الشعر العربي والمشهد الثقافي المتحول

كثيرون يحاولون الاقتراب من ناره وتفسير معضلته في هذا العصر الصعب

من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
TT

الشعر العربي والمشهد الثقافي المتحول

من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ

- هل أنت بخير يا سيدي الشعر؟
نسأل الشعر العربي المستلقي على سرير الإنعاش، ونحن نجسّ نبضه، فيرد بصوت متهدج ببيت لعنترة بن شداد...
وما ثنى الدهرُ عزمي عن مهاجمة
وخوض معمعة في السهل والجبل
فيبتسم الحضور... ابتسامات مختلفة متضاربة المعنى.
كيف له أن يكون بخير في هذا العصر، وقد تغير كل شيء بعد ما يزيد أو ينقص عن ألف وخمسمائة عام، في عصر القيم النفعية الجديدة وأفكار الرأسمالية والذاكرة الاصطناعية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا والأدب الإلكتروني؟! كيف له أن يكون بخير، وقد تحول كل شيء حول القافية، وارتبك الوزن والتوازن القديمان، ولم يعد التفاعل يجدي مع الفاعلات والمتفاعلن...كيف؟ حتى إن الأرض لم تعد مركز الكون، والحقيقة أنها تدور حول نفسها، وأنها كوكب مظلم يستمد نوره من نجم آخر يدور حوله، يستجديه القليل من نوره، وأنها ليست بثابتة ألبتة، فكيف للذي يعيش فوقها أن يبقى ثابتاً لعدة قرون؟ كيف لا يصيبه الدوار؟!
لكننا مع ذلك نصرّ على أن يقوم السيد «الشعر» بسلام، لأننا في حاجة إليه، لأننا جزء من قاطني هذه البسيطة التي لم تعد بسيطة أبداً، ونعيش درامية أفدح مما جاء في أول نص شعري بشري تركه لنا غلغامش، بل ستظل الإنسانية، إن هي «نفذت» من خطر العدم، في حاجة إلى الشعر، إلى اليوتوبيا L’utopie سواء على الأرض أم على الكواكب التي ستعمرها في «المستقبل الغابر»، من الزمن الذي يجري ضاحكاً نحو هاويته. لا فكاك عن اليوتوبيا، فهي حقيقة الغد، على حد قول فيكتور هيغو.
ولأن مأساة الإنسان حاجته إلى الشعر، على حد قول سيغموند فرويد، فإن كثيرين يحاولون الاقتراب من ناره وتفسير معضلته في هذا العصر الصعب الذي نعيشه.
وأنا أتأمل في الإشكالية بدوري، تبدى لي أن هناك 3 مفاتيح أساسية لقراءة الشعر، كمكون ثقافي جمالي، في علاقته بعصره والوقوف على تأثره وتأثيره بطريقته الخاصة، في محيطه الثقافي المعاصر، الشاعر والقصيدة والمتلقي...
1 - الشاعر كحالة ثقافية وسيكولوجية ولغوية خاصة.
2 - القصيدة كفضاء لغوي ورموزي مرتبط بشبكة من المعطيات السوسيو ثقافية والتكنولوجية.
3 - القارئ بصفته أفق استقبال ثقافي متغير ومعرّضاً لقيم الاستهلاك الرأسمالي المتغير المتوحش والمعاصر، ولسيولة المعارف الهادرة القادمة من التكنولوجيا المتواترة.
منطلقاً من هذا التصور، تتأسس العملية الشعرية على 3 أقطاب فاعلة ومتفاعلة فيما بينها. إلا أن لكل قطب محيطه، وله خصوصيته. فالشاعر له ورشته الداخلية، التي تقوم على الثقافي والنفسي، وترتكز على الاجتهاد الجمالي، وللقصيدة لغة، وعلامات، ورأسمال من الرموز المعقدة، الفردية منها والجماعية. وأما المستقبِل أو القارئ فهو عالم يمثل أفق الانتظار، له أيضاً مناخه المتغير من وسط إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى.
العالم يعج بالأسئلة، ومنها ذلك الذي يتردد خفيضاً...
ما حاجتنا إلى الشاعر في مجتمعنا الذي تغير عن طواعية وعن غير طواعية؟ ما فائدته؟ فلم تعد القبيلة تحتاجه كناطق رسمي لها ولسانها الحادّ، بعد أن خطفت منه وزارات الداخلية مهمته العزيزة، وبهرجة التلفزيونات بوجوهها المليحة، ووزارات الخارجية بترساناتها الثقيلة، بسفرائها وقناصلها والقائمين بالأعمال.
فيم يفيد الشاعر، إذ لم يعد ذاك المؤرخ لتاريخ القبيلة والحافظ له في مجمل متنه الشعري، بعد أن «افتكّت» منه وظيفته المكتبات الوطنية والمتاحف، وفتحت أبوابها على العالم بتكنولوجيات معقدة؟ ثم إن السلطان لم يعد يحتاجه مادحاً أو ذامّاً لخصمه، بعد أن تشكلت أحزاب للموالاة بألسنتها المرئية والمسموعة؟
ماذا بقي للشاعر من وظيفة؟ هل سينقرض؟ لكنني أقول لأنني أومن بعمق أن الشعر مثل الورد الطبيعي، تكمن وظيفته السامية في «لا وظيفته». إننا نحتاج إلى الورد الحقيقي الطبيعي في حياتنا، على الرغم من توفر الورد الاصطناعي بكثرة. وإنه الشاعر. سيظل الصوت المنبه للمستقبل، ولمستوى درجات الحرية في حياة مجتمعاتنا، إنه حارس شجرة الحلم، فليس بمقدور أي وزارة «مكلفة بحراسة الحلم» أن تزيحه من منصبه الأبدي. سيظل حارساً يقظاً للحلم.
كيف يتجلى لنا حارس الحلم في زمننا هذا إذاً؟
إنه الشاعر... عالم معقد مشتبك مع نفسه أولاً، ومع العالم والوجود ثانياً، يراوح بين الوعي واللاوعي، لأن الشعر نفسه زواج الوعي باللاوعي، على رأي جان كوكتو.
نتساءل عن صورة الشاعر في المخيلة العربية بمقياس الماضي الثقافي والرمزي والاجتماعي، التي تتميز بجملة من الخصائص، ما فتئنا نتمسك بها، ولم نستطع أن نقطع حبل السّرة منها، حتى وهي تتفتت وتتفكك أمام عصر تكنولوجي متسارع الوتيرة في محيط ثقافي عنيف ومتداخل. فقد كانت صورة الشاعر حتى بداية الألفية الثانية هذه تتميز بما يلي...
صورة الشاعر المثقف المنفلت، المتحرر من قيود المجتمع، الشخصية التي لا تتقيد بنظام سلوكي معين. أو صورته كمثقف لا يعول عليه كثيراً. أو في صورة بملامح المثقف الذليل الواقف في ظل السلطان، الذي تطبق عليه عبارة «امنحه كيساً من الذهب أو الفضة يا غلام، فقد أحسن المدح»، أو في صورة لسان حال خطاب حزبي سياسي آيديولوجي محدد.
بين صورة المثقف المنفلت اجتماعياً القريب من حافة «الجنون»، والجنون بمعناه الهروب من تحمل المسؤولية، إلى «المطيع» الغارق في الخنوع، إلى الملتزم بخط آيديولوجي «أرتدوكسي» معين، تشكلت صورة الشاعر في الثقافة العربية بشكل عام، وإن كانت كل ميزة قد تطغى في مرحلة معينة أو في وضع اجتماعي وسياسي معين. وعلى الرغم من الانزياح الذي تتعرض له هذه الصورة يومياً داخل بنية المخيال العربي، فإنني أعتقد سوسيولوجيا أنها لا تزال قائمة حتى الآن، وإن بشكل من الأشكال. لَكَمْ ناضل الشاعر من أجل تغيير صورته في المخيال العام، وأعتقد أن المحيط أو الفضاء الثقافي والتكنولوجي المعاصر قد غيّر من طرق تدخل الشاعر في المجتمع، وبالتالي تغيرت علاقته مع الملتقي من جهة، ومع نصه أيضاً.
ثم إن هناك ظاهرة تعرفها الحياة الثقافية العربية، وهي هجرة الشعراء إلى الكتابة الروائية أو الممارسات النقدية الأكاديمية، وفي هذه النقلة التي تعتبر عادية وطبيعية في الثقافات العالمية الأخرى، تزحزحت ملامح صورة الشاعر في الوسط الثقافي وفي المحيط العام عندنا بشكل أقل.
لقد أصبح الشاعر أستاذاً جامعياً، يتدخل في البيداغوجي، ومنظّراً يستعمل برودة المناهج في التفكير والتحليل. كثرٌ هم، ولهم اجتهادات مهمة، بل وازنة في الفكر والفلسفة (الشهيد مهدي عامل، أدونيس)، وهذا الوضع قلص ملامح صورة الشاعر «المنفلت»، الذي ينطق عن الهوى. كما أن ممارسة الكتابة السردية انتماء لفضاء «الحكمة»، لأن الحكواتي السارد هو حامل للتاريخ وللدرس وللتجربة التاريخية، قلّلت أيضاً عملية ممارسة السرد من ملامح صورة الشاعر الذي «يتبعه الغاوون».
نعم... حدث تطور نوعي، وكان على الزمن كعامل «حتٍّ» قوي أن يحقق التغيير في العقليات، على الرغم من إخفاق تجارب عربية كثيرة عبر تاريخ الشعرية العربية، راهنت على الانفتاح على العالم، ومنهم التجربة الأليمة لشعراء الحداثة الأولى وانفتاحهم على تجربة الشاعر اليوناني ريتسوس الذي قال عنه أراغون... إنه أكبر شعراء عصرنا. أحياناً أقول... ليتهم وُجدوا في هذا الزمن لتسهل مهمتهم الجمالية.
- شاعرة وروائية جزائرية



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!