«الإطلالة 47» استغرقت أكثر من 313 ساعة من التفصيل والتجميل

«شانيل» تشرح أهمية الأزياء الراقية خطوة بخطوة

تداولت على صناعة الفستان أيادٍ عدة (تصوير: أليكس مارنا)
تداولت على صناعة الفستان أيادٍ عدة (تصوير: أليكس مارنا)
TT

«الإطلالة 47» استغرقت أكثر من 313 ساعة من التفصيل والتجميل

تداولت على صناعة الفستان أيادٍ عدة (تصوير: أليكس مارنا)
تداولت على صناعة الفستان أيادٍ عدة (تصوير: أليكس مارنا)

إذا كانت باريس عاصمة «الهوت كوتور» العالمية، فإن دار «شانيل» أحد أصرحتها وجزء لا يتجزأ من ثقافتها. فرغم أن علاقة فرنسا بالأناقة تعود إلى عدة قرون ماضية، إلا أن هذه العلاقة توطدت أكثر، وأخذت بُعداً أكبر في بداية العشرينيات من القرن الماضي، مع ظهور جيل غابرييل شانيل. فمنذ ذلك العهد، والدار لا تتوقف على الإبداع، رغم كل التغيرات والتغييرات التي شهدتها الموضة، وكلما ارتقى اسمها وحلق كلما استفادت باريس وعلى شأنها. الجميل في الأمر أن الدار، ومنذ غابرييل شانيل إلى فيرجيني فيار، التي تسلمت المشعل من الراحل كارل لاغرفيلد في العام الماضي، لا تزال تؤكد أن الأزياء الراقية، التي تتخصص فيها باريس، بل وتحتكرها، مُجدية مهما قال المتشائمون الذين يرددون بين الفينة والأخرى أن مبيعاتها في تراجع وزبوناتها في تقلص.
اللافت أنها، كلما احتدت المنافسة، أو تعالى صوت المتشائمين، ترد بابتكارات جديدة، ربما كان أقواها ديكوراتها في العقد الأخير. فقد زادت قوة وضخامة وإبهاراً. واليوم، وعندما تُذكر عروض الأزياء الباذخة، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو اسم «شانيل». يقول البعض إن هذه الديكورات وإخراجها كانت في الفترة الأخيرة من عهد الراحل كارل لاغرفيلد تسرق الأضواء من التصاميم، وهو ما قد يكون صحيحاً خلال العرض؛ حيث تشد الموسيقى وباقي التأثيرات البصرية الأنفاس والأنظار، لكن بعد الصحوة، تتفتح العيون على جمال التصاميم ودقتها، وكم هي عميقة حتى عندما تبدو بسيطة تأخذ شكل فستان ناعم من الموسلين أو تايور من التويد. وطبعاً تزيد الفنية في خطها الخاص بـ«الهوت كوتير»؛ حيث أبسط قطعة قد تستغرق عشرات، إن لم نقل المئات، من الساعات لإنجازها على يد محترفين. وغالباً ما تتداولها عدة أيادٍ؛ كل واحد بتخصص مختلف، في ورشات متفرقة، مثل «لوساغ» أو «غوسن» وغيرها من الورشات التي تحتضنها الدار، إما لتطريزها أو لترصيعها بالأحجار أو الريش، قبل أن ترى النور. عن مجموعتها الأخيرة لخريف - شتاء 2019 - 2020 قالت مصممة الدار فرجيني فيار، إنها انطلقت من صورة «امرأة تتميز بأناقة لا مبالية ومنطلقة» اعتمدت فيها على خطوط انسيابية، مضيفة: «لقد اختزلت فيها كل شيء أحبه في أسلوب (شانيل)». وهذا تحديداً ما ترجمته في تشكيلة تحمل كل بصمات الدار مع رشة تجديد خفيفة جداً، تشعر بها في نعومتها.
فمنذ أن تسلمت فيرجيني إدارتها الفنية، لم تحد بعد عن أسلوب متوارث أكد لعدة عقود أن له مفعول السحر على المرأة، ويحقق أرباحاً طائلة. لكنها أيضاً لم تنس أن تضخ هذا الأسلوب بجرعة من الأنوثة تتمثل في الانسيابية والنعومة عوض الهندسية التي طبعت تشكيلات مصممها السابق. السبب يعود إلى أن المصممة الحالية تُدرك أن مهمتها تتلخص في مخاطبة الزبونة الجديدة بلغة سلسة، من دون أن تخسر الزبونة القديمة، وهذا ما تلاحظه في الكثير من الإطلالات، التي يمكن أن تناسب الأم وابنتها، على حد سواء. وليس أدل على هذا من «الإطلالة رقم 47» التي تتألف من فستان طويل يلامس الكاحل بتصميم يحدد الجسم، ومطرز بالكامل ببتلات ورد، فوقه جاكيت «بوليرو» أو «بومبر» بأكتاف مستديرة ومطرز كاملة بالريش.
تقول المصممة إنها اعتمدت فيه على رئيسة قسم الأزياء الراقية، مدام سيسيل، وعلى دار «لومارييه» المتخصصة في التطريز، مشيرة إلى أن الأنامل الناعمة عملت على الفستان والجاكيت في آن واحد. النسخة الأولية من الفستان، أو ما يسمى بالأساس في لغة الخياطة، كانت من القطن الخشن، وهي خطوة ضرورية للتأكد من أن كل صغيرة وكبيرة في محلها. بعد أن تتأكد فيرجيني فيار من كل تفاصيله، تبدأ الأيادي الناعمة في رسم شكله بالطبشور على قماش الدانتيل، وهن حريصات على عدم الخروج عن السطر، ولو بسنتمتر، قبل بدء عملية تفصيله بالمقص. كل جُزءٍ منه يُقص على حدة ويوضع جانباً. عندما تتأكد الخياطة المسؤولة عنه أن التصميم اكتمل، تبدأ في حياكة الأجزاء ببعض. في النهاية تم تزيينه بخمسة أزرار وكأنها قطع جواهر. بالنسبة للجاكيت، فإن العملية، بعد التفصيل والقص، انتقلت إلى ورشة «لومارييه» المتخصصة في الريش، لتزيينه، أو بالأحرى تغطيته، بحيث لم يعد التول يظهر منه على الإطلاق. هنا أيضاً، ولدى وصوله إلى الورشة، بدأ العمل باستعمال نسخة مُوافق عليها من استوديو التصميم في دار «شانيل»، وتقطيع كل ريشة وصبغها لتكون بالحجم المناسب قبل تجميعها ووضعها على قاعدة من التول. استغرقت هذه العملية وحدها 313 ساعة من العمل في دار «لومارييه». وبعد أن غُطي التول كاملاً بالريش، أُرسلت القطعة مرة أخرى إلى رئيسة القسم، مدام سيسيل، ليبدأ فريقها في جمع الأجزاء وحياكتها ببعض بعناية فائقة حتى يبدو الريش في مكانه الصحيح. في هذه المرحلة تُضاف البطانة المصنوعة من الساتان الأسود لتكتمل القطعة، وتُعرض أمام المصممة فيرجيني، وبعدها أمام الحضور.



الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
TT

الأقمشة تبرز لاعباً أساسياً في أزياء المساء والسهرة هذا الموسم

الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)
الممثلة الأميركية أوبري بلازا في جاكيت توكسيدو وقبعة من المخمل تتدلى منها ستارة من التول (دولتشي أند غابانا)

في عالم الموضة هناك حقائق ثابتة، واحدة منها أن حلول عام جديد يتطلب أزياء تعكس الأمنيات والآمال وتحتضن الجديد، وهذا يعني التخلص من أي شيء قديم لم يعد له مكان في حياتك أو في خزانتك، واستبدال كل ما يعكس الرغبة في التغيير به، وترقب ما هو آتٍ بإيجابية وتفاؤل.

جولة سريعة في أسواق الموضة والمحال الكبيرة تؤكد أن المسألة ليست تجارية فحسب. هي أيضاً متنفس لامرأة تأمل أن تطوي صفحة عام لم يكن على هواها.

اقترح المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 قطعاً متنوعة كان فيها التول أساسياً (رامي علي)

بالنسبة للبعض الآخر، فإن هذه المناسبة فرصتهن للتخفف من بعض القيود وتبني أسلوب مختلف عما تعودن عليه. المتحفظة التي تخاف من لفت الانتباه –مثلاً- يمكن أن تُدخِل بعض الترتر وأحجار الكريستال أو الألوان المتوهجة على أزيائها أو إكسسواراتها، بينما تستكشف الجريئة جانبها الهادئ، حتى تخلق توازناً يشمل مظهرها الخارجي وحياتها في الوقت ذاته.

كل شيء جائز ومقبول. المهم بالنسبة لخبراء الموضة أن تختار قطعاً تتعدى المناسبة نفسها. ففي وقت يعاني فيه كثير من الناس من وطأة الغلاء المعيشي، فإن الأزياء التي تميل إلى الجرأة والحداثة اللافتة لا تدوم لأكثر من موسم. إن لم تُصب بالملل، يصعب تكرارها إلا إذا كانت صاحبتها تتقن فنون التنسيق. من هذا المنظور، يُفضَّل الاستثمار في تصاميم عصرية من دون مبالغات، حتى يبقى ثمنها فيها.

مع أن المخمل لا يحتاج إلى إضافات فإن إيلي صعب تفنن في تطريزه لخريف وشتاء 2024 (إيلي صعب)

المصممون وبيوت الأزياء يبدأون بمغازلتها بكل البهارات المغرية، منذ بداية شهر أكتوبر (تشرين الأول) تقريباً، تمهيداً لشهري نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول). فهم يعرفون أن قابليتها للتسوق تزيد في هذا التوقيت. ما يشفع لهم في سخائهم المبالغ فيه أحياناً، من ناحية الإغراق في كل ما يبرُق، أن اقتراحاتهم متنوعة وكثيرة، تتباين بين الفساتين المنسدلة أو الهندسية وبين القطع المنفصلة التي يمكن تنسيقها حسب الذوق الخاص، بما فيها التايورات المفصلة بسترات مستوحاة من التوكسيدو أو كنزات صوفية مطرزة.

بالنسبة للألوان، فإن الأسود يبقى سيد الألوان مهما تغيرت المواسم والفصول، يليه الأحمر العنابي، أحد أهم الألوان هذا الموسم، إضافة إلى ألوان المعادن، مثل الذهبي أو الفضي.

المخمل كان قوياً في عرض إيلي صعب لخريف وشتاء 2024... قدمه في فساتين وكابات للرجل والمرأة (إيلي صعب)

ضمن هذه الخلطة المثيرة من الألوان والتصاميم، تبرز الأقمشة عنصراً أساسياً. فكما الفصول والمناسبات تتغير، كذلك الأقمشة التي تتباين بين الصوف والجلد اللذين دخلا مناسبات السهرة والمساء، بعد أن خضعا لتقنيات متطورة جعلتهما بملمس الحرير وخفته، وبين أقمشة أخرى أكثر التصاقاً بالأفراح والاحتفالات المسائية تاريخياً، مثل التول والموسلين والحرير والمخمل والبروكار. التول والمخمل تحديداً يُسجِّلان في المواسم الأخيرة حضوراً لافتاً، سواء استُعمل كل واحد منهما وحده، أو مُزجا بعضهما ببعض. الفكرة هنا هي اللعب على السميك والشفاف، وإن أتقن المصممون فنون التمويه على شفافية التول، باستعماله في كشاكش كثيرة، أو كأرضية يطرزون عليها وروداً وفراشات.

التول:

التول كما ظهر في تشكيلة المصمم رامي علي لربيع وصيف 2025 (رامي علي)

لا يختلف اثنان على أنه من الأقمشة التي تصرخ بالأنوثة، والأكثر ارتباطاً بالأفراح والليالي الملاح. ظل طويلاً لصيقاً بفساتين الزفاف والطرحات وبأزياء راقصات الباليه، إلا أنه الآن يرتبط بكل ما هو رومانسي وأثيري.

شهد هذا القماش قوته في عروض الأزياء في عام 2018، على يد مصممين من أمثال: إيلي صعب، وجيامباتيستا فالي، وسيمون روشا، وهلم جرا، من أسماء بيوت الأزياء الكبيرة. لكن قبل هذا التاريخ، اكتسب التول شعبية لا يستهان بها في القرنين التاسع عشر والعشرين، لعدد من الأسباب مهَّدت اختراقه عالم الموضة المعاصرة، على رأسها ظهور النجمة الراحلة غرايس كيلي بفستان بتنورة مستديرة من التول، في فيلم «النافذة الخلفية» الصادر في عام 1954، شد الانتباه ونال الإعجاب. طبقاته المتعددة موَّهت على شفافيته وأخفت الكثير، وفي الوقت ذاته سلَّطت الضوء على نعومته وأنوثته.

التول حاضر دائماً في تشكيلات المصمم إيلي صعب خصوصاً في خط الـ«هوت كوتور» (إيلي صعب)

منذ ذلك الحين تفتحت عيون صناع الموضة عليه أكثر، لتزيد بعد صدور السلسلة التلفزيونية الناجحة «سيكس أند ذي سيتي» بعد ظهور «كاري برادشو»، الشخصية التي أدتها الممثلة سارة جيسيكا باركر، بتنورة بكشاكش وهي تتجول بها في شوارع نيويورك في عز النهار. كان هذا هو أول خروج مهم لها من المناسبات المسائية المهمة. كانت إطلالة مثيرة وأيقونية شجعت المصممين على إدخاله في تصاميمهم بجرأة أكبر. حتى المصمم جيامباتيستا فالي الذي يمكن وصفه بملك التول، أدخله في أزياء النهار في تشكيلته من خط الـ«هوت كوتور» لعام 2015.

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» استعملت فيها ماريا غراتزيا تشيوري التول كأرضية طرزتها بالورود (ديور)

ما حققه من نجاح جعل بقية المصممين يحذون حذوه، بمن فيهم ماريا غراتزيا تشيوري، مصممة دار «ديور» التي ما إن دخلت الدار بوصفها أول مصممة من الجنس اللطيف في عام 2016، حتى بدأت تنثره يميناً وشمالاً. تارة في فساتين طويلة، وتارة في تنورات شفافة. استعملته بسخاء وهي ترفع شعار النسوية وليس الأنوثة. كان هدفها استقطاب جيل الشابات. منحتهن اقتراحات مبتكرة عن كيفية تنسيقه مع قطع «سبور» ونجحت فعلاً في استقطابهن.

المخمل

إطلالة من خط الـ«كروز» لدار «ديور» اجتمع فيها المخمل والتول معاً (ديور)

كما خرج التول من عباءة الأعراس والمناسبات الكبيرة، كذلك المخمل خرج عن طوع الطبقات المخملية إلى شوارع الموضة وزبائن من كل الفئات.

منذ فترة وهو يغازل الموضة العصرية. في العام الماضي، اقترحه كثير من المصممين في قطع خطفت الأضواء من أقمشة أخرى. بملمسه الناعم وانسداله وألوانه الغنية، أصبح خير رفيق للمرأة في الأوقات التي تحتاج فيها إلى الدفء والأناقة. فهو حتى الآن أفضل ما يناسب الأمسيات الشتوية في أوروبا وأميركا، وحالياً يناسب حتى منطقة الشرق الأوسط، لما اكتسبه من مرونة وخفة. أما من الناحية الجمالية، فهو يخلق تماوجاً وانعكاسات ضوئية رائعة مع كل حركة أو خطوة.

تشرح الدكتورة كيمبرلي كريسمان كامبل، وهي مؤرخة موضة، أنه «كان واحداً من أغلى الأنسجة تاريخياً، إلى حد أن قوانين صارمة نُصَّت لمنع الطبقات الوسطى والمتدنية من استعماله في القرون الوسطى». ظل لقرون حكراً على الطبقات المخملية والأثرياء، ولم يُتخفف من هذه القوانين إلا بعد الثورة الصناعية. ورغم ذلك بقي محافظاً على إيحاءاته النخبوية حتى السبعينات من القرن الماضي. كانت هذه هي الحقبة التي شهدت انتشاره بين الهيبيز والمغنين، ومنهم تسلل إلى ثقافة الشارع.

يأتي المخمل بألوان غنية تعكس الضوء وهذه واحدة من ميزاته الكثيرة (إيلي صعب)

أما نهضته الذهبية الأخيرة فيعيدها الخبراء إلى جائحة «كورونا»، وما ولَّدته من رغبة في كل ما يمنح الراحة. في عام 2020 تفوَّق بمرونته وما يمنحه من إحساس بالفخامة والأناقة على بقية الأنسجة، وكان الأكثر استعمالاً في الأزياء المنزلية التي يمكن استعمالها أيضاً في المشاوير العادية. الآن هو بخفة الريش، وأكثر نعومة وانسدالاً بفضل التقنيات الحديثة، وهو ما جعل كثيراً من المصممين يسهبون فيه في تشكيلاتهم لخريف وشتاء 2024، مثل إيلي صعب الذي طوعه في فساتين و«كابات» فخمة طرَّز بعضها لمزيد من الفخامة.

من اقتراحات «سكاباريللي» (سكاباريللي)

أما «بالمان» وبرابال غورانغ و«موغلر» و«سكاباريللي» وغيرهم كُثر، فبرهنوا على أن تنسيق جاكيت من المخمل مع بنطلون جينز وقميص من الحرير، يضخه بحداثة وديناميكية لا مثيل لها، وبان جاكيت، أو سترة مستوحاة من التوكسيدو، مع بنطلون كلاسيكي بسيط، يمكن أن ترتقي بالإطلالة تماماً وتنقلها إلى أي مناسبة مهمة. الشرط الوحيد أن يكون بنوعية جيدة حتى لا يسقط في خانة الابتذال.