التوظيف السياسي للتاريخ العثماني

TT

التوظيف السياسي للتاريخ العثماني

طالما ثار الجدل حول طبيعة العلاقات بين إسطنبول والعرب في الأوقات العصيبة التي مرت بها المنطقة؛ إذ أُثير الأمر مع نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، حيث أصبحت الدولة العثمانية «رجل أوروبا المريض»، ورأى حكام إسطنبول أن خلاص الدولة يأتي من خلال سياسة التتريك، أي فرض الصبغة التركية على ما تبقى من الولايات. من هنا كان الصدام الكبير مع القوميتين العربية والأرمنية. ونتج عن ذلك إعدام القادة الأتراك لزعماء القومية العربية في بلاد الشام، واندلاع الثورة العربية في الحجاز ضد الأتراك أثناء الحرب العالمية الأولى، كما شهدت المنطقة مواجهة عنيفة بين الأتراك والأرمن نتج عنها ما عُرف بمذابح الأرمن، التي تؤكدها المصادر الأرمنية، وتنفيها المصادر التركية.
ويتجدد النقاش مرة أخرى بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967؛ وساد التفسير الديني للهزيمة، ودفع البعض إلى النظر إلى التاريخ الإسلامي القريب، وتمجيد آخر خلافة إسلامية - من وجهة نظرهم - (الدولة العثمانية)، وربما يتضح ذلك من خلال الكتاب الشهير الذي أصدره المؤرخ المصري عبد العزيز الشناوي «الدولة العثمانية: دولة إسلامية مُفترى عليها». وهكذا ثار الجدل من جديد حول العصر العثماني وعلاقة الأتراك بالعرب، وظهر اتجاهان: الأول الحسرة على «الخلافة العثمانية»، والاتجاه الثاني من خلال التشفي بالماضي العثماني الذي يشترك مع الاستعمار، أو لعله هو نفسه استعمار تحت ستار الدين، ساهم في زرع التخلف في العالم العربي.
ويعود الجدل من جديد بعد التحولات التي جرت ابتداء من عام 2011. وما سُمي بـ«الربيع العربي»؛ إذ وصل الإسلام السياسي إلى الحكم في بعض الدول العربية نتيجة ضعف الأحزاب المدنية، وتخلى إردوغان عن سياسته الخارجية السابقة «صفر مشاكل»، أي إنهاء المشاكل مع جيرانه، وبدأ يوظِف التاريخ العثماني لخدمة مشروعه التوسعي في المنطقة؛ إذ تم تصدير صورة تركيا على أنها نموذج الإسلام الحديث الوسطي المتقدِم اقتصادياً، المُنفَتِح على الغرب، وأن هناك شرق أوسط جديد يولَد، سوف تكون تركيا زعيمته. وهكذا أراد إردوغان توظيف التاريخ وعودة إسطنبول لتحكُم المنطقة، وتغنى بالماضي العثماني المجيد، كما نصَّب نفسه وريثاً للدولة العثمانية.
والحق أن إردوغان قفز على حقائق التاريخ لخدمة مشروعه وتصدير النموذج التركي للعالم العربي. بداية لا يمكن النظر إلى العصر العثماني على أنه شر مُطلَق أو خير مبرور. لقد انتهت الدراسات الجادة الخالية من الآيديولوجيا إلى نتيجة أساسية ومنطقية: أن الحكم العثماني لا ينتمي إلى صنف الشياطين الأشرار ولا إلى صنف الملائكة الأطهار. كما أظهرت الدراسات الحديثة أن العنصر التركي لم يكن هو أساس الحضارة في العصر العثماني، وربما تكون مفاجأة للقارئ أن كلمة «تركي» كانت كلمة مُستهجَنة في العصر العثماني، لأنها كانت توحي بالبداوة والغلظة، وإلى ماضي الأتراك الدموي في أواسط آسيا قبل هجرتهم إلى عالم الإسلام، واعتناقهم الدين الإسلامي. لذلك كان حرص السلاطين على التلَقُّب بـ«السلاطين العثمانيين» وليس «الأتراك»، وإطلاق العثمانية على اسم الدولة، بل حتى اللغة كانت تُسمى اللغة العثمانية وليست اللغة التركية!
ويرجع ذلك إلى أن العثمانية كانت تعني الانتماء لعالم أوسع يشترك فيه الأتراك والعرب والأرمن وغيرهم. وفي بدايات العصر العثماني كان السلطان العثماني الذي لا يعرف اللغة العربية يُعتبر جاهلاً وغير مثقف، وكان كبار الأدباء العثمانيين يتبارون في إدخال كلمات عربية في حديثهم وكتاباتهم لبيان علو ثقافتهم وبلاغتهم.
وبالعودة إلى مشروع إردوغان، نجد أنه في توظيفه للتاريخ يبعد عن الفترة الأولى من العصر العثماني التي شهدت إلى حدٍ ما نوعاً من الهدوء والسلام في المنطقة، ويتجه إلى توظيف الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية حيث ظهرت سياسة «التتريك»، أي صبغ المنطقة بالصبغة التركية، والتخلي عن سياسة اللامركزية، وحكم المنطقة من إسطنبول.
ويظهر ذلك جلياً في موقف إردوغان من مصر، وتخوفه من دورها في المنطقة، وهي عودة لسياسة التنافس بين إسطنبول والقاهرة منذ ظهور محمد علي وصدامه مع السلطان العثماني، ورغم هزيمة محمد علي وإجباره على توقيع معاهدة لندن 1840. فإن القاهرة ستستمر في تأكيد دورها في المنطقة والدفاع عنه.
ومع التطورات الدرامية لـ«الربيع العربي» في سوريا وتداعياته على شمال العراق، لا سيما تنامي نفوذ «داعش»، يزداد الوجود التركي في المنطقة. لذلك؛ برزت أهمية عودة قصيرة إلى التاريخ القريب وتذكُر الأطماع التركية في شمال العراق، وإصرار تركيا حتى بعد سقوط الدولة العثمانية على ضرورة ضم الموصل إلى الجمهورية التركية. وما يزال إردوغان يدعي حقوقاً تاريخية في كركوك والموصل، وبحق التدخل العسكري ضد الوجود الكردي. كما ادعت تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية، حقوقاً تاريخية في شمال سوريا، ونجحت في اقتناص لواء الإسكندرون الذي ضمته إلى الدولة التركية الوليدة، ونرى الآن التدخل العسكري التركي، بجانب قوى أجنبية أخرى، في شمال سوريا بحجة حماية الحدود الجنوبية لتركيا، أو بحجة مقاومة الإرهاب.
انتهت الدولة العثمانية تاريخياً، ولكن استمر توظيف تاريخها سياسياً حتى اليوم.
- أستاذ التاريخ الحديث - جامعة القاهرة



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.