خيارات عادل عبد المهدي... وفرصه

بين «الاستقالة» المؤجلة والتهديد بالإقالة الموعودة

خيارات عادل عبد المهدي... وفرصه
TT

خيارات عادل عبد المهدي... وفرصه

خيارات عادل عبد المهدي... وفرصه

قبل شهور من قبول تكليفه مهام رئاسة الحكومة العراقية، كان عادل عبد المهدي، الذي يفضل لقب «السيد» على الدكتور، كتب مقالاً في جريدة يملكها حملت عنواناً لافتاً، ولعله ندم عليه مرتين، وهو «آسف... الشروط غير متوفرة».
ملخص فكرة المقال تلخص في حد ذاتها مأساة الرجل «السياسي الضليع والمفكر الاقتصادي» ورجل الدولة الذي شغل عدة مناصب مهمة منها الوزارة ونيابة رئيس الجمهورية، الذي جاء إلى الحكومة بتوافق هش بين أكبر كتلتين في البرلمان «سائرون بزعامة مقتدى الصدر» و«الفتح بزعامة هادي العامري».
الشروط التي قال عنها إنها ليست متوفرة تتمثل في أن ما تريده الكتل السياسية وزعاماتها من رئيس الحكومة هي غير ما يراه هو، لا سيما أن اسمه كان قد طرح بوصفه أحد المرشحين لرئاسة الحكومة بعدما تبين أنه لا ولاية ثانية لمن أصبح سلفه الدكتور حيدر العبادي... وفي ظل وجود مرشحين آخرين جرى تداول أسمائهم من بينهم هادي العامري.

عادل عبد المهدي، في مقالته الشهيرة، التي قال فيها «آسف... الشروط غير متوفرة» كان يتحدث بمنطق اليائس من إمكانية أن يطرح اسمه على قائمة التداول، لذلك أراد أن «يتغدّى» بالكتل السياسية قبل أن «تتعشى» به حين أبعد نفسه تلقائيا عن قائمة الترشيح.
غير أن ما حصل أن الكتل والزعامات السياسية فشلت في تحقيق الحسم المتوخى، وبدأت خياراتها تضيق وتتقلص، ناهيك من الاختلافات في الرؤى الإقليمية والدولية - لا سيما بما يتصل بإيران والولايات المتحدة - إزاء مَن يمكن أن يكون رئيسا للحكومة العراقية المقبلة في ظل تصاعد الأزمة بين قيادتي طهران وواشنطن.
ثم، بعدما جاءت نتيجة الانتخابات مختلفة عن توقعات الكثيرين، سواءً لجهة بروز كتل وتراجع أخرى، انسحب هذا الأمر على مفهوم «الكتلة النيابية الأكثر مقاعد» التي يغدو من حقها ترشيح رئيس الوزراء المقبل.
وفي ظل استقطاب سياسي حاد، انتقل واقع الصراع من طائفي «سني - شيعي» أو عرقي «عربي - كردي» إلى صراع سياسي بين محوَرين شكلا تحالفي «الإصلاح» مقابل «البناء»... وكل من هذين التحالفين يضم شيعة وسنة وأكرادا.
مخالفة دستورية
طبقاً للدستور العراقي، فإن الكتلة الأكبر - أي التي تتمتع بأكبر عدد من المقاعد - هي التي ترشح رئيس الوزراء، لكن هذا لم يحصل بسبب الخلاف الحاد بين تحالفي «الإصلاح» و«البناء» وتفسير كل منهما مفهوم «الكتلة الأكبر» طبقا لما يراه. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» يقول الخبير القانوني العراقي أحمد العبادي شارحاً أنه «طبقا للمادة 76 من الدستور، فإن كلا من التحالفين استند إلى تفسير المحكمة الاتحادية لعام 2010»، مبينا أن «التفسير الذي كانت قدمته المحكمة الاتحادية لا يزال ساري المفعول، علما بأن قرارات الاتحادية ملزمة وقاطعة». ولأن الباب بات مغلقا أمام كل من التحالفين من منطلق أنه لا يمكن للمحكمة الاتحادية أن تعطي تفسيراً جديداً فقد رأت كلا من كتلتي «سائرون» ضمن تحالف «الإصلاح»، و«الفتح» ضمن تحالف «البناء»، أن تذهبا باتجاه المجيء بمرشح توافقي يبدو أنه محل رضا معظم الأطراف السياسية ولا توجد عليه مؤشرات قلة رضا إقليمية «عربية - إيرانية» أو دولية «أميركية»... هو عادل عبد المهدي.
عبد المهدي، الذي كان استقال مرتين في الماضي مرة حين كان نائباً لرئيس الجمهورية (عام 2009) ومرة حين كان وزيراً للنفط (عام 2015). ولأن الرجل يحتفظ دائماً بالاستقالة في جيبه، فإن الإتيان به بدأ وكأنه ضمن شروطه، التي لم تكن متوفرة حتى قبل شهور - طبقا لما كتبه هو - أو تخوف الكتل التي جاءت به من شروطه ما يضطرها لأن تمنحه الحرية الكاملة في أن يتصرف بصفته رئيسا للوزراء.
سنة خضراء
الآن يقترب عادل عبد المهدي، الاقتصادي والأكاديمي واليساري السابق، من إكمال سنته الأولى رئيساً للوزراء. والملاحظ أنه طوال تلك السنة لم يلوح بالاستقالة، في حين بدأت الكتل السياسية تلوّح الآن بإمكانية إقالته عبر استجوابه داخل البرلمان وسحب الثقة منه خلال الفصل التشريعي الجديد للبرلمان الذي بدأ اليوم السبت. الأسباب التي تسوقها الكتل والزعامات، وحتى بعض الفصائل المسلحة لإقالة أو محاسبة عبد المهدي متباينة. ولكن في مقدمها: قلة الرضا الجماهيري عموماً من الأداء الحكومي، على الرغم من أن رئيس الوزراء يدافع عن سياسات اتبعها خلال أقل من سنة واحدة لم يتبعها أي من أسلافه قبله.
على رأس تلك السياسات التي يعدها عبد المهدي وفريقه الحكومي «منجزات» هي فتح «المنطقة الخضراء»، في قلب العاصمة بغداد، التي كانت محصنة طوال 15 سنة، بالإضافة إلى رفع الكتل والمصبوبات الإسمنتية التي كانت موضوعة أمام كل المباني الرسمية ومقرات الوزارات، وأيضاً، الشوارع التي كانت مغلقة في كل أنحاء بغداد، وهذا إلى جانب إعادة فتح مطار بغداد الدولي أمام المسافرين بعدما كان المطار مغلقا هو الآخر طوال 15 سنة، إذ كان المسافرون يتجمعون في ساحة تسمى ساحة عباس بن فرناس لتقلهم سيارات خاصة من وإلى المطار الذي يبعد عن الساحة عدة كيلومترات.
من ناحية أخرى، السنة لا تبدو «خضراء» لمجرد فتح «المنطقة الخضراء» ورفع المصبوبات والكتل الإسمنتية، بل لكونها شهدت أيضاً أمطاراً غزيرة رفعت منسوب المياه في نهري دجلة والفرات. وكان هذا تطوراً طيباً من ثماره إنهاء أزمة الجفاف في العراق التي طالت هي الأخرى لعدة سنوات، وأدى إلى ازدهار واضح في الزراعة، كما انسحب الأمر لأول مرة على أداء الكهرباء التي تحسنّت قياساً إلى السنوات السابقة. ذلك أنه، لأول مرة منذ عام 2011، لم يشهد صيف العراق مظاهرات جماهيرية بسبب نقص الطاقة الكهربائية.
مثل هذه الأمور يعدها عبد المهدي «إنجازات لا يمكن تجاهلها»، بينما تراها الكتل السياسية أقل مما كان قد وعد به حين أجري التصويت على برنامجه الحكومي. وفي الوقت الذي أعلنت جهة حكومية رسمية أن نسبة ما أنجز في البرنامج الحكومي للستة أشهر الأولى من عمر الحكومة يبلغ نسبة 79 في المائة، فإن لجنة مراقبة أداء البرنامج الحكومي البرلمانية أعلنت أن نسبة ما أنجز حقاً لا يتعدى نسبة الـ36 في المائة فقط. بل ما هو أسوأ، أن كتلة «الحكمة» المعارضة، التي يتزعمها عمار الحكيم، تدعي أن نسبة الإنجاز لا تتعدى الـ33 في المائة.
حكومة ناقصة تربية
وفي سياق تعداد ما أنجز وما لم يتيسر إنجازه، فإنه بعد ما يقرب من سنة، ورغم كل التطورات التي حصلت، وآخرها ملف «الحشد الشعبي»، ومحاولات حصر السلاح بيد الدولة، والضربات التي طالت معسكرات «الحشد» - سواءً عبر الطائرات المسيرّة أو سوء الخزن - أو الضغط باتجاه التوجه لشراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية المتطورة للدفاع الجوي، فإن هناك نكتة لا تزال تلاحق حكومة عبد المهدي... هي أنها لا تزال «ناقصة تربية». والقصد هنا أن الكتل السياسية عجزت حتى اللحظة عن التوافق على حسم هوية المرشح لشغل منصب وزير التربية. ومع أن رئيس الوزراء يواصل رمي الكرة في ملعب الكتل السياسية التي يتعيّن عليها حسم هوية المرشح لهذا المنصب، فإنه اكتفى حتى اللحظة، بتكليف وزير التعليم العالي منصب وزير التربية بالوكالة، وهذا، بينما أخذت الكتل البرلمانية تلاحق بعض وزرائه بتهم مختلفة تمهيداً لاستجوابهم، ومن ثم، سحب الثقة منهم.
في هذه الأثناء، لا يبدو على عبد المهدي كبير اهتمام بهذا الملف ما دام يعلم أن الكتل السياسية لن تمرّر أي مرشح لهذا المنصب من قِبَله ما لم تقبل به هي أولاً. وبالتالي، فإن منطق الصراع الجاري الآن بين رئيس الوزراء والكتل لا يتعلّق بأداء الحكومة أو قدرتها على إنجاز البرنامج أم لا... بل يتعلّق بأمور أخرى باتت هي مثار القلق والتوتر، هي الوجود الأجنبي في العراق، والصراعات الإقليمية، وأسلحة «الحشد الشعبي»، والتسليح، والضغوط التي بات يواجهها بشأن طبيعة العلاقة مع كل هذه الأطراف، بما في ذلك موقف المرجعية الدينية الشيعية العليا منه. وثمة من يقول إنها حسمت أمرها عبر الكلام الذي صرّح به حامد الخفاف، أبرز مساعدي آية الله علي السيستاني ومدير مكتبه في بيروت.
الخفاف، قال أخيرا في لقاء صحافي معه إن «رئيس الوزراء عادل عبد المهدي ليس مرشح المرجعية العليا، بل كان مرشح كتلتين كبيرتين (في إشارة إلى «سائرون» و«الفتح»)، ولقد حظي بقبول وطني وإقليمي ودولي، فلم تعترض عليه المرجعية... ولكنها بلغت الأطراف المعنية أنها لن تؤيد الحكومة الجديدة إلا إذا وجدت ملامح النجاح في عملها، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم المشاكل المتوارثة من الحكومات السابقة».
سفينة عبد المهدي
عند بداية تشكيل عادل عبد المهدي حكومته فإنه ما كان يتصور أنه سيواجه تطورات متلاحقة قد تبدو أكبر من قدرة الحكومة على مواجهته، وربما أكبر من قدراته الشخصية على التعامل مع ملفات معقدة أهمها التصعيد الأميركي - الإيراني... الذي وصل إلى حافة الحرب وخطف الأضواء من تطورات كثيرة في المنطقة. لكن التصعيد الأميركي - الإيراني، على أهميته، لم يخطف الأضواء مما تبيته الكتل للحكومة ورئيسها، سواءً على صعيد الأداء الخدمي أو المواقف السياسية.
ومع أن رئيس الوزراء ما زال يحاول جاهداً الإمساك بالعصا من الوسط، فإنه يجد نفسه الآن يعوم في سفينة تائهة بعرض البحر لا تبدو قريبة من الوصول إلى أي ساحل، وهذا مع أنه مطلوب منه الإجابة على تساؤلات كثيرة حين تكمل حكومته بعد أقل من شهرين سنتها الأولى.
على رأس التساؤلات سؤال متصل بتحديد عبد المهدي موقفه من الوجود الأميركي في العراق. وطبعاً، هذا أمر في غاية الصعوبة في ظل الانقسام السياسي الحاد بشأن الأميركيين كمدربين ومستشارين، فضلا عن الانقسام داخل الجسم السياسي العراقي بين الكتل الشيعية والسنية والكردية حول الوجود الأميركي. وهكذا، سيتوجب على رئيس الوزراء أن يقرر ما إذا كان سيستجيب للمطالبات التي أخذت تتزايد من كتل مختلفة - وبعضها مقربة من فصائل مسلحة موالية لإيران - بشأن شراء منظومة صواريخ «إس 400» الروسية لحماية الأجواء العراقية مما بات يتهددها من قصف جوي بالطائرات المُسيّرة «الدرون».
الحكومة لم تعلن موقفها بعد بشأن من استهدف معسكرات «الحشد الشعبي»، وهو أمر لا يبدو أن له تفسيراً مقنعاً حتى الآن، في حين يصرّ قادة الفصائل المسلحة على القول إن الجهة التي استهدفت المعسكرات هي إسرائيل. وبالتزامن مع تكرار هذه التأكيدات، فإن الأصوات البرلمانية والسياسية المناوئة للوجود الأميركي في العراق باتت تتحدث الآن علناً عن أهمية توجّه العراق إلى روسيا لشراء منظومة «إس 400» على غرار ما فعلت تركيا. ولكن التصريحات بهذا الشأن بدت متباينة حكومياً وبرلمانياً. فبينما أعلن سفير العراق في موسكو أن العراق قرّر فعلاً شراء هذه المنظومة فإن المتحدث باسم الخارجية نفى وجود نية عراقية حالياً لشراء مثل هذه المنظومة.
من جهة ثانية، في الوقت الذي تبدو الضغوط شديدة على عبد المهدي، إن كانت لأسباب داخلية أو إقليمية أو دولية، فإن جل المؤشرات تقول إن «سفينته» مُقدّر لها أن ترسو في موعدها المقرّر عند نهاية عام الحكومة الأول من دون أن يتمكن أحد من اتخاذ موقف مناوئ لها بالطريقة التي يحلم بها. إذ الشروط التي كانت غير متوافرة طبقا لرؤية عبد المهدي قبل تكليفه بشهور لا تزال غير متوافرة اليوم. لكن السبب ليس بسبب عجز رئيس الوزراء عن إدارة دفة السفينة في بحر متلاطم الأمواج، بل نتيجة لحدة الخلافات والاستقطابات التي تجعل منه (أي عبد المهدي) عنصر التوازن الوحيد الذي يحتاج إليه الجميع، بينما لا يحتاج هو لأحد من منطلق أن الاستقالة «الشهيرة» ما زالت في جيبه... وليس ثمة ما يشي بأنه يشعر بالقلق وهو يتلقى يوميا تهديدات بإقالة، ستبقى - على الأرجح - مؤجلة ربما للسنوات الأربع المقبلة من عمر هذه الحكومة. وفي حينه، يكون رئيس الوزراء قد تعدّى سن الثمانين!


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».