أقنعة الخرافة ما بين العلم والسياسة

هشام عبد العزيز يبحث في جذور العلاقات المتشعبة المهمشة

كتاب « الحيوان» للجاحظ أحد المرتكزات الشهيرة في السرد التراثي
كتاب « الحيوان» للجاحظ أحد المرتكزات الشهيرة في السرد التراثي
TT

أقنعة الخرافة ما بين العلم والسياسة

كتاب « الحيوان» للجاحظ أحد المرتكزات الشهيرة في السرد التراثي
كتاب « الحيوان» للجاحظ أحد المرتكزات الشهيرة في السرد التراثي

هل الخرافة قابلة للتصديق؟ وهل تنتج معرفة جديدة بالعالم، خصوصاً في عالمنا الذي أصبح فيه العقل الافتراضي واقعاً ملموساً بفضل الثورة الهائلة في علوم التكنولوجيا والاتصال التي تسعى لتحرير الوعي الإنساني من سطوة الأوهام والخرافات والأساطير؟ ثم ما معنى أن ينحاز وعينا في جانب منه إلى الخرافة رغم الثورة عليها فلسفياً وعلمياً بوصفها ثمرة الوعي الشقي أو البائد؟ يعي الدكتور هشام عبد العزيز كل ذلك ويفنده في كتابه «فضل الخرافة»، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية للكتاب، باحثاً في جذور العلاقات الجدلية المتشعبة المهمشة التي تبنيها الخرافة بكل أقنعتها الواضحة والمستترة مع العلم من جهة، ومع السياقات السياسية والاجتماعية والدينية للمجتمع من جهة أخرى.
وفي مقدمته للكتاب الذي يقع في نحو 130 صفحة من القطع الكبير، يمهد المؤلف لموضوعه الأساسي بإشارات موجزة حول تعريف الخرافة في السرد الديني والتاريخي والقصصي بوصفها حديثاً «مستملحاً»، لكن هذه الملاحة تقترن بالكذب، لافتاً إلى أن السارد التراثي العربي ينوّع في الدوال التي تشير إلى الكذب بألفاظ من قبيل: البهتان والترهات والتهاويل، لكنها مع ذلك مشحونة بأحكام قيمة من جانب، وبطاقة إبداعية من جانب آخر، ولا يزال يجري استخدامها بالتبادل مع دال الخرافة حتى عصرنا الحديث.
وفي معرض التفريق بين الأسطورة والخرافة، يستعين الكاتب بموسوعة «الأساطير والفلكلور» لروبرت سيغال، مشيراً إلى أن الأساطير، بحسب الموسوعة، عبارة عن قصص مقدسة تعامل بوصفها حقيقة تفسر المعتقدات الثقافية للماضي الأسطوري البعيد. أما الخرافة، فتكون عن ماضٍ قريبٍ، ربما لا يبعد بضع سنوات، وشخصياتها بسمات محلية أو تاريخية، وربما تؤخذ الخرافات بوصفها حقيقة، وربما بوصفها «قناعة مغلوطة»، لكنها راسخة، بحسب تفسير بعض الباحثين المعاصرين.
ويشير الباحث إلى دور الخيال في الخرافة، بوصفه العصب المحرك لكل فعالياتها، لافتاً إلى أن صراع الديانات والأساطير والمعارف التقليدية مع الخرافة يكمن في محاولتها السيطرة على الخيال. كما أن الإنسان لا يستطيع أن يحيا سوياً إلا إذا اشتملت نفسه على كل هذه المكونات التي تبدو متعارضة، لكنه تعارض سطحي خادع يغطي تحته تضافراً كبيراً.
ويشير المؤلف في هذا السياق إلى كتاب «الحيوان» للجاحظ، بوصفه أحد المرتكزات الشهيرة في السرد التراثي، وما انطوى عليه من تفسير لطبيعة الحيوانات، وسرد قصص خرافية عنها، لا تخلو من تماس مع التراث الديني وخرافات الأعراب، موضحاً أن الجاحظ بنى منهجه في إيراد مثل هذه السرديات على أن هذا الكلام «ليس فيه جد إلا وفيه خلط من الهزل، وليس فيه كلام صحيح إلا وجنبه خرافة».
ويفسر ذلك بأن الجاحظ يشير هنا إلى علامة من علامات الخرافة، وهي التواطؤ على الكذب، أو بعض الكذب، بين الراوي والمتلقي، فإن ما يقال لم يقع، لكن ما وراءه صدق تام يؤمن به طرفا الرسالة: المرسل والمستقبل.
وفي مناقشته لعلاقة الخرافة بالعلم، يتخذ المؤلف من «فاطمة»، بطلة رواية «قنديل آم هاشم» للكاتب يحيى حقي، مدخلاً لسبر أغوار هذه العلاقة، حيث لم تجدِ وحدها الأدوية والإمكانات العلمية التي تعلمها طبيب العيون في أوروبا في علاجها من العمى الذي أصيبت به فجأة، فيمتثل للحل السحري ابن الخرافة الشعبية الذي مكنه أخيراً من علاجها، بأن وضع إلى جوارها زيت قنديل أم هاشم.
ويتساءل الكاتب: هذا التجاور أو التقاطع بين العلم والخرافة، المبني على علاقة متعارضة أصلاً، هل هو محاولة من طرف لإزاحة الطرف الآخر، أم أنه نتاج طبيعي للعلاقة المركبة التي لا مفر منها، وبهذا التعقيد، مهما تقدم الإنسان معرفياً أو تأخر؟
ويربط الباحث بين مضمون هذه الصراع الروائي وأفكار عباس محمود العقاد في كتابه «نشأة العقيدة الإلهية» الصادر في المكتبة العصرية ببيروت عام 1949، خصوصاً إشارة العقاد اللافتة المهمة إلى أن «كثيراً من الظواهر الموسومة بالخرافية بدأت تدخل مجال البحوث العلمية، وأن الباحثين يتخذون منها شيئاً فشيئاً مواقف من العطف والفهم أقرب من مواقفهم الأولى في مطلع الثورة العلمية على رجال الدين»، مؤكداً أن كلا الكاتبين (حقي والعقاد) قد أعادا الاعتبار لدال الخرافة، ليس بتغليبها على دال العلم، بل بمجاورتها إياه.
ويتعرض المؤلف لأفكار عدد من الفلاسفة والعلماء الغربيين حول هذه العلاقة، خصوصاً أفكار برغسون حول الخرافة الرمزية، ودورها في خلق الغرض. كما يفند رأي فرويد، وتصوره حول إمكانية اعتبار الخرافة والعلم مراحل معرفية، مشيراً إلى ضرورة توخي الحذر في هذا التصور، بل الأوفق برأيه اعتبارهما علامات ثقافية متجاورة، تفيد كل منهما من الأخرى، مشدداً على أن أهمية التفكير الخرافي ليست كما تصور بعض القدامى في العصور الوسطى، من أن الحديث عن جمل يطير أشهى من الحديث عن جمل يسير، بحسب قول المقدسي (المتوفي 380هـ)، بل في فضل الخرافة على العلم؛ لكنه فضل منكور، خصوصاً من أصحاب الدعوات العلمية الصارمة، كما أن الخرافة لا تجد من يدافع عنها.
وفي سياق علم الفلكلور السياسي، يتناول الكتاب العلاقة بين الخرافة والسياسية، بوصف الأولى تشكل رافداً مهماً في تكوين الوعي السياسي للأفراد، خصوصاً في طوره الفطري البديهي المرتبط بالتوقعات، ابنة البصيرة والنبوءة الإنسانية التي تختزن قراءة عفوية لمجريات الوقائع والأحداث السياسية، بدافع من خلاصة الحكمة والتجربة وخبرة الجماعة البشرية في واقع محدد وظروف اجتماعية معينة، لافتاً إلى أن هذا يحدث على نحو بارز في المناطق التي تتجاذبها الثقافة الشعبية من جهة، والسياسية من جهة ثانية، والعلوم المختلفة من جهة ثالثة، ما يمكن أن يخلق منطقة جديدة يصنعها هذا المزج بين هذه الأطراف، تكسر الأوعية التقليدية في الرؤية والتناول والتعاطي مع ما يحدث على أرض الواقع، وهو ما يبدو جلياً مع ظهور الثورات، أو بروز الفعل الثوري كطاقة للتغيير والتحرر، والبحث عن إطار جديد تتعايش فيه هذه العلاقة بحيوية وحرية أوسع.
ويشير الباحث إلى شكل من أشكال التضاد المثمر بين الخرافة المفتوحة بعشوائية المصادفة على براح الكون والوجود، والفعل الثوري والشروط الموضوعية لحركته، متخذاً من الثورة المصرية في 25 يناير (كانون الثاني) 2011 مثلاً على هذا المنحى، حيث يوجد الاثنان (الخرافة والفعل الثوري) في أدبياتها، في سياق من الحركة المتضافرة بين خرافة دولة آيلة للسقوط، وخرافة ثورة فاجأت الجميع، يسندها فعل ثوري ضد سلطة الرمز السياسي الحاكم، وحولت الواقع السياسي والدولة إلى خرافة مستبدة من الظلم والسحر والدجل يجب إسقاطها والثورة عليها، ليتحول الصراع بين الخرافتين إلى صراع على مستقبل أفضل للوطن والإنسان.



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.