أبناء السودان التائهون

رواية «تراتيل منسية» لعماد البليك

- ناقد وشاعر سوداني
- ناقد وشاعر سوداني
TT

أبناء السودان التائهون

- ناقد وشاعر سوداني
- ناقد وشاعر سوداني

في روايته الجديدة «تراتيل منسية» (صدرت هذا العام عن دار أطلس بالقاهرة) لا يسرد الروائي السوداني عماد البليك، حيوات سودانية لعائلات من اليهود المنسيين في إطار الثيمة التقليدية التي وسمت الاغتراب الأبدي لليهود، عبر تمثيلات حياة «الغيتو» في مجتمعات الأغيار، فحسب، بل يتأمل خلال السرد، هوية إنسانية عابرة لمعنى التيه حين يكون فردياً ومتذرراً على حياة مجموعة من اليهود يعجز كل واحد منهم عن تفسير تناقضاتها في العيش بين حدود قصوى لبلدين وجغرافيتين!
تنفتح ثيمات الهوية اليهودية في هذه الرواية على أفق إنساني؛ بداية بعنوان الرواية الذي يضمر استعارة توراتية، ومروراً بالعتبة النصية في الإهداء: «إلى كل تائهٍ يبحث عن أرضه، نفسه، وأمله»، حيث أمثولة الحكاية هنا تضمر عنواناً ذا دلالة تاريخية لليهود، تفضي بالقارئ إلى تمثيلات مركبة لشخصيات الرواية المغتربة.
تسلط الرواية الضوء على يهود منسيين عانوا اغتراباً مزدوجاً في إسرائيل (التي هاجروا إليها من السودان خلال السبعينات من القرن العشرين) ففيما يعرف المجتمع الإسرائيلي مهاجرين يهوداً عرباً؛ كاليهود المصريين، أو المغاربة، أو العراقيين، لا توجد دالة تعريفية لليهود السودانيين هناك، كأن اغتراب الهوية السودانية عربياً أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتهم في إسرائيل! من فندق «دان بانوراما» بمدينة يافا تتداعى ذكريات بطلة الرواية سوسو (نجمة الأكروبات الإسرائيلية والمدربة الوطنية الأولى لألعاب السيرك في إسرائيل) عن ماضيها السوداني من نافذة الذكريات.
الذكريات؛ ذكريات سوسو، وذكريات والدها، وذكريات يهود آخرين، هي تقنية الاسترجاع التي يتوسلها عماد البليك ليجعل لشخصياته الروائية المغتربة زمناً آخر هو زمن الرواية، في حين يراوح السرد برشاقة عبر تقاطعات أزمنة الواقع. بعد الفصل الأول، ترتد أحداث الرواية إلى مشهد من أواخر القرن التاسع عشر متتبعة سبب الوجود الأول لعائلة باروخ جولدشناين في السودان، عندما جاء الجد الأول باروخ مترجماً في صحبة جيش كتنشنر البريطاني الغازي.
يمارس عماد البليك تقنية التقطيع من خلال بورتريهات متناظرة في الفصول بأسماء الشخصيات الساردة، حيث يتوزع عليها السرد ويتداخل فيها الزمن الروائي، تضمر الحكاية، التي تتوالى مشاهدها متقطعة عبر الأزمنة والأمكنة: (الخرطوم ويافا في إسرائيل وتل أبيب) عالماً من الذكريات المتناظرة، فالزمن الحاضر يبدو تخصيصاً لحكاية الذكريات هنا وهناك. ومن خلال ذلك الزمن تنسرد أزمنة أخرى.
الشخصية المركزية في الرواية سوسو هي الأكثر حضوراً عبر سعيها وراء حلمها لتصبح نجمة ألعاب «الأكروبات» التي ازدهرت فرقتها السودانية خلال عقد السبعينات، والتي وجد عمر الأزرق (مدرب فرقة الأكروبات السودانية وفيلسوفها) في جرأتها وذكائها وبياضها؛ حلماً لطالما راوده في تدريب نجمة سودانية بمواصفات فتاة بيضاء موهوبة، فعمر الأزرق عبر ملاحظاته العميقة في فلسفة الأكروبات وعلاقتها بالجسد والفن وألعاب الخفة، استطاع أن يجعل من سوسو حلماً ممكناً وحباً مستحيلاً في الوقت ذاته: «سوسو... هي صورة المرأة الحلم التي كنت أراها في منامي والتي هربت مني ذات يوم... كنت مقتنعاً أنني سألتقي بها» ص 111.
تأخذ سوسو مساحة كبيرة في الرواية، تنتهي في الفصل قبل الأخير بعودة غامضة لها إلى الخرطوم، ليسدل ستاراً على مصيرها، بعد تفاصيل رحلة نجاح مطردة مع الأكروبات في الصين صحبة عمر الأزرق، لكن القارئ سيكمل مغزى بداية قصة سوسو في أول الراوية؛ بما يفسر له نجاح قصتها المبتورة في نهايتها لغرض أراده الراوي العليم؛ حين كسر تسلسل الأحداث وختم الرواية بتلك النهاية المفتوحة،
تحكي سوسو حيواتها في السودان عبر استغراق ذاتي لسيرة مغتربة. فوطأة الزمن الدائري على عالم البيت في سبعينات القرن الماضي، بعد وفاة والدتها، جعل من طبيعة العلاقة مع والدها (أستاذ سياسات الشرق الأوسط بالجامعة العبرية فيما بعد) مشوبة بالتمرد. تحاصرها العزلة، لكن من غير أفق للحياة فيما هي في مرحلة مراهقة وانطلاق، «فأن تكوني صبية جميلة ومتحررة في أسرة تحاصرك بالعزلة يبدو ذلك صعباً جداً وقاسياً» ص 10.
في السبعينات، حين كان السودان منفتحاً اجتماعياً، كانت بدايات الانهيار تتكشف مع نظام الجنرال نميري الذي انقلب على السلطة في نهاية عقد الستينات، وألغى الحياة الديمقراطية بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964، ومع قرارات التأميم الاشتراكي للمؤسسات الخاصة، كان والد سوسو، رغم اندماجه في المجتمع كأحد أثرياء الخرطوم، من ضحايا ذلك النظام، لكنه لم يفقد الأمل متوسماً في ابنته الوحيدة سوسو أن تتخرج مهندسة ليستعيد ما فقده بقرار تأميم الممتلكات. وإن كان باروخ، في قرارة نفسه، يحدس بأن ذلك التغيير المفاجئ لحياة الخرطوم هو بداية لانهيار كبير في مصير المدينة:
«هذه المدينة نسيج بدأ يفقد رونقه، روعته الأولى... ترهل هذا النسيج... السودان القديم الذي تركه الإنجليز بدأ يغيب تماماً ونظام الألفة لم يعد هو» ص 40. ورغم الحالة المنسية في المجتمع الإسرائيلي العام لأفراد اليهود السودانيين، فإن الحساسية والاحتياط في دفن حيواتهم القديمة في السودان، ظل هاجساً. في حين بدا ذلك عسيراً على باروخ الذي تشرب الحياة السودانية إلى درجة التماهي. كانت الحياة السودانية لباروخ جزءاً من هويته التي أحبها، ولتأكيد هذه العلاقة الحميمة، يدرج عماد البليك إشارة تاريخية في أحداث الرواية عن فنان سوداني معروف (الموسيقار عبد الكريم الكابلي) بوصفه أحد أصدقاء باروخ المقربين.
يبدو عقد السبعينات واضحاً في نسيج الرواية المتصل برصد يوميات الحياة المنطلقة في الخرطوم؛ ماركات السيارات الإنجليزية، الأندية الليلية، بنات الهوى في شارع الجمهورية، والسمت البيروقراطي لهوية كبار الموظفين الذين يتسكعون ليلاً في شارع الجمهورية بسيارات مرسيدس فارهة؛ ذلك ما ترصده ذاكرة سوسو في فندق «دان بانوراما» في حين تطل على تلك الحياة من خلال شرفة المنزل التي ولدت فيه بشارع الجمهورية.
تعكس الرواية تصميماً مقصوداً لمعنى التيه كحالة مضاعفة أو مزدوجة. وهي حالة لا تنطبق إلا على يهود السودان الذين كان تعدادهم 1000 يهودي، في حين تجاوز تعدادهم في بعض دول العالم العربي كالمغرب 270 ألفاً.
في ختام الرواية، يتساءل المؤلف: «يهود السودان الذين تفرقوا في الأرض، أغلبهم باتوا ناجحين في مناصبهم الجديدة... هل فقدهم أم فقدوه؟» ص 250.
وإزاء سؤال كبير كهذا، ينهض سؤال آخر حيال الشروط التي حكمت منطق التفسير السياسي العدمي للأنظمة العروبية في الخمسينات؛ باتخاذها قرار عمليات تهجير اليهود من بلدانهم العربية (بعد أن ظلوا في بعض تلك البلدان لأكثر من ألف سنة) ـ وما إذا كانت تلك العمليات قائمة على منطق أو سوية موضوعية.
ذلك أن إلغاء حيوات مواطنين وإهدار تاريخهم الاجتماعي فقط بحجة مواجهة احتلال إسرائيلي غربي - وفقط، بحسبان أولئك المواطنين اليهود «صهاينة محتملين» وفق ذلك المنطق العدمي الأعمى؛ هو الذي جعل اغتراب اليهود السودانيين بخاصة اغتراباً مضاعفاً. فعبارة «أنا سوداني أكتر منكم» التي لطالما رددها اليهودي السوداني «جولدمان»، كلما شك بعض السودانيين في سودانيته (بسبب بشرته البيضاء) كانت كاشفة في دلالتها الحارقة على الانتماء إلى السودان.
هناك خيوط للواقع متذررة في ثنايا النص المتخيل للرواية، فالواقع يحضر هنا في أكثر من قصة، لكن حين أدرج المؤلف، في ثنايا نصه الروائي، اسماً لشخصية واقعية لا تزال على قيد الحياة (الفنان السوداني الكبير عبد الكريم الكابلي الذي يعيش في أميركا اليوم، وكان قد صرح مؤخراً بأن له جذوراً يهودية) كان يشي بكثير من تكرار تذكر الأسى الذي يمكن أن يتخيله الفرد حين يتعين عليه إخفاء هويته، فقط لكونه مختلفاً لوناً أو ديناً، كما يشي بعجز الآيديولوجيا عن تعميم رواياتها الرسمية مهما اشتغلت على ذلك بقوة السلاح، وأن الأصول هي الأصول ولن تتغير.



عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي
TT

عبد الزهرة زكي: الكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر

عبد الزهرة زكي
عبد الزهرة زكي

«غريزة الطير» رواية للشاعر العراقي عبد الزهرة زكي، صدرت أخيراً في بغداد، ولاقت احتفاءً نقدياً ملحوظاً، وهي الرواية الأولى له بعد صدور مجموعته الشعرية الكاملة، وإسهامه على مدى أربعين عاماً في المشهد الشعري العراقي.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة وتجربته الروائية:

> أنت شاعر مكرس، ولك حضور مهم في راهن الشعر العراقي. وأخيراً فاجأت القراء والنقاد برواية جديرة بالوقوف عندها، ما الذي دفع بك إلى ذلك؟

- الشعر، أتوقع الشعرَ وليس سواه، هو ما دفع بي إلى الرواية، أو بتعبير آخر هو ما ألجأني إلى السرد، وكان سرداً روائياً. للشعر فضائل كثيرة على مَن يقيم فيه، والكتابة السردية هبة هداني إليها الشعر حين فتح لي أفقاً آخر في الكتابة، وهو أفق الكتابة الروائية.

منذ أكثر من عشرين عاماً كان الشعر يستدعي مني، من خلال ما كتبت من دواوين، اعتماد تقنيات «السرد الشعري» في كتابة الكثير من نصوص تلك الدواوين، حتى تكرّس هذا بشكل خاص في ديوان «شريط صامت»، وهو ديوان مكرس تماماً لرؤية الحياة في ظروف الحرب والعنف التي عاشها العراقيون، ثم ما تلاه من دواوين.

لكن الشعر، في جانبٍ مهم من صيانيته، عادة ما يحصّن نفسه من الانسحاق، ومن مواراة هويته، وذلك كلما كان بصدد الانفتاح على السرد وسواه، بهذا كنت أميّز بين السرد، كما هو في مواطنه بالرواية والقصة القصيرة وسواهما من فنون السرد النثري، وبين الطابع الخاص، التقني والبلاغي والتخييلي، لما سميته قبل قليل بـ«السرد الشعري».

بهذا، وفي موازاة اندفاعي باعتماد السرد في الشعر، كانت كتابتي في النثر تنمّي قدراتها حتى صار السرد في أحيان كثيرة من مستلزمات كتابتي المقالة، وحتى بعد ذلك حين أنجزت كتاب «واقف في الظلام»، وهو كتاب أقرب إلى السيرة الشخصية ممتزجة بسيرة مجتمع خلال سنوات أواخر القرن الماضي، وحتى كتابتي بعد ذلك «طريق لا يسع إلا فرداً»، وهذا كما تعرف كتاب نظري في الفكر الشعري. كلا الكتابين كانا يعتمدان بشكل أساس على الإفادة من السرد. لقد عدّ بعض النقاد والقراء كتاب «واقف في الظلام» رواية سيرية، وهذا ما لم أكن مخططاً له، لكني كنت خلال العشرين عاماً الأخيرة أروي الأفكار والرؤى والوقائع، والقصائد أيضاً كحكايا، كوقائع سيرة للأفكار والأحداث.

> لم تشر، في هذا السياق والاستذكار، إلى كتابك الأخير «في نبض العالم»، وهو كتاب مكرس بالكامل عن الحياة في العمى، لقد امتزج فيه السرد بالشعر بشكل حاد، أعتقد أنه حمل عنواناً فرعياً تصف به نصوصه على أنها «سيرة الأعمى، وقد رأى كل شيء»...

- نعم، هذا الكتاب ما كدت أكمله، وقد استغرق مني عاماً، حتى وجدته يسلمني مباشرة إلى كتابة الرواية، «غريزة الطير».

> تريد أن تقول إن الرواية كانت بوحي من هذا الكتاب؟

- لا، أبداً... لكن كتاب «في نبض العالم» كان قد مضى بي إلى السرد، إلى أقصى ما مضيت به في السرد، لقد خرجت منه وأنا مشبع بروح السرد وطاقته.

في الحقيقة بقيت سنوات طويلة كنت آملاً خلالها أن أكتب رواية، ولم أستطع ذلك، لم أجرب، لم أحاول. فجأة وجدتني أكتب وأستمر أكتب بلا انقطاع. كنت أشعر أني ممتلئ بطاقة كبيرة على السرد، كما لو أن سنوات التمني كانت خزانة ملؤها تلك الطاقة، لقد انفتحت الخزانة ومعها تدفقت كتابة السرد.

> كيف حصل هذا؟

- الحكمة التي خرجت بها تفيد ألا تقسر نفسك على الكتابة إن استعصت، ولا تتمنّع عليها إن أقبلت.

هذا ما يحصل عادة في كتابة الشعر، وأجد أنه قابل للتعميم على أي كتابة جادة ومنطلقة من دافع حقيقي.

> قوبلت «غريزة الطير» باستحسان من قبل النقاد والكتّاب، هل ستكون نقطة افتراق عن الشعر، خصوصاً أنك أصدرت كتاب «الأعمال الشعرية» بعد فترة قصيرة على صدور الرواية؟

- لا، لماذا نعتقد أنه لا تعايش ما بين الأجناس المتنوعة في الكتابة والفن؟ لماذا نعتقد ألا ينهض جنس كتابي لدى كاتب إلا على دفن جنس آخر؟ نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر. وواقعاً حتى من دون الانشغال بالرواية من الممكن عدم الإقبال على كتابة الشعر، والعكس صحيح أيضاً. لا مشكلة في ذلك ما دامت الكتابة تعبيراً عن حاجة، تكفُّ الحاجات ربما فتكفّ معها الرغبة بالكتابة، سواء في الشعر أو في سواه.

> ولكن كلما فكّر شاعر بكتابة رواية فغالباً ما يقال إن اللجوء للرواية نتاج للإحساس بإزاحتها الشعرَ من عرشه، خاصة مع تطور هذا الفن «أعني الرواية» في العراق، في العقدين الأخيرين؟

- كلانا كما أعتقد نتحدث هنا عن الأدب الجاد، عن الكتابة الجادة. وإزاء جدية الحياة في الكتابة، شعراً أو رواية، لا أعتقد أن التنافس ما بينهما انتحاري، أي لا يقوم فن إلا بنحره فناً آخر.

نحن نحيا في عالم مستمر بتغيراته السريعة، تغيرات تلقي بظلالها على كل شيء... فرص الإمتاع تتنوع، بما يدفع بملايين البشر إلى أن ينشغلوا باهتمامات قد لا تطرأ في بالنا.

لا ينبغي لنا، نحن بشر هذه السنوات، أن نتأسى على بشر المستقبل لافتقادهم ما نراه الآن ضرورة لا تستقيم الحياة من دونها.

الشعر والأدب والفن عموماً يجري إنتاجها استجابة لحاجات منتجيها أولاً وإن انتفت حاجة المحتاجين لهذا الإنتاج مستقبلاً فلا ضير في ذلك.

أكتب الشعر كحاجة شخصية، وكتبت الرواية كاستجابة لحاجة أخرى مقابلة. في الحالين كنت أتنفّس متعتي الوجدانية والذهنية، وبالتالي فلا أقف كثيراً عند من سيبقى أو سيموت من الفنون والآداب.

> ما زلت بصدد الصلة ما بين الشعر والسرد... لكن بدا لي أثناء قراءتي الرواية أنك كنت حذراً من الوقوع في أسر الشعر بلغتك، فاعتمدت لغة واضحة، أتساءل: ما إذا كان ذلك بسبب واقعية الكثير من أحداث الرواية؟

- فعلاً كانت هذه مشكلة أثناء الكتابة. ليس من اليسير أن تعرف أنك، كشاعر، ما زلت مستمراً بلغة الشعر فيما أنت تكتب رواية. هذه مشكلة كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية، وهي أيضاً مشكلة كاتب الرواية غير الشاعر حين يريد «تزيين» لغة الرواية ببلاغة شعرية، هذه بلاغة غالباً ما تكون فجّة لمجيئها خارج سياقها المألوف.

سوى هذا التعمد هنالك اللاوعي، فبعد سنوات طويلة من كتابة الشعر تأخذ بلاغة اللغة الشعرية فرصها للعمل والظهور في الكتابة النثرية بتلقائية دونما وعي من الشاعر.

قد تساعد الخبرة الصحافية، لكاتب مثلي، في ضبط اندفاع لغة الشعر، لكن الكتابة الصحافية شأن آخر. ففي الرواية يكون الكاتب أمام وضع آخر لا صلة له بلغة الصحافة، إنه أمام رواية، وهي نص أدبي، تحتاج بلاغة أدبية نثرية، وهذا ما يضاعف مسؤولية الكتابة في نص أدبي روائي. كان خياري أن أرجئ التفكير في هذه المشكلة لما بعد الانتهاء من الرواية، وفعلاً قمت بأكثر من مراجعة لها، كنت أسعى خلالها لاصطياد أي أثر بلاغي شعري جاء في غير محلّه، وبالمقابل عملت على تنمية البلاغة النثرية الأدبية في نص الرواية. في كل حال هي مهمة ليست باليسيرة لكنها لم تكن مستحيلة، وكان لصبري على الرواية أثر مهم في هذا الجانب.

> هل كنت متعمداً تناص عنوان الراوية، «غريزة الطير»، بشكل أو بآخر مع «منطق الطير» لفريد الدين العطار، خاصة أن هناك تماثلاً بينهما في الثيمة المركزية، كما تتجلى سردياً في الرواية، مما يوحي بأنها نص موازٍ؟

- حقيقة لم أكن أفكر بهذا، لقد جاء هذا العنوان «غريزة الطير» متأخراً بعد إنجاز مراجعتها وبعد أكثر من عنوان لم تصمد جميعها أمام تبرّمي منها لحين ما استقررت على العنوان الأخير، وهو مستلّ من متن الرواية.

أعتقد أن اهتمامات «غريزة الطير» كانت أرضية، وثيقة الصلة والانشداد إلى حياة أفراد ومجتمع ومدينة بخلاف ما عني به كتاب «منطق الطير» من اهتمامات متعالية. الطير يتعالى في كتاب فريد الدين بينما طائر الرواية أوّاب منشدّ إلى مدينته وأرضه.

في كل حال، لا أدري، ربما يجد قارئ ما يمكن أن يؤكد الصلة التناصية التي تشير إليها ما بين الكتابين.

> إلى أي مدى ظلت «غريزة الطير» تتحدث عن إشكالية الهوية الاجتماعية، وعلاقتها بالآخر الذي يقاسمها المكان، والوجود، من خلال الشخصيات التي أرى أنها استحدثت بقصدية واضحة؟

-ـ كنت منشغلاً في الرواية، بجانب أساس منها، بمصائر الأرستقراطية الوطنية العراقية، التي نشأت في أربعينات وخمسينات القرن العشرين وبدأت بالاندحار ما بعد ذلك. الأب سليمان زيني كان عضواً فاعلاً، في شبابه بالبصرة، بالحزب الوطني الديمقراطي، وكنت أرى فيه معبّراً إلى حدٍّ ما عن مصير الليبرالية العراقية، وهذا جانب من سيرورة المجتمع لم يحظَ باهتمام يذكر سواء في الأدب أو الفكر السياسي.

نحن بشر بأرواح ووجدان في تغير مستمر، والحاجات هي، لا نحن، التي تستدعي تقديم فن كتابي حيناً وتأخير آخر

> الشخصية المحورية آدم زيني، تقدمه بوصفه المرشد والحكيم، فالجميع يخطب وده وينشد حمايته، حتى (الأب) سليمان زيني يقول عنه: «هو معلمي»، هل هناك قصدية ما في بناء هذه الشخصية، أم هو اعتراف، وانحياز منك، لحكمة ودراية الآخر ذي النسب الإنجليزي؟

- سعيت كثيراً من أجل أن أضمن لشخصيات الرواية حريتها، استقلاليتها عني. من هنا تمتع آدم بقدر وافٍ من الحرية التي جعلت منه شخصاً يبدو مستقراً آناً ومضطرباً في آنٍ آخر. كل شيء واضح في ذهنه، لكن التعبير عن كل شيء يظل بالنسبة له غير ممكن وغير واضح وحتى ملتبساً بالنسبة للآخرين.

لا أستطيع هنا التحدث عن شخصية مثل شخصية آدم. ثمة الكثير لم تقله الرواية، وهو مما ظل يعتمل في دخيلة آدم، وبعض هذا الكثير يستعصي فهمه وإدراكه علي أنا المؤلف الذي متّع شخصيات روايته بحريتها واستقلالها عنه. لم يكن هذا خللاً في البناء الروائي، إنما هو تعبير صامت عن طبيعة شخصية آدم، وهي طبيعة كتوم.

شخصية آدم هي من نسج جهده الشخصي في أغلب طباعها. بالتأكيد هو وَرِثَ جانباً من خصال أمه، المحافظة الإنجليزية وبعضاً من طبائع أبيه الليبرالي العراقي، لكن آدم ظل ماهراً في صنع شخصيته كما أرادها هو وحرص عليها.

> حكاية (جاسم السماك)، وهو شخصية ثانوية في الرواية، حول رؤيته رفض الكلاب نهش جثث القتلى عام 1991. هل ترى ذلك إحالة واضحة للواقعية السحرية، والتي يرى الكثير من النقاد التأثر الواضح للروائيين العراقيين بها؟

- حكاية جاسم حقيقية، روى لي صديق بصري واقعتها. في أحيانٍ كثيرة كان واقعنا أغرب من الخيال. ثمة الكثير من الكنوز السوداء التي ينبغي للأدب أن يخرجها من خزائن الألم العراقي، ما زال أدبنا زاهداً بهذه الكنوز.

> قبل أن أودعك، هل من رواية أخرى؟

- أنجزت بشكل أولي رواية قصيرة «السيدة مفسّرة الأحلام»، أبقيتُها بعيدة عني منذ أسبوعين، ربما أحتاج إلى أسبوع آخر لأعود بعده إليها بهدف المراجعة قبل دفعها للنشر.