عقد الرئيس الفرنسي لقاء غير رسمي في نيويورك، أمس، مع نظيره الأميركي، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل ساعات من لقاء الرئيس الإيراني، في محاولة منه لإحداث «اختراق ما» في الملف النووي الإيراني، وتخفيف حدّة التوتر بين البلدين، وفي منطقة الخليج بشكل خاص. ويلتقي ماكرون ترمب مجدداً اليوم، كما سيلتقي رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهما شريكان مع فرنسا في التوقيع على اتفاق عام 2015، بحثاً عن موقف أوروبي مشترك، قبل يوم من اجتماع وزراء خارجية أطراف الاتفاق النووي في نيويورك.
ورغم التصعيد الخطير الذي تمثل باستهداف منشأتين نفطيتين سعوديتين يوم السبت 14 سبتمبر (أيلول) الحالي، وتوجيه الاتهام لإيران من جهات إقليمية ودولية كثيرة، على رأسها الولايات المتحدة، بالمسؤولية عن هذه الهجمات، فإن إيمانويل ماكرون لم يفقد الأمل بالسير بوساطته بين واشنطن وطهران، بل إنه لم يستبعد «حصول شيء ما» في نيويورك، بحسب تصريحات أدلى بها إلى عدد محدود من الصحافيين خلال الرحلة بين باريس ونيويورك.
واللافت في قراءة ماكرون لما آلت إليه الأوضاع بين إيران والولايات المتحدة التناقض بين توصيفه لها والخلاصة التي توصل إليها. فهو من جهة، يعد أن دفع إيران للأمور باتجاه التصعيد «خطأ استراتيجي»، وأن الهجمات على المنشأتين النفطيتين توصل إلى مزيد من التوتير في المنطقة، بل إنها «غيرت المعطيات»، بحيث إن حظوظ عقد لقاء ترمب - روحاني «قد تضاءلت». وأسهب الرئيس الفرنسي في شرح الفروق بين المقاربتين الإيرانية والأميركية، واختلاف الاستحقاقات، حيث إن ترمب يريد اجتماعاً سريعاً، بينما روحاني لا يرى ذلك إلا في «نهاية مسار»، وبعد رفع العقوبات.
ومن جهة ثانية، ما زال ماكرون يعد أن نيويورك يمكن أن تشهد تطوراً ما، حيث سيوجد فيها، في الوقت عينه، الرئيسان الأميركي والإيراني.
وكان ماكرون، خلال قمة السبع في بياريتز، نهاية أغسطس (آب) الماضي، قد فتح الباب أمام قمة أميركية - إيرانية بحضوره في نيويورك، وهو يسعى اليوم لـ«تفعيل الدينامية» التي أفضت إليها القمة المذكورة.
ولا يبدو التفاؤل النسبي للرئيس ماكرون هو الطاغي على الدبلوماسية الفرنسية. فتصريحات وزير الخارجية، جان إيف لو دريان، الذي سبق رئيسه إلى نيويورك يوم الأحد، تنم عن حذر أكبر، إذ عد في مؤتمر صحافي أن الهجمات على السعودية «تدفع باتجاه توترات خطيرة» من جهة، كما أنها «توسع الفجوة» الممكنة للمناقشات، بحيث إن لقاء ترمب - روحاني «لم يعد الموضوع الأول، بل بات هذا الموضوع هو: هل نستطيع استعادة مسار خفض التصعيد مع الأطراف كافة؟!». وسبق للوزير الفرنسي أن اتهم إيران مداورة بالمسؤولية عن الهجمات، بقوله إن ادعاء الحوثيين المسؤولية عنها «يصعب تصديقه». وقامت باريس بإرسال 7 خبراء عسكريين إلى السعودية للمشاركة في التحقيق الدولي، بناء على طلب الرياض. وبحسب لو دريان، فإن «التحدي أمام المناقشات» في نيويورك خلال الأسبوع الحالي هو معرفة ما إذا كان العمل على خفض التصعيد ما زال ممكناً، خصوصاً بعد أن عمدت إيران إلى التخلي عن التزامات إضافية من الاتفاق النووي، إضافة إلى تهديدها بانتهاكات جديدة بداية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وذكر لو دريان بأن «محددات» خفض التصعيد «أي مضمون الخطة الفرنسية القائلة برفع جزئي للعقوبات الأميركية، مقابل عودة طهران إلى الاتفاق، وقبول التفاوض بشأن برامجها الباليستية وسياستها الإقليمية»، ما زالت «مطروحة على الطاولة».
وحقيقة الأمر أن ماكرون، الراغب بإنجاز دبلوماسي يكمل إدارته الحكيمة لمجريات قمة السبع، يبدو أكثر تساهلاً من وزير خارجيته مع إيران، ربما لرغبته في المحافظة على قناة تواصل مع روحاني. ففيما خص الهجوم على المنشأتين النفطيتين الرئيسيتين، أعلن الرئيس الفرنسي، كما نقلت عنه صحيفة «لو موند» في عددها ليوم أمس، أنه «يتعين التحلي بالحذر بشأن تحميل مسؤولية (الهجومين)، إذ إن ما لدينا اليوم مجموعة من المؤشرات، لكن الهجمات هي عمل حربي، وطبيعته مختلفة لأنها تغير المعطيات التي كانت سائدة في المنطقة، وتوجد معطى جديداً». وخلص ماكرون إلى أنه «لا يريد سياسة تخيلية بخصوص التصعيد (الأخير)، ولا حول دور إيران التي تسلك دربه، وهو خطأ استراتيجي بالنسبة إليها، كما بالنسبة لكل المنطقة».
بيد أن انتقادات ماكرون لا تتوقف عند إيران وحدها، إذ إنه يلوم سياسة ترمب الذي أخرج بلاده من الاتفاق النووي ربيع عام 2018، رغم أن واشنطن كانت «المحرك» الذي أوصل إليه. ويرى ماكرون أن الانسحاب «أضعف الموقف الأميركي، ولم يوجد بديلاً» عنه. وخلال العامين المنصرمين «لم يتح العثور على حل (بديل) للملف النووي، ولا خفض احتمالات المواجهة في المنطقة»، في إشارة إلى ما تراه باريس من فشل سياسة العقوبات القصوى في جلب طهران صاغرة إلى طاولة المفاوضات من أجل اتفاق جديد. وبرأيه، فإن الإيرانيين فرضوا «قواعد جديدة» ليس فقط بالنسبة للبرنامج النووي، بل أيضاً لما يحصل في الخليج، في إشارة إلى الهجمات على الناقلات في مضيق هرمز، وإسقاط طائرة مسيرة أميركية في شهر يونيو (حزيران) الماضي، وآخرها الهجمات على منشأتين نفطيتين سعوديتين.
هل سينجح ماكرون في تحقيق تقدم ما في الخطة التي اقترحها، وحصل على ضوء أخضر أميركي - إيراني للسير بها، قبل أن تتغير المعطيات ويزداد التوتر؟ السؤال مطروح. ووفق مصدر دبلوماسي أوروبي، فإن ماكرون «يراهن على انعدام الرغبة الأميركية في الدخول في مواجهة مفتوحة» مع إيران، وتفضيل الإدارة للحل السياسي. وترى باريس أنها قادرة على «إيجاد المخرج» الذي من شأنه العودة إلى الأجواء الإيجابية التي سادت في بياريتز. إنه رهان، وكأي رهان يمكن أن ينجح، كما أنه يمكن أن يفشل.
الرئيس الفرنسي: التصعيد الإيراني «خطأ استراتيجي»
الرئيس الفرنسي: التصعيد الإيراني «خطأ استراتيجي»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة