قبل شهور من قبول تكليفه مهام رئاسة الحكومة العراقية، كان عادل عبد المهدي، الذي يفضل لقب «السيد» على الدكتور، كتب مقالاً في جريدة يملكها حملت عنواناً لافتاً، ولعله ندم عليه مرتين، وهو «آسف... الشروط غير متوفرة».
ملخص فكرة المقال تلخص في حد ذاتها مأساة الرجل «السياسي الضليع والمفكر الاقتصادي» ورجل الدولة الذي شغل عدة مناصب مهمة منها الوزارة ونيابة رئيس الجمهورية، الذي جاء إلى الحكومة بتوافق هش بين أكبر كتلتين في البرلمان «سائرون بزعامة مقتدى الصدر» و«الفتح بزعامة هادي العامري».
الشروط التي قال عنها إنها ليست متوفرة تتمثل في أن ما تريده الكتل السياسية وزعاماتها من رئيس الحكومة هي غير ما يراه هو، لا سيما أن اسمه كان قد طرح بوصفه أحد المرشحين لرئاسة الحكومة بعدما تبين أنه لا ولاية ثانية لمن أصبح سلفه الدكتور حيدر العبادي... وفي ظل وجود مرشحين آخرين جرى تداول أسمائهم من بينهم هادي العامري.
عادل عبد المهدي، في مقالته الشهيرة، التي قال فيها «آسف... الشروط غير متوفرة» كان يتحدث بمنطق اليائس من إمكانية أن يطرح اسمه على قائمة التداول، لذلك أراد أن «يتغدّى» بالكتل السياسية قبل أن «تتعشى» به حين أبعد نفسه تلقائيا عن قائمة الترشيح.
غير أن ما حصل أن الكتل والزعامات السياسية فشلت في تحقيق الحسم المتوخى، وبدأت خياراتها تضيق وتتقلص، ناهيك من الاختلافات في الرؤى الإقليمية والدولية - لا سيما بما يتصل بإيران والولايات المتحدة - إزاء مَن يمكن أن يكون رئيسا للحكومة العراقية المقبلة في ظل تصاعد الأزمة بين قيادتي طهران وواشنطن.
ثم، بعدما جاءت نتيجة الانتخابات مختلفة عن توقعات الكثيرين، سواءً لجهة بروز كتل وتراجع أخرى، انسحب هذا الأمر على مفهوم «الكتلة النيابية الأكثر مقاعد» التي يغدو من حقها ترشيح رئيس الوزراء المقبل.
وفي ظل استقطاب سياسي حاد، انتقل واقع الصراع من طائفي «سني - شيعي» أو عرقي «عربي - كردي» إلى صراع سياسي بين محوَرين شكلا تحالفي «الإصلاح» مقابل «البناء»... وكل من هذين التحالفين يضم شيعة وسنة وأكرادا.
مخالفة دستورية
طبقاً للدستور العراقي، فإن الكتلة الأكبر - أي التي تتمتع بأكبر عدد من المقاعد - هي التي ترشح رئيس الوزراء، لكن هذا لم يحصل بسبب الخلاف الحاد بين تحالفي «الإصلاح» و«البناء» وتفسير كل منهما مفهوم «الكتلة الأكبر» طبقا لما يراه. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» يقول الخبير القانوني العراقي أحمد العبادي شارحاً أنه «طبقا للمادة 76 من الدستور، فإن كلا من التحالفين استند إلى تفسير المحكمة الاتحادية لعام 2010»، مبينا أن «التفسير الذي كانت قدمته المحكمة الاتحادية لا يزال ساري المفعول، علما بأن قرارات الاتحادية ملزمة وقاطعة». ولأن الباب بات مغلقا أمام كل من التحالفين من منطلق أنه لا يمكن للمحكمة الاتحادية أن تعطي تفسيراً جديداً فقد رأت كلا من كتلتي «سائرون» ضمن تحالف «الإصلاح»، و«الفتح» ضمن تحالف «البناء»، أن تذهبا باتجاه المجيء بمرشح توافقي يبدو أنه محل رضا معظم الأطراف السياسية ولا توجد عليه مؤشرات قلة رضا إقليمية «عربية - إيرانية» أو دولية «أميركية»... هو عادل عبد المهدي.
عبد المهدي، الذي كان استقال مرتين في الماضي مرة حين كان نائباً لرئيس الجمهورية (عام 2009) ومرة حين كان وزيراً للنفط (عام 2015). ولأن الرجل يحتفظ دائماً بالاستقالة في جيبه، فإن الإتيان به بدأ وكأنه ضمن شروطه، التي لم تكن متوفرة حتى قبل شهور - طبقا لما كتبه هو - أو تخوف الكتل التي جاءت به من شروطه ما يضطرها لأن تمنحه الحرية الكاملة في أن يتصرف بصفته رئيسا للوزراء.
سنة خضراء
الآن يقترب عادل عبد المهدي، الاقتصادي والأكاديمي واليساري السابق، من إكمال سنته الأولى رئيساً للوزراء. والملاحظ أنه طوال تلك السنة لم يلوح بالاستقالة، في حين بدأت الكتل السياسية تلوّح الآن بإمكانية إقالته عبر استجوابه داخل البرلمان وسحب الثقة منه خلال الفصل التشريعي الجديد للبرلمان الذي بدأ اليوم السبت. الأسباب التي تسوقها الكتل والزعامات، وحتى بعض الفصائل المسلحة لإقالة أو محاسبة عبد المهدي متباينة. ولكن في مقدمها: قلة الرضا الجماهيري عموماً من الأداء الحكومي، على الرغم من أن رئيس الوزراء يدافع عن سياسات اتبعها خلال أقل من سنة واحدة لم يتبعها أي من أسلافه قبله.
على رأس تلك السياسات التي يعدها عبد المهدي وفريقه الحكومي «منجزات» هي فتح «المنطقة الخضراء»، في قلب العاصمة بغداد، التي كانت محصنة طوال 15 سنة، بالإضافة إلى رفع الكتل والمصبوبات الإسمنتية التي كانت موضوعة أمام كل المباني الرسمية ومقرات الوزارات، وأيضاً، الشوارع التي كانت مغلقة في كل أنحاء بغداد، وهذا إلى جانب إعادة فتح مطار بغداد الدولي أمام المسافرين بعدما كان المطار مغلقا هو الآخر طوال 15 سنة، إذ كان المسافرون يتجمعون في ساحة تسمى ساحة عباس بن فرناس لتقلهم سيارات خاصة من وإلى المطار الذي يبعد عن الساحة عدة كيلومترات.
من ناحية أخرى، السنة لا تبدو «خضراء» لمجرد فتح «المنطقة الخضراء» ورفع المصبوبات والكتل الإسمنتية، بل لكونها شهدت أيضاً أمطاراً غزيرة رفعت منسوب المياه في نهري دجلة والفرات. وكان هذا تطوراً طيباً من ثماره إنهاء أزمة الجفاف في العراق التي طالت هي الأخرى لعدة سنوات، وأدى إلى ازدهار واضح في الزراعة، كما انسحب الأمر لأول مرة على أداء الكهرباء التي تحسنّت قياساً إلى السنوات السابقة. ذلك أنه، لأول مرة منذ عام 2011، لم يشهد صيف العراق مظاهرات جماهيرية بسبب نقص الطاقة الكهربائية.
مثل هذه الأمور يعدها عبد المهدي «إنجازات لا يمكن تجاهلها»، بينما تراها الكتل السياسية أقل مما كان قد وعد به حين أجري التصويت على برنامجه الحكومي. وفي الوقت الذي أعلنت جهة حكومية رسمية أن نسبة ما أنجز في البرنامج الحكومي للستة أشهر الأولى من عمر الحكومة يبلغ نسبة 79 في المائة، فإن لجنة مراقبة أداء البرنامج الحكومي البرلمانية أعلنت أن نسبة ما أنجز حقاً لا يتعدى نسبة الـ36 في المائة فقط. بل ما هو أسوأ، أن كتلة «الحكمة» المعارضة، التي يتزعمها عمار الحكيم، تدعي أن نسبة الإنجاز لا تتعدى الـ33 في المائة.
حكومة ناقصة تربية
وفي سياق تعداد ما أنجز وما لم يتيسر إنجازه، فإنه بعد ما يقرب من سنة، ورغم كل التطورات التي حصلت، وآخرها ملف «الحشد الشعبي»، ومحاولات حصر السلاح بيد الدولة، والضربات التي طالت معسكرات «الحشد» - سواءً عبر الطائرات المسيرّة أو سوء الخزن - أو الضغط باتجاه التوجه لشراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية المتطورة للدفاع الجوي، فإن هناك نكتة لا تزال تلاحق حكومة عبد المهدي... هي أنها لا تزال «ناقصة تربية». والقصد هنا أن الكتل السياسية عجزت حتى اللحظة عن التوافق على حسم هوية المرشح لشغل منصب وزير التربية. ومع أن رئيس الوزراء يواصل رمي الكرة في ملعب الكتل السياسية التي يتعيّن عليها حسم هوية المرشح لهذا المنصب، فإنه اكتفى حتى اللحظة، بتكليف وزير التعليم العالي منصب وزير التربية بالوكالة، وهذا، بينما أخذت الكتل البرلمانية تلاحق بعض وزرائه بتهم مختلفة تمهيداً لاستجوابهم، ومن ثم، سحب الثقة منهم.
في هذه الأثناء، لا يبدو على عبد المهدي كبير اهتمام بهذا الملف ما دام يعلم أن الكتل السياسية لن تمرّر أي مرشح لهذا المنصب من قِبَله ما لم تقبل به هي أولاً. وبالتالي، فإن منطق الصراع الجاري الآن بين رئيس الوزراء والكتل لا يتعلّق بأداء الحكومة أو قدرتها على إنجاز البرنامج أم لا... بل يتعلّق بأمور أخرى باتت هي مثار القلق والتوتر، هي الوجود الأجنبي في العراق، والصراعات الإقليمية، وأسلحة «الحشد الشعبي»، والتسليح، والضغوط التي بات يواجهها بشأن طبيعة العلاقة مع كل هذه الأطراف، بما في ذلك موقف المرجعية الدينية الشيعية العليا منه. وثمة من يقول إنها حسمت أمرها عبر الكلام الذي صرّح به حامد الخفاف، أبرز مساعدي آية الله علي السيستاني ومدير مكتبه في بيروت.
الخفاف، قال أخيرا في لقاء صحافي معه إن «رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ليس مرشح المرجعية العليا، بل كان مرشح كتلتين كبيرتين (في إشارة إلى «سائرون» و«الفتح»)، ولقد حظي بقبول وطني وإقليمي ودولي، فلم تعترض عليه المرجعية... ولكنها بلغت الأطراف المعنية أنها لن تؤيد الحكومة الجديدة إلا إذا وجدت ملامح النجاح في عملها، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم المشاكل المتوارثة من الحكومات السابقة».
سفينة عبد المهدي
عند بداية تشكيل عادل عبد المهدي حكومته فإنه ما كان يتصور أنه سيواجه تطورات متلاحقة قد تبدو أكبر من قدرة الحكومة على مواجهته، وربما أكبر من قدراته الشخصية على التعامل مع ملفات معقدة أهمها التصعيد الأميركي - الإيراني... الذي وصل إلى حافة الحرب وخطف الأضواء من تطورات كثيرة في المنطقة. لكن التصعيد الأميركي - الإيراني، على أهميته، لم يخطف الأضواء مما تبيته الكتل للحكومة ورئيسها، سواءً على صعيد الأداء الخدمي أو المواقف السياسية.
ومع أن رئيس الوزراء ما زال يحاول جاهداً الإمساك بالعصا من الوسط، فإنه يجد نفسه الآن يعوم في سفينة تائهة بعرض البحر لا تبدو قريبة من الوصول إلى أي ساحل، وهذا مع أنه مطلوب منه الإجابة على تساؤلات كثيرة حين تكمل حكومته بعد أقل من شهرين سنتها الأولى.
على رأس التساؤلات سؤال متصل بتحديد عبد المهدي موقفه من الوجود الأميركي في العراق. وطبعاً، هذا أمر في غاية الصعوبة في ظل الانقسام السياسي الحاد بشأن الأميركيين كمدربين ومستشارين، فضلا عن الانقسام داخل الجسم السياسي العراقي بين الكتل الشيعية والسنية والكردية حول الوجود الأميركي. وهكذا، سيتوجب على رئيس الوزراء أن يقرر ما إذا كان سيستجيب للمطالبات التي أخذت تتزايد من كتل مختلفة - وبعضها مقربة من فصائل مسلحة موالية لإيران - بشأن شراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية لحماية الأجواء العراقية مما بات يتهددها من قصف جوي بالطائرات المُسيّرة «الدرون».
الحكومة لم تعلن موقفها بعد بشأن من استهدف معسكرات «الحشد الشعبي»، وهو أمر لا يبدو أن له تفسيراً مقنعاً حتى الآن، في حين يصرّ قادة الفصائل المسلحة على القول إن الجهة التي استهدفت المعسكرات هي إسرائيل. وبالتزامن مع تكرار هذه التأكيدات، فإن الأصوات البرلمانية والسياسية المناوئة للوجود الأميركي في العراق باتت تتحدث الآن علناً عن أهمية توجّه العراق إلى روسيا لشراء منظومة «إس 400» على غرار ما فعلت تركيا. ولكن التصريحات بهذا الشأن بدت متباينة حكومياً وبرلمانياً. فبينما أعلن سفير العراق في موسكو أن العراق قرّر فعلاً شراء هذه المنظومة فإن المتحدث باسم الخارجية نفى وجود نية عراقية حالياً لشراء مثل هذه المنظومة.
من جهة ثانية، في الوقت الذي تبدو الضغوط شديدة على عبد المهدي، إن كانت لأسباب داخلية أو إقليمية أو دولية، فإن جل المؤشرات تقول إن «سفينته» مُقدّر لها أن ترسو في موعدها المقرّر عند نهاية عام الحكومة الأول من دون أن يتمكن أحد من اتخاذ موقف مناوئ لها بالطريقة التي يحلم بها. إذ الشروط التي كانت غير متوافرة طبقا لرؤية عبد المهدي قبل تكليفه بشهور لا تزال غير متوافرة اليوم. لكن السبب ليس بسبب عجز رئيس الوزراء عن إدارة دفة السفينة في بحر متلاطم الأمواج، بل نتيجة لحدة الخلافات والاستقطابات التي تجعل منه (أي عبد المهدي) عنصر التوازن الوحيد الذي يحتاج إليه الجميع، بينما لا يحتاج هو لأحد من منطلق أن الاستقالة «الشهيرة» ما زالت في جيبه... وليس ثمة ما يشي بأنه يشعر بالقلق وهو يتلقى يوميا تهديدات بإقالة، ستبقى - على الأرجح - مؤجلة ربما للسنوات الأربع المقبلة من عمر هذه الحكومة. وفي حينه، يكون رئيس الوزراء قد تعدّى سن الثمانين!