الشعر العربي والمشهد الثقافي المتحول

كثيرون يحاولون الاقتراب من ناره وتفسير معضلته في هذا العصر الصعب

من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
TT

الشعر العربي والمشهد الثقافي المتحول

من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ
من ألواح غلغامش... أقدم ملحمة شعرية في التاريخ

- هل أنت بخير يا سيدي الشعر؟
نسأل الشعر العربي المستلقي على سرير الإنعاش، ونحن نجسّ نبضه، فيرد بصوت متهدج ببيت لعنترة بن شداد...
وما ثنى الدهرُ عزمي عن مهاجمة
وخوض معمعة في السهل والجبل
فيبتسم الحضور... ابتسامات مختلفة متضاربة المعنى.
كيف له أن يكون بخير في هذا العصر، وقد تغير كل شيء بعد ما يزيد أو ينقص عن ألف وخمسمائة عام، في عصر القيم النفعية الجديدة وأفكار الرأسمالية والذاكرة الاصطناعية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا والأدب الإلكتروني؟! كيف له أن يكون بخير، وقد تحول كل شيء حول القافية، وارتبك الوزن والتوازن القديمان، ولم يعد التفاعل يجدي مع الفاعلات والمتفاعلن...كيف؟ حتى إن الأرض لم تعد مركز الكون، والحقيقة أنها تدور حول نفسها، وأنها كوكب مظلم يستمد نوره من نجم آخر يدور حوله، يستجديه القليل من نوره، وأنها ليست بثابتة ألبتة، فكيف للذي يعيش فوقها أن يبقى ثابتاً لعدة قرون؟ كيف لا يصيبه الدوار؟!
لكننا مع ذلك نصرّ على أن يقوم السيد «الشعر» بسلام، لأننا في حاجة إليه، لأننا جزء من قاطني هذه البسيطة التي لم تعد بسيطة أبداً، ونعيش درامية أفدح مما جاء في أول نص شعري بشري تركه لنا غلغامش، بل ستظل الإنسانية، إن هي «نفذت» من خطر العدم، في حاجة إلى الشعر، إلى اليوتوبيا L’utopie سواء على الأرض أم على الكواكب التي ستعمرها في «المستقبل الغابر»، من الزمن الذي يجري ضاحكاً نحو هاويته. لا فكاك عن اليوتوبيا، فهي حقيقة الغد، على حد قول فيكتور هيغو.
ولأن مأساة الإنسان حاجته إلى الشعر، على حد قول سيغموند فرويد، فإن كثيرين يحاولون الاقتراب من ناره وتفسير معضلته في هذا العصر الصعب الذي نعيشه.
وأنا أتأمل في الإشكالية بدوري، تبدى لي أن هناك 3 مفاتيح أساسية لقراءة الشعر، كمكون ثقافي جمالي، في علاقته بعصره والوقوف على تأثره وتأثيره بطريقته الخاصة، في محيطه الثقافي المعاصر، الشاعر والقصيدة والمتلقي...
1 - الشاعر كحالة ثقافية وسيكولوجية ولغوية خاصة.
2 - القصيدة كفضاء لغوي ورموزي مرتبط بشبكة من المعطيات السوسيو ثقافية والتكنولوجية.
3 - القارئ بصفته أفق استقبال ثقافي متغير ومعرّضاً لقيم الاستهلاك الرأسمالي المتغير المتوحش والمعاصر، ولسيولة المعارف الهادرة القادمة من التكنولوجيا المتواترة.
منطلقاً من هذا التصور، تتأسس العملية الشعرية على 3 أقطاب فاعلة ومتفاعلة فيما بينها. إلا أن لكل قطب محيطه، وله خصوصيته. فالشاعر له ورشته الداخلية، التي تقوم على الثقافي والنفسي، وترتكز على الاجتهاد الجمالي، وللقصيدة لغة، وعلامات، ورأسمال من الرموز المعقدة، الفردية منها والجماعية. وأما المستقبِل أو القارئ فهو عالم يمثل أفق الانتظار، له أيضاً مناخه المتغير من وسط إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى.
العالم يعج بالأسئلة، ومنها ذلك الذي يتردد خفيضاً...
ما حاجتنا إلى الشاعر في مجتمعنا الذي تغير عن طواعية وعن غير طواعية؟ ما فائدته؟ فلم تعد القبيلة تحتاجه كناطق رسمي لها ولسانها الحادّ، بعد أن خطفت منه وزارات الداخلية مهمته العزيزة، وبهرجة التلفزيونات بوجوهها المليحة، ووزارات الخارجية بترساناتها الثقيلة، بسفرائها وقناصلها والقائمين بالأعمال.
فيم يفيد الشاعر، إذ لم يعد ذاك المؤرخ لتاريخ القبيلة والحافظ له في مجمل متنه الشعري، بعد أن «افتكّت» منه وظيفته المكتبات الوطنية والمتاحف، وفتحت أبوابها على العالم بتكنولوجيات معقدة؟ ثم إن السلطان لم يعد يحتاجه مادحاً أو ذامّاً لخصمه، بعد أن تشكلت أحزاب للموالاة بألسنتها المرئية والمسموعة؟
ماذا بقي للشاعر من وظيفة؟ هل سينقرض؟ لكنني أقول لأنني أومن بعمق أن الشعر مثل الورد الطبيعي، تكمن وظيفته السامية في «لا وظيفته». إننا نحتاج إلى الورد الحقيقي الطبيعي في حياتنا، على الرغم من توفر الورد الاصطناعي بكثرة. وإنه الشاعر. سيظل الصوت المنبه للمستقبل، ولمستوى درجات الحرية في حياة مجتمعاتنا، إنه حارس شجرة الحلم، فليس بمقدور أي وزارة «مكلفة بحراسة الحلم» أن تزيحه من منصبه الأبدي. سيظل حارساً يقظاً للحلم.
كيف يتجلى لنا حارس الحلم في زمننا هذا إذاً؟
إنه الشاعر... عالم معقد مشتبك مع نفسه أولاً، ومع العالم والوجود ثانياً، يراوح بين الوعي واللاوعي، لأن الشعر نفسه زواج الوعي باللاوعي، على رأي جان كوكتو.
نتساءل عن صورة الشاعر في المخيلة العربية بمقياس الماضي الثقافي والرمزي والاجتماعي، التي تتميز بجملة من الخصائص، ما فتئنا نتمسك بها، ولم نستطع أن نقطع حبل السّرة منها، حتى وهي تتفتت وتتفكك أمام عصر تكنولوجي متسارع الوتيرة في محيط ثقافي عنيف ومتداخل. فقد كانت صورة الشاعر حتى بداية الألفية الثانية هذه تتميز بما يلي...
صورة الشاعر المثقف المنفلت، المتحرر من قيود المجتمع، الشخصية التي لا تتقيد بنظام سلوكي معين. أو صورته كمثقف لا يعول عليه كثيراً. أو في صورة بملامح المثقف الذليل الواقف في ظل السلطان، الذي تطبق عليه عبارة «امنحه كيساً من الذهب أو الفضة يا غلام، فقد أحسن المدح»، أو في صورة لسان حال خطاب حزبي سياسي آيديولوجي محدد.
بين صورة المثقف المنفلت اجتماعياً القريب من حافة «الجنون»، والجنون بمعناه الهروب من تحمل المسؤولية، إلى «المطيع» الغارق في الخنوع، إلى الملتزم بخط آيديولوجي «أرتدوكسي» معين، تشكلت صورة الشاعر في الثقافة العربية بشكل عام، وإن كانت كل ميزة قد تطغى في مرحلة معينة أو في وضع اجتماعي وسياسي معين. وعلى الرغم من الانزياح الذي تتعرض له هذه الصورة يومياً داخل بنية المخيال العربي، فإنني أعتقد سوسيولوجيا أنها لا تزال قائمة حتى الآن، وإن بشكل من الأشكال. لَكَمْ ناضل الشاعر من أجل تغيير صورته في المخيال العام، وأعتقد أن المحيط أو الفضاء الثقافي والتكنولوجي المعاصر قد غيّر من طرق تدخل الشاعر في المجتمع، وبالتالي تغيرت علاقته مع الملتقي من جهة، ومع نصه أيضاً.
ثم إن هناك ظاهرة تعرفها الحياة الثقافية العربية، وهي هجرة الشعراء إلى الكتابة الروائية أو الممارسات النقدية الأكاديمية، وفي هذه النقلة التي تعتبر عادية وطبيعية في الثقافات العالمية الأخرى، تزحزحت ملامح صورة الشاعر في الوسط الثقافي وفي المحيط العام عندنا بشكل أقل.
لقد أصبح الشاعر أستاذاً جامعياً، يتدخل في البيداغوجي، ومنظّراً يستعمل برودة المناهج في التفكير والتحليل. كثرٌ هم، ولهم اجتهادات مهمة، بل وازنة في الفكر والفلسفة (الشهيد مهدي عامل، أدونيس)، وهذا الوضع قلص ملامح صورة الشاعر «المنفلت»، الذي ينطق عن الهوى. كما أن ممارسة الكتابة السردية انتماء لفضاء «الحكمة»، لأن الحكواتي السارد هو حامل للتاريخ وللدرس وللتجربة التاريخية، قلّلت أيضاً عملية ممارسة السرد من ملامح صورة الشاعر الذي «يتبعه الغاوون».
نعم... حدث تطور نوعي، وكان على الزمن كعامل «حتٍّ» قوي أن يحقق التغيير في العقليات، على الرغم من إخفاق تجارب عربية كثيرة عبر تاريخ الشعرية العربية، راهنت على الانفتاح على العالم، ومنهم التجربة الأليمة لشعراء الحداثة الأولى وانفتاحهم على تجربة الشاعر اليوناني ريتسوس الذي قال عنه أراغون... إنه أكبر شعراء عصرنا. أحياناً أقول... ليتهم وُجدوا في هذا الزمن لتسهل مهمتهم الجمالية.
- شاعرة وروائية جزائرية



كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود
كمال داود

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة التي كان قد اقترب منها بشكل كبير بعد صدور روايته «مرسو التحقيق المضاد»، العمل الذي وضعه في دائرة الضوء في 2014 بعد أن نال استحسان النخب المثقفة حتى وُصف أسلوبه بـ«البارع والمميز» من قِبل منابر إعلامية مرموقة مثل «النيويورك تايمز».

في روايته الجديدة يُطلّ علينا الكاتب الجزائري بأسلوب أدبي مختلف بعيداً عن السرد الخيالي والأحاديث العفوية التي لمسناها في «مرسو»، فنصّ «الحوريات» مستوحى من الواقع وهو واقع مرّ كئيب، حيث اختار كمال داود تقليب المواجع والنبش في تاريخ الذكريات الدامية التي عاشها وطنه في حقبة التسعينات إبان ما سُمي بـ«العشرية السوداء»، فجاءت اللوحة سوداوية وكأن الجزائر أغنية حزينة وألم مزمن يسكن أعماق الكاتب.

كمال داود

الرواية تبدأ بمونولوج مطوّل لـ«فجر»، وهي فتاة في عقدها العشرين بقيت حبيسة ماضيها وحبالها الصوتية التي فقدتها بعد تعرضها لمحاولة ذبح. المونولوج يمر عبر مناجاة داخلية للجنين الذي تحمله، تخبره فيه عن معاناتها وذكرياتها وعن كفاحها من أجل التحرّر من سلطة الرجال. في الفقرة الثانية تقرر «فجر» العودة إلى مسقط رأسها بحثاً عن أشباحها وعن مبرر تنهي به حياة طفلتها حتى لا تولد في مجتمع ظالم، لتلتقي بعيسى بائع الكتب المتجوّل الذي يحمل جسده آثار الإرهاب وهوساً جنونياً بتوثيق مجازر العشرية السوداء بتواريخها وأماكن وقوعها وعدد ضحاياها. في رحلة العودة تغوص الرواية في جحيم الحرب الأهلية وذكريات الجرائم المروّعة، واضعة تحت أنظارنا مشاهد قاسية صعبة الاحتمال، كالمقطع الذي تستحضر فيه «فجر» ليلة الذبح الذي تعرضت له عائلتها، أو الفقرات التي تروي فيها شخصية «حمراء» ليلة اختطافها لتزوج قسراً وهي لا تزال طفلة. وهي نصوص لها وقعها النفسي إذا ما علمنا بأن الكاتب استوحى كتاباته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته مجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر، بينما كان يعمل صحافياً في يومية «لوكوتديان دو أورون» أو أسبوعية وهران.

وأشاد كثير من الأوساط بالقيمة الأدبية للرواية. صحيفة لوموند وصفتها بـ«القوة المذهلة» و«الشاعرية الغامضة». وأشادت صحيفة «لوفيغارو» بالسرد القوي المشحون بالصور الشعرية الصادمة والعواطف الجيّاشة التي تعبّر عن حجم المعاناة. صحيفة «ليبيراسيون» كتبت أنها رواية «أساسية، ومفيدة وشجاعة، وإذا وضعنا جانباً كونها مثقلة بالرموز فإن طاقتها المذهلة تُغلف القراءة». وبالنسبة لصحيفة «سود ويست»، تصرّح بأن «الحوريات» «كتاب رائع وجميل وطموح وإنساني وسياسي للغاية» قبل أن تضيف أن «نفوذ (غاليمار) - دار النشر التي ينتمي إليها كمال داود - ودورها في وصول الرواية إلى التتويج ليس بالهيّن. على أن النقد لم يكن دائماً إيجابياً؛ حيث جاءت وجهات النظر متباينةً بخصوص القيمة الأدبية لرواية كمال داود، ففي قراءات نقدية سابقة لم تلقَ الدرجة نفسها من الاستحسان، فمنهم من عاب على الرواية اللجوء المفرط للرموز بدءاً بالأسماء: «حورية»، «فجر»، «شهرزاد»؛ إلى رمزية الأماكن كالقرية التي شهدت ذبح عائلتها والتي وصلت إليها «فجر» صبيحة عيد الأضحى بينما كان الأهالي يذبحون الأضاحي، حتى كتب أحد النقّاد أن ثقل الرموز سحق القصّة، كما أن تشبث الكاتب بسرد الأحداث الواقعية بتواريخها وأماكنها وعدد ضحاياها جعل القارئ يفقد الصلة بالأسلوب الروائي.

الكاتب استوحى روايته من الأحداث الواقعية التي عاشها أثناء تغطيته الصحافية لمجازر تلك الحقبة الدامية في تاريخ الجزائر

الصحافية والناقدة الأدبية نيلي كابريان من مجلة «لي زان كوريبتبل» وإن كانت قد رحّبت بوجود هذه الرواية وأهميتها، واجهت، كما تقول، مشكلة في «طريقة كتابتها غير المثيرة للاهتمام»: «لقد شعرت بالملل قليلاً بعد فترة من القراءة بسبب الكتابة التي طغى عليها الأسلوب الأكاديمي الفضفاض، فالروايات التي تبدأ بعنوان لا تنجح دائماً، وهو كتاب يهتم فعلاً بمعاناة النساء اللائي ليس لهن صوت، لكن من منظور أدبي، يبقى الأسلوب أكاديمياً منمّقاً، وهو ما جعلني لا أتحمس للاستمرار في القراءة». وبالنسبة للوران شالومو الكاتب والناقد الأدبي المستقل فإن رواية «الحوريات» نصّ شجاع ومُحرج في الوقت نفسه، شجاع لأنه يتعرض لموضوع سياسي حسّاس قد يعرّض صاحبه لمضايقات كبيرة، ولكن وبالرغم من نواياه الحسنة، فإن الكتاب يفتقر للدقة. ويضيف الكاتب: «لم أتعرف على كمال داود في هذا العمل، هو يدّعي أنه شخص آخر وهو ما أصابني بالحساسية، حتى نكاد نراه وهو يحاول تمرير قباقيبه الكبيرة لتبدو كنعال حمراء اللون. الكاتب ركّز في نقده على «السرد المظلم بشكل متصنّع وإرادي لإنتاج إحساس بالعمق، إضافة للجُمل الملتوية المُثقلة بلا داعٍ».

وفي موضوع نقدي آخر مخصّص لرواية «الحوريات» أشاد أرنو فيفيانت الإعلامي والناقد الأدبي بصحيفة «ليبيراسيون» بها واصفاً الرواية بأنها «كتاب (عظيم جداً). على الرغم من طوله (400 صفحة) وكثرة الرموز، فإن الأسلوب الاستعاري يجعل القراءة مذهلة، وهو وإن اقترب من (الغونكور) عام 2014 حين تصور كتابة أخرى لرواية ألبير كامو (الغريب)، فهو، وبعد عشر سنوات، يعود بهذه الرواية الجديدة محاولاً هذه المرة إعادة كتابة (الطاعون) الرواية الأخرى لكامو. ليس فقط لأن الأحداث تدور في مدينة وهران في كلتا الروايتين، ولكن أيضاً بسبب التغيير الذي حدث في أسلوب الكتابة والذي كان قد ميّز رواية (الطاعون) أيضاً».

إليزابيث فيليب الكاتبة الصحافية من مجلة «نوفيل أبسورفاتور» وصفت الرواية بالأساسية والشجاعة لأنها «تتعرض للظلم الذي تواجهه بعض النساء في المجتمعات المحافظة، وهي أساسية من حيث إنها تعطي صوتاً لمن حرم منه». لكنها تصف الرواية في الوقت نفسه بـ«المملّة». وهي تقول بأن تحفُّظها لا يخصّ الأسلوب المنمّق الذي تميزت به الرواية، بل البناء السردي، فـ«الكاتب يدرج القصص الواحدة تلو الأخرى في نوع من التشويش الزمني، محاولاً تبرير ذلك بالسرد الشعري، لكن النتيجة لا تسهّل عملية القراءة التي تصبح أشبه بالتمرين الشاق».