقال في ندوة استضافتها نقابة الصحافيين المصرية نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إن «بلاده ترفض المشاركة في أي مبادرة أفريقية، إلا بعد عودة عضوية السودان للاتحاد الأفريقي».