قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

يدخل جولة انتخابات الرئاسة الثانية الحاسمة مدعوماً بتأييد معظم منافسيه السابقين

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها
TT

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

صدمت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية غالبية المراقبين وصنّاع القرار داخل تونس وخارجها، بعدما احتل المرتبة الأولى المرشح قيس سعيّد، المثقف والحقوقي المستقل عن كل الأحزاب و«اللوبيات» السياسية والمالية والجهوية. ولقد وصفت وسائل الإعلام، وكذلك شخصيات تونسية بارزة، تصدُّر سعيّد الجولة الأولى بـ«الصاعقة» و«الزلزال» لأن حظوظه وافرة جداً في كسب الدورة الثانية من الانتخابات التي يتنافس فيها مع رجل الأعمال الموقوف في السجن نبيل القروي. وللعلم، أزاح سعيّد والقروي من السباق 24 مرشحاً، بينهم مَن أنفقوا أموالاً طائلة في حملاتهم الانتخابية داخل البلاد وخارجها، بينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة، ورئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي، وعبد الفتاح مورو رئيس البرلمان القيادي في «حركة النهضة»، والوزير السابق زعيم حزب «مشروع تونس» محسن مرزوق، وزعيمة الحزب الدستوري عبير موسي...
فمن هو قيس سعيّد الذي أعلن معظم منافسيه في الدور الأول وأحزابهم دعمه في الدور الثاني رغم انتقاداتهم السابقة له؟ ولماذا نال ثقة عشرات الآلاف من المتطوّعين الشباب والنساء والمثقفين المستقلين؟
عرفت أجيال من طلاب الجامعة التونسية، منذ أكثر من 30 سنة، قيس سعيّد مدرّساً «جدّياً جداً» وخلوقاً ومتواضعاً، لا يتغيب أحد عن دروسه التي يعشقون فيها عمقه وفصاحته باللغتين العربية والفرنسية، وتمضيته ساعات أسبوعياً معهم للرد على أسئلتهم وتوجيههم منهجياً... في مكتبة كلية الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية وقاعات محاضراتها، ثم في المقهى التابع لها.

نظافة يد وعمق معرفي
ولد قيس سعيّد عام 1958 في العاصمة التونسية تونس لعائلة شعبية تنحدر من بلدة بني خيار، في محافظة نابل بمنطقة الوطن القبلي الزراعية والسياحية، على بعد 80 كلم جنوب شرقي العاصمة. ولقد برز من بين عائلة سعيّد عدد من القضاة وكبار المثقفين والنشطاء السياسيين والمسؤولين، بينهم شقيقه المحامي والأستاذ الجامعي في العلوم السياسية والقانونية نوفل سعيّد، ومفتي الديار التونسية السابق الشيخ حمدة سعيّد.
يكتشف كل من واكب الشعبية الكبيرة التي حصل عليها قيس سعيّد، المثقف والإنسان، في المواقع الاجتماعية منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 أن المعجبات والمعجبين بشخصيته والمطالبين منذ سنوات بتكليفه مسؤولية عليا في الدولة «ليحارب معهم الفساد» يقدّرون تواضعه ونظافة يديه وعمقه المعرفي ونقده اللاذع للفساد والرشوة ومنظومة الاستبداد كاملة.
كذلك، ينوّه هؤلاء بوقوفه على مسافة واحدة تقريباً من كل التيارات الفكرية والسياسية والحزبية؛ ما جعله يكتسب مصداقية عند انتقاده ثغرات «دستور 2014» وغلطات السياسة وصنّاع القرار والأحزاب، مع نأيه في الوقت نفسه عن كل أنواع السبّ والشتم أو التزلّف والنفاق.
ولقد شهد كبار أساتذة المدرّس الشاب قيس سعيّد وزملاؤه مثل عياض بن عاشور، وعبد الفتاح عمر، والصادق بلعيد، وهيكل بن محفوظ، وفرحات الحرشاني، ورافع بن عاشور بما تميّز به سعيّد منذ التحاقه بأسرة الأساتذة في جامعة الوسط في سوسة عام 1986، ثم في جامعة قرطاج في العاصمة عام 1994، من جدّية وإقبال على الدراسات والأبحاث التي تربط بين إصلاح نظام الحكم في البلاد ومحاربة الفساد والاستبداد بتعديل القوانين والدستور. وحقاً، أهّله هذا الإقبال ليصبح عضواً ثم نائباً لرئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري، ويبرز ناشطاً في المجتمع المدني من أجل تغيير النظام السياسي عبر بوّابة تغيير القوانين و«دستور 1959».
ورغم إحجام سعيّد عن الانخراط في منظومة الحكم قبل 2011 وبعدها، ساهمت دراساته وكتاباته ومحاضراته القانونية السياسية في أن تصنع منه شخصية عمومية لها حضورها في وسائل الإعلام الجدية والمؤسسات الثقافية والعلمية والسياسية النخبوية. أيضاً، برز سعيّد خصوصاً بمقترحاته وحول عدد من مشاريع الانتقال الديمقراطي، واستبدال فصول «الزجر والردع» في القوانين المنظمّة للشأن العام والعلاقة بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية تحرّرية وديمقراطية.

«ثورة الصندوق»
من جهة أخرى، تحرّك تيار من المُعجبات والمُعجبين بقيس سعيّد عشية انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2014 لترشيحه الانتخابات، لكنه اعتذر، واتفق معهم على ألا يشارك فيها لامتناعهم عن انتقاد كامل المشهد السياسي وقتها ودور «لوبيات» المال والإعلام فيها.
بل، واعترف سعيّد للصحافيين بأنه لم يشارك سابقاً في أي عملية اقتراع. وشاءت الأقدار، قبل أيام، أن يشارك في انتخابات 2019 لأول مرة ناخباً ومرشحاً، ثم أن يكون الفائز الأول في الدور الأول... والأوفر حظاً بالفوز في الدور الثاني بعدما أعلنت غالبية القوى السياسية دعمه ضد منافسه نبيل القروي.
سعيّد برّر موافقته هذا العام على الاقتراع والترشح للرئاسة بقناعة تولّدت لديه بعد حوارات استمرت لسنوات مع عدد من أصدقائه والمعجبين به ممن صاغ معهم مشروعاً شاملاً لإصلاح الحياة السياسية. يبدو أن هؤلاء اعتبروا أنه قابل للتطبيق إذا انتصرت «ثورة الصندوق»، أي صندوق الاقتراع، بما سيفتح أبواب التفاؤل أمام ملايين الشباب العاطل عن العمل والمهمّش... والفقراء والمثقفين وضحايا الرشوة والاستبداد.
وكانت كلمة السر في تصريحات سعيّد بعد الإعلان عن نتائج الدور الأول من انتخابات 15 سبتمبر (أيلول) هي نجاح «ثورة الصندوق» في إعادة الاعتبار لشعار شباب الثورة في 2011 الذي وضعه شعاراً لحملته الانتخابية «الشعب يريد»، أي يريد تغيير النظام وإصلاح أوضاعه.

من الجامعة إلى مخيمات «شباب الثورة»
هذا، وفي حين يعتبر البعض قيس سعيّد «صندوقاً أسود» و«شخصية غامضة ومجهولة»؛ لأنه من أكثر الخبراء والحقوقيين حرصاً على الابتعاد عن الأضواء، فإن أنصاره من شباب المواقع الاجتماعية والجمعيات الحقوقية يروّجون حوله منذ أكثر من 8 سنوات نصوصاً وفيديوهات تبرزه في موقع المُصلِح حيناً والمصارع البطل في الحلبة حيناً آخر. ولا يخلو الأمر، كذلك، من التهجّم على الذين يسخرون منه لإصراره على استخدام اللغة العربية الفصحى بأسلوب خطابي ورفضه التكلّم باللهجة العاميّة التونسية.
ولكن بعد فترة غير قصيرة من التهكّم على سعيد وأنصاره بين «جيش» «فيسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر»...الخ، برزت قصة نجاح لأكاديمي «فقير» راتبه في حدود 700 دولار أميركي (1600 دينار تونسي) يمتلك سيارة صغيرة متواضعة وشقة أنجزها مع زوجته القاضية في محكمة العاصمة تونس.
أصبح قيس سعيّد من أبرز المتخصّصين في الدراسات القانونية والسياسية الأكاديمية، لكنه نزل من علياء الجامعة، وغادر أسوارها. وجرّب النضال الميداني من خلال زياراته للجهات المُهمَّشة والفقيرة ولمخيمات المعتصمين والمضربين من الشباب العاطل عن العمل في العاصمة تونس والمدن الداخلية الفقيرة، وخاصة في المحافظات التي اندلعت فيها الانتفاضة الشبابية والثورة الشعبية في أواخر 2010 ومطلع 2011 مثل سيدي بوزيد والقصرين والقيروان.
وعرف سعيّد مع ثلّة من المثقفين والحقوقيين القريبين من تيار اليسار المعتدل بالتقرب من «شباب الثورة» وتمضية ساعات معهم كل مرة تخصص للحوار والاستماع إلى مقترحاتهم للتغيير.
إلا أنه عشية انتخابات 15 سبتمبر اختار سعيّد ألا ينظم حملة انتخابية تقليدية وتجمّعات ضخمة تلقى فيها الخطابات، بل جلس ومجموعة من رفاقه مع عموم الناس في الأسواق والساحات العامة والمقاهي للاستماع إلى مشاغلهم ومطالبهم ومقترحاتهم.

تجارب مع اليسار «الراديكالي»
وكان من بين مفاجآت سعيّد أنه، مثلما أوضح بنفسه، رفضه التمويل الذي تمنحه الدولة للمرشّحين والعروض المالية لرجال الأعمال، كما امتنع عن المشاركة في معظم الحوارات التلفزيونية والإذاعية. وتبين لاحقاً أن بعض منافسيه البارزين خسروا عشرات الآلاف من الأصوات بسبب قبولهم إجراء حوارات في قنوات يتّهمها تيار شعبي كبير بالانحياز والرداءة، وبتوظيف إعلاميين ومنشطين من خريجي السجون بسبب ملفات فساد مالي كبيرة.
في حينه، انتقد بعض خصوم سعيّد سلوكه واتهموه بالانتماء إلى «التيار الفوضوي» وتقليد «الفوضويين» الأوروبيين الذي تمرّدوا على كل منظومات السلطة والمجتمع، إلا أن أصدقاء سعيّد وزملاءه وطلبته في الجامعة يفنّدون هذه التهمة. إذ يشير هؤلاء إلى أنه كان قريباً من التيار الطلابي اليساري عندما كان شاباً. بل كان أقرب إلى الزعماء اليساريين والنقابيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي التونسي وعن أنصار الزعيم الصيني ماو تسي تونغ... وتبنّوا أفكار «القادة البراغماتيين» في الصين الذين انتفضوا على «الماوية» داعين إلى الانفتاح على القيم الديمقراطية وتجاوز المقولات الدوغمائية السابقة.
وبالفعل، كانت حصيلة هذه التجربة، أن أسند قيس سعيّد رئاسة فريق حملته الانتخابية لأحد زعماء اليسار الطلابي السابقين، ورفاقه في الجامعة قبل 35 سنة، رضا شهاب المكي الذي عُرف وقتها باسم «رضا لينين» نسبة إلى زعيم الثورة البلشفية الماركسية اللينينية في أكتوبر1917، لكن المعروف عن سعيّد أنه كان طوال العقود الماضية أبعد ما يكون عن الماركسية وعن مواقف لينين، لدى اقترابه من التيار الديمقراطي الاجتماعي الذي يطالب بالإصلاح والتغيير، مع التأكيد على شعارات التحرّر الوطني اقتصادياً وثقافياً، وعلى الاعتزاز بالثقافة العربية الإسلامية.

ليبرالي سياسياً
واستطراداً، حرص سعيّد على تثبيت استقلاليته السياسية والحزبية خلال مشاركاته في مهمات علمية وقانونية في تونس، وفي القاهرة مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وفي عدد من العواصم الأوروبية. وأغضب ذلك المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم، وخاصة عامَي 2001 و2002، عندما انتقد في سلسلة حوارات نظمتها صحيفة «الصباح» التونسية مع خبراء في العلوم السياسية حول مشروع الاستفتاء العام الذي تقدّمت به السلطات لتعديل الدستور. وكان الهدف السماح بترشّح الرئيس زين العابدين بن علي لدورة جديدة وإلغاء شرط منع البقاء في الحكم أكثر من 15 سنة.
وتميّز سعيّد بانتقاداته للمشروع الحكومي الذي وعد بانتقال تونس من «الجمهورية الأولى» إلى «الجمهورية الثانية»، ورد عليه متهكماً بجملة شهيرة «تونس لن تنتقل من الجمهورية الأولى الجمهورية الثانية، بل إلى الجمهورية الأولى مكرّر».
المصطلح نفسه استخدمه سعيّد بعد ثورة يناير 2011 والمصادقة على «دستور 2014»، وعودة الحديث عن «جمهورية جديدة» و«جمهورية ثانية» فقال «إنها جمهورية عدد واحد مكرّر»، وانتقد انتهاكات السياسيين في الحكم والبرلمان لروح الدستور والقانون وتبادلهم الترضيات السياسية. ولعله، اكتسب جانباً كبيراً من شعبيته بسبب تلك الانتقادات التي وجد فيها المعارضون والشباب به «زعيماً جريئاً».

حداثي... أنصاره من النساء والشباب
في هذه الأثناء، وظّف خصوم سعيّد ماضيه اليساري الظرفي، عندما كان طالباً، ثم دفاعه عن الهوية العربية الإسلامية واستشهاده ببعض الآيات القرآنية، ولا سيما المتصلة بالإرث منها، ليتهموه حيناً باليسراوية وحيناً آخر بالسلفية والتحالف مع المتشدّدين دينياً. لكن سعيّد والمقربين منه فنّدوا دوماً تلك الاتهامات. وجاء رد سعيّد تعقيباً على الحملات التي تستهدفه بتأكيد عراقة مواقفه الحداثية والوسطية ورفض التطرف بأنواعه. كذلك، ردّ المتطوّعون من أنصاره على تلك الحملات بنشر صورة نادرة التقطها الصحافيون له مع زوجته القاضية إشراف شبيل التي ظهرت إلى جانبه بلباس أوروبي أنيق لأول مرة يوم الاقتراع في مدرسة ابتدائية عمومية بالقرب من مسكن أسرته في حي النصر بأريانة (ضواحي تونس العاصمة) حيث درس أبناؤهما الثلاثة.
ولقد نوهت كلثوم كنو، القاضية اليسارية المعارضة والرئيسة السابقة لجمعية القضاة، بسمعة زوجة سعيّد وهي مستشارة في محكمة الاستئناف في العاصمة تونس ونائبة رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.
ختاماً، هل يكون قيس سعيّد بعد الجولة الثانية الحاسمة للانتخابات الرئاسية التونسية أول رئيس تونسي «صنعه الشباب وأبناء الطبقات الشعبية» من المتمردين على الأحزاب والطبقة السياسية التقليدية؟ وهل تصبح القاضية إشراف شبيل «سيدة تونس الأولى» بعدما كانت بدورها مغمورة بين مكاتب المحاكم؟



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.