مصادر الإليزيه: ماكرون وبوتين يسعيان لخريطة طريق استراتيجية مشتركة

المؤشرات التي تدلّ على رغبة فرنسية - روسية في التقارب لم تعد تحتاج إلى الكثير من البحث والتمحيص، إذ إنها واضحة للعيان. وآخر ما استجد فيها زيارة وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين إلى موسكو أمس، والاجتماع مع نظيريهما الروسيين في إطار ما يسمى مجموعة «2 زائد 2». وهذا الاجتماع هو الأول من نوعه منذ أن ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014 ما استتبعه فرض عقوبات أوروبية عليها ما زالت قائمة حتى اليوم.
لكن زيارة الأمس أتت في سياق رغبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قلب صفحة الجفاء مع موسكو. وأوضح ما جاء على لسانه في هذا المجال كان الخطاب الذي ألقاه أمام السلك الدبلوماسي الفرنسي في 27 الشهر الماضي، وفيه دعا إلى «إعادة التفكير» بالعلاقة مع روسيا، و«تخطي سوء الفهم» و«استكشاف مجالات التقارب ضمن شروط معينة».
ووراء ذلك كله فلسفة سياسية تعتبر روسيا «جزءا من أوروبا»، وأنه يتعين العمل معها من أجل «بناء هندسة جديدة» للأمن في أوروبا ما من شأنه ربطها بالعربة الأوروبية وإبعادها عن «النظر شرقا» أي باتجاه الصين. واستبق ماكرون اجتماع موسكو بالاتصال بنظيره الروسي. وكشفت مصادر الإليزيه أن الرئيسين «اتفقا على مواصلة الاتصالات من أجل التوصل إلى خريطة طريق استراتيجية مشتركة».
ليس سرا أن ماكرون يريد أن يكون له دور على المسرح العالمي، وأن يكون على المستوى الأوروبي «البوصلة» التي توجه السياسة الأوروبية، مستفيدا من صعوبات بريطانيا ومن نهاية عهد المستشارة الألمانية التي ستترك المسرح السياسي في الأشهر القادمة. وخلال قمة بياريتز، لعب ماكرون هذا الدور، وكان قد استبق القمة باجتماع مطول مع الرئيس بوتين الذي دعاه إلى مقر إقامته الصيفي في حصن بريغونسون المطل على مياه المتوسط.
وكان الرئيس الروسي الوحيد من بين قادة العالم الذي «حظي» بمثل هذا الشرف الاستثنائي. صحيح أن بوتين لم يُدع إلى بياريتز، لكن فرنسا لا تعارض عودته إلى «نادي الكبار» شرط أن تقدم موسكو على بعض الخطوات التي من شأنها «تبرير» عودة روسيا إلى «مجموعة البلدان الثمانية»، قبل أن تتحول مجددا إلى مجموعة البلدان السبع بسبب حرب أوكرانيا.
ورغم أن القادة المجتمعين في بياريتز اعتبروا أنه من «المبكر» انضمام بوتين إليهم مجددا، فإن الرئيس الأميركي يرغب في هذه العودة ولم يعد مستبعدا أن تتم العام القادم وفي ظل الرئاسة الأميركية للمجموعة. وفي أي حال، فإن بوتين كان حاضرا في بياريتز عن بعد أو «بالواسطة»، وذلك بفضل ماكرون.
يجمع كثير من المحللين السياسيين على أن الرئيس الفرنسي، في سياسته الخارجية، ينهج خطأ «براغماتيا» بعيدا عن أي آيديولوجيا. من هذا المنطلق، يعتبر ماكرون أن هناك حاجة لروسيا لتبريد جملة من البؤر المتفجرة، أكان ذلك في أوكرانيا أو في سوريا وليبيا أو فيما يخص الملف النووي الإيراني. يضاف إلى ذلك كله أن الدول الأوروبية تغمرها الشكوك والمخاوف، مما ينظر إليه البعض على أنه انطلاقة جديدة لسباق التسلح النووي والتقليدي بين الولايات المتحدة وروسيا بعد موت اتفاقية الصواريخ النووية متوسطة المدى هذا الصيف، وقرب انتهاء اتفاقية الصواريخ الاستراتيجية المسماة «ستارت» العام القادم والتي تعود إلى أيام الحرب البادرة. ووفق المتابعين للعلاقة الروسية - الفرنسية، فإن ماكرون وبوتين «بحاجة كل منهما للآخر» وأن المنفعة من تقاربهما ستعود للاثنين معا في حال نجحا في تطوير علاقاتهما وإعطائها بعدا ملموسا.
وأخيرا، يبدو ماكرون «خائبا» من الرئيس الأميركي بسبب تطورات الملف الإيراني. فبعد «الليونة» التي أظهرها ترمب في بياريتز، تبخرت وعوده عقب عودته إلى واشنطن ولم تنجح باريس في دفعه إلى إعطاء بعض التسهيلات لصادرات النفط الإيرانية لدفع «الوساطة» الفرنسية إلى الأمام وتوفير الشروط الضرورية للقاء ترمب والرئيس الإيراني حسن روحاني في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما كان يعول عليه الرئيس الفرنسي.
المرجح أن تكون «باكورة» نجاحات دبلوماسية ماكرون الروسية عقد قمة رباعية في إطار ما يسمى «مجموعة نورماندي»، التي تضم فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا. وتأمل باريس أن تلتئم أواخر الشهر الجاري على الأراضي الفرنسية من أجل «تبريد» الوضع المتدهور في شرق أوكرانيا، حيث الحرب لم تتوقف بين الانفصاليين الذين تدعمهم موسكو وكييف. وتريد باريس الدفع باتجاه تنفيذ مقررات «اتفاق مينسك» للعام 2015 لوضع حد لهذه الحرب. وجاء تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا الذي حصل الأحد الماضي، ورغبة الرئيس الأوكراني الجديد زيلينسكي بالتفاهم مع بوتين ليعززا الآمال بتحقيق اختراق في هذا الملف. وتأمل موسكو أن يسهل التفاهم بشأن الملف الأوكراني برفع العقوبات الأوروبية عنها رغم رفضها القاطع للتراجع عن ضم شبه جزيرة القرم في العام 2014، لكن السياق العام يدل على أن الأوروبيين قد وضعوا بين قوسين موضوع القرم من غير أن يعترفوا بضمها إلى روسيا.
يريد الطرفان الفرنسي والروسي، من خلال تقاربهما، البحث عن «سبل للتعاون» بشأن الملفات العالقة طبعا ولكن أيضا للدفاع عن «التعددية» في التعاطي مع شؤون العالم، وهي الراية التي يرفعها ماكرون في كل محفل. وفيما يتقارب الموقفان الروسي والفرنسي بشأن الملف النووي وتأكيد الطرفين على ضرورة المحافظة عليه، فإن مواقفهما تفترق بالنسبة لسوريا. وتراهن باريس على التقارب مع موسكو ليعود لها دور في ملف غابت عنه بشكل شبه تام. وسبق لماكرون، منذ أكثر من عام، أن اقترح على نظيره الروسي إيجاد «آلية تنسيق» بين ما يسمى «المجموعة المصغرة» التي تضم دولا غربية وعربية و«مجموعة آستانة» المشكلة من روسيا وتركيا وإيران. وتريد باريس التي ترهن مشاركتها «ومشاركة الأوروبيين» في تمويل إعادة الإعمار في سوريا، الدفع باتجاه العودة إلى المسار السياسي من خلال الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية، كما أنها تحذر من نتائج حرب شاملة في إدلب.
ثمّة من يرى في باريس أن سياسة ماكرون الخارجية تستلهم، «الإرث الديغولي» الذي يعني استقلالية القرار الفرنسي. وسبق لماكرون أن وضع سياقه النظري بقوله أكثر من مرة إن لفرنسا «حلفاء وليس أوصياء»، ما يجعله حر الحركة. لكن الانفتاح على بوتين لا يرضي بالضرورة كل الشركاء الأوروبيين. فبريطانيا مترددة وتُذكّر بـ«عملية سكريبال» العميل الروسي الذي حاولت أجهزة روسية تسميمه في مدينة بريطانية. والبلدان التي كانت سابقا تدور في الفلك السوفياتي «بلدان البلطيق، بولندا...» هي الأخرى غير سعيدة بذلك وترى أن أمنها مرتبط بالولايات المتحدة والحلف الأطلسي، وليس بتعبيد الطريق أمام بوتين الساعي لابتعاث روسيا القوية والمهيمنة.