نجيب محفوظ لم يكن روائياً!

حمل في أدبه سمات الفيلسوف العارف والمتأمّل القلِق

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

نجيب محفوظ لم يكن روائياً!

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

مع غروب شمس أغسطس (آب) من كل سنة تشرق ذكرى رحيل نجيب محفوظ وتدعونا تلك اللحظة الفارقة لإعادة قراءة منجزه الإبداعي على نحو يستقيم مع القيمة الفنية العالية لأعمال الراحل الكبير ومع ما أثاره فيها من قضايا وأسئلة.
نجيب محفوظ لم يجلب نوبل الأدبية للعرب فحسب، بل جلب معه الصخب، وكان اسمه سؤالاً يمشي على مهل فوق أوراق الرؤى المستحيلة. الكثيرون قرأوا «أولاد حارتنا» بإسهاب ولا أحد دخل حارة الكاتب الحميمية سوى الراسخين معه في الفن، ذلك الفن المعجون بطين الخلود والذي ينتمي لخرافة أزليّة بهيجة اسمها الأدب. من حسن الحظ أنّ الرواية كانت علامة إعلان دائمة عُرف بها الكاتب، وإلا لوسمه الآخرون بأسماء الجنون... نجيب محفوظ كان يحمل قلباً صاخباً ورؤية بحجم الكون تنمو وتتسع، وكان بخفة غيمة يواكب إيقاع الزمن.
روايات نجيب محفوظ وثلاثيته الخالدة على وجه الخصوص، شكّلت قفزة فنية على مستوى الكتابة السردية في العالم العربي، فقد برزت أوجه العبقرية في أسلوب الحكي والتنويعات السردية التي اعتمدها في أنواع الخطاب ولسان الراوي المبطن وفي تقنيات الوصف التي كان فيها يبرز حالات الشخوص وطبائعهم دون تصريح واضح بحيثياتها، وكذلك كان يفعل في تحليل نفسيّات هذه الشخوص مرتكزاً على البعد الإنساني بكل حيّادية ومحافظاً على مسافة آمنة من تناقضاتها وعفويّاتها وتعدد أبعادها السيكولوجية والاجتماعية... يفعل نجيب محفوظ نفس الشيء في تأريخ اللحظات الزمنية المهمة للمكان مُعرِضاً دائماً عن التصريح المباشر، مكتفياً باستضافة قدر من الأحداث البارزة ومعلِّقاً على الهوامش التي تمّ تجاهلها في زحمة التفاصيل، هوامش كانت مؤثرة وظلّت منسية.
إن نجيب محفوظ وبمعزل عن التجاوز الكبير الذي حققه على مستوى النص، ورغم انتزاعه صراحة لإعجاب النقد بعد طول تجاهل، فقد عاش في رأيي مظلوماً. جوهر الظلم في حالة هذا العبقري هو التقصير الملاحظ في تناول الجانب الفلسفي من إبداعه، فنجيب محفوظ لم يكن روائياً فحسب، بل حمل في أدبه سمات الفيلسوف العارف والمتأمّل القلِق رغم كل ما عُرف عن الرجل من طباع الهدوء والّلين.
لم تحضر الخلفيّة العلمية لدراسة الفلسفة بصورة ذهنية في روايات نجيب محفوظ، بل جاءت بصيغة فنية عالية الذوق وعميقة الرؤية... ولعل تعريف نجيب محفوظ للفلسفة بأنها «قصور جميلة لكنها لا تصلح أبداً للسكن» يوفّر على القارئ عناء التفكير في هذه المعادلة الصعبة التي ربطت دائماً بين أعمال الكُتاب وتخصّصاتهم الأكاديمية. لكنّ نجيب محفوظ لم يكن أكاديمياً في كتاباته بالمعنى الحرفي، بل استضاف على نحو هامس وبليغ عنصر الفلسفة في خلفيّات أعماله من مختلف الأبعاد، لا سيما السياسية منها بحيث لا يكاد يخلو منها عمل، وكذلك كان النقاش الاجتماعي وإثارة المسكوت عنه من تناقضات المجتمع المشرقي حاضراً بكيفية بلاغية في كتابات هذا الروائي الفذ، وكان نقده واضحاً للغة الجمود التي اكتسحت المشهد الأدبي والفكري طوال عقود النصف الأول من القرن العشرين، وكأنه كان بذلك يدعو ضمنياً إلى هدم أسوار التراث الثقافي والديني والتي سكنتها الخرافة قروناً طويلة من الزمن ولم يجرؤ الكثيرون على مجابهتها بشكل جدّي!
إنّ التجدد الذي ميّز شخصية نجيب محفوظ وانعكس على كتاباته، لم يتمثل فقط في قدرته على ترويض آلة الزمن بحيث لم تؤثر على استدامة منتوجه الإبداعي حتى آخر سنوات حياته، بل تمثلت كذلك في قدرته على فهم المتغيرات التي شهدها محيطه بصورة متجددة جعلته يغضّ الطرف عن الخوض في العابر من الأحداث ويتفاعل فنيّاً وثقافياً مع المفصلي منها. لذلك ربّما كانت لنجيب محفوظ آراء سياسية شهيرة حول خيارات الحرب والسلام وربما كانت له أيضاً أهواء حزبية لم تصل أبداً إلى درجة الانتماء. هذا لم يكن سقف نجيب محفوظ في التأثير والتفاعل مع سلسلة التحولات الكبرى التي عرفها محيطه، بل سجّلت كتاباته في المجمل موقفاً صريحاً من اليوتوبيا الماضوية والتاريخ المحنّط والفهم «التقليداني» لنصوص التراث، ولعل انحيازه للعلم والمعرفة المادية كان صريحاً أيضاً دون تنصّل تام من أهمية الجانب الروحي لمجتمعات شرقية شكّلت منطقتها على الدوام عاصمة للرّسالات السماوية في العالم.
لم يجسّد نجيب محفوظ في أعماله صورة الواقع المصري اليومي والتاريخي فحسب، بل كان يقرأ هذا الواقع في سياق حركته البشرية والتاريخية وفق معطيات شتّى. كانت السياسة حاضرة بالتأكيد وكذلك كان الدين، وحضرت الفلسفة كي تفكك مكونات هذه التركيبة، لتصبح الرواية في النهاية بمثابة لوحة فنية تستدعي مجمل هذه العناصر وتحيلها إلى علامات يقف عندها المتأملون وقفة متأنية كي يتنفسواْ هواءها المشبع بالدلالات والرؤى... هواءٌ اتفقَ دائماً مع المنطق والحركية واختلف مع الجمود حدّ القطيعة.

- كاتب وشاعر من المغرب



نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان
TT

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

النصبان الجنائزيان
النصبان الجنائزيان

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى، لا نجد ما يماثله في الحواضر المجاورة لها. خرج هذا النتاج من الظلمة إلى النور خلال العقود الأخيرة، وتمثّل في مجموعة كبيرة من شواهد القبور المزينة بنقوش تصويرية آدمية، عُثر عليها في سلسلة من المدافن الأثرية، أبرزها مقبرة الشاخورة. تعكس الشواهد التي خرجت من هذه المقبرة التعدّدية في الأساليب الفنية التي طبعت هذا النتاج البحريني المميّز، وتتجلّى هذه الخصوصية في نصبين ظهرا جنباً إلى جنب في معرض أقيم منذ سنوات في متحف البحرين الوطني تحت عنوان «تايلوس رحلة ما بعد الحياة».

افتتح هذا المعرض في مطلع مايو (أيار) 2012، وضمّ ما يقرب من 400 قطعة أثرية مصدرها مقابر أثرية أقيمت في مستوطنات متعددة تقع اليوم في مملكة البحرين. حوى هذا المعرض مجموعات عدة، منها مجموعة من الأواني الفخارية والحجرية والزجاجية والرخامية، ومجموعة الحلى والمصوغات المشغولة بالذهب والفضة والأحجار المتنوعة، ومجموعة من المنحوتات الجنائزية، منها قطع تمثل شواهد قبور، وقطع على شكل منحوتات ثلاثية الأبعاد من الحجم الصغير. كما يشير العنوان الجامع الذي اختير لهذا المعرض، تعود هذه القطع إلى الحقبة التي عُرفت بها البحرين باسم تايلوس، وهو الاسم الذي أطلقه المستكشفون الإغريق على البحرين، كما أنه الاسم الذي اعتُمد للتعريف بحقبة طويلة تمتد من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن الثالث بعد الميلاد. ويجمع بين هذه القطع أنها خرجت كلها من المقابر، أي أنها تحمل وظائفية جنائزية، وتُمثل «رحلة ما بعد الحياة»، أي رحلة إلى ما وراء الحياة الأرضية التي تقود بانقضائها إلى حياة أخرى، يصعب تحديد معالمها في غياب النصوص الأدبية الخاصة بها.

حسب قدامى كتّاب الإغريق، أطلق المصريون القدماء على مقابرهم اسم «مساكن الأبدية»، وتردّد هذا الاسم في صيغ مختلفة عبر أنحاء العالم القديم على مر العصور، كما يُجمع أهل العلم. من هذه المساكن الأثرية في البحرين، خرجت شواهد قبور نُحتت على شكل أنصاب آدمية من الحجم المتوسط، تطوّر شكلها بشكل كبير خلال القرون الميلادية الأولى. اختار منظّمو معرض «رحلة ما بعد الحياة» مجموعة من هذه الأنصاب تختزل هذه الجمالية المتعدّدة الفروع، منها نصبان يتشابهان بشكل كبير من حيث التكوين الخارجي، غير أنهما يختلفان من حيث الأسلوب، ويظهر هذا الاختلاف بشكل جلي في صياغة ملامح الوجه. خرج هذان النصبان من مقبرة الشاخورة، نسبة إلى قرية تقع شمال العاصمة المنامة، تجاورها قريتان تحوي كل منهما كذلك مقبرة أثرية خرجت منها شواهد قبور آدمية الطابع، هما قرية الحجر وقرية أبو صيبع.

يتميّز نصبا الشاخورة بانتصابهما بشكل مستقل، على عكس التقليد السائد الذي تبرز فيه القامة الآدمية بشكل ناتئ فوق مساحة مستطيلة مسطّحة. يبدو هذان النصبان للوهلة الأولى أشبه بمنحوتتين من الطراز الثلاثي الأبعاد، غير أن سماكتهما المحدودة تُسقط هذه الفرضية. يبلغ طول النصب الأكبر حجماً 45 سنتيمتراً، وعرضه 18 سنتيمتراً، ولا تتجاوز سماكته 9 سنتيمترات. يمثل هذا النصب رجلاً ملتحياً يقف بثبات، رافعاً يده اليمنى نحو الأعلى، وفاتحاً راحة هذه اليد عند طرف صدره. يثني هذا الرجل ذراعه اليسرى في اتجاه وسط الصدر، مطبقاً يده على شريط عريض ينسدل من أعلى الكتف إلى حدود الخصر. يتألف اللباس من قطعة واحدة، تتمثل بثوب فضفاض، يزيّنه شريط رفيع ينسدل من أعلى الكتف اليمنى، مع حزام معقود حول الخصر تتدلّى منه كتلتان عنقوديتان عند وسط الحوض. يقتصر الجزء الأسفل من النصب على أعلى الساقين، ويمثل الطرف الأسفل من الثوب، وهو على شكل مساحة مسطّحة يزيّنها شريطان عموديان رفيعان ومتوازيان.

يُمثل النصب الآخر رجلاً يقف في وضعية مماثلة، وهو من حجم مشابه، إذا يبلغ ارتفاعه 36 سنتيمتراً، وعرضه 15 سنتيمتراً، وسماكته 10 سنتيمترات. تتميّز يدا هذا الرجل بحجمهما الكبير، وتبدو راحة يده اليمنى المبسوطة بأصابعها الخمس وكأنها بحجم رأسه. يتبع اللباس الزي نفسه، غير أنه مجرّد من الشرائط العمودية الرفيعة، والحزام المعقود حول خصره بسيط للغاية، وتتدلّى من وسط عقدته كتلتان منمنمتان خاليتان من أي زخرفة. يتشابه النصبان في التكوين الواحد، وهو التكوين الذي يتكرّر في شواهد القبور البحرينية الخاصة بالرجال والفتيان، على اختلاف أعمارهم ومهامهم الاجتماعية. وهذا التكوين معروف في نواحٍ عديدة من العالم الفراتي، كما هو معروف في نواحٍ عدة من البادية السورية وغور الأردن، ويُعرف بالطراز الفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية التي نشأت في إيران القديمة، وأبرز عناصره اللباس المؤلف من قطعة واحدة مع زنار معقود حول الوسط، وراحة اليد اليمنى المبسوطة عند أعلى الصدر.

يخلو هذا التكوين الجامع من أي أثر يوناني، حيث تغلب عليه بشكل كامل وضعية السكون والثبات، بعيداً من أي حركة حية منفلتة، ويظهر هذا السكون في ثبات الوجه المنتصب فوق كتلة الكتفين المستقيمتين، والتصاق الذراعين بالصدر بشكل كامل. من جهة أخرى، تعكس صياغة الملامح الخاصة بكلّ من الوجهين. رأس النصب الأول بيضاوي، وتجنح صياغة ملامحه إلى المحاكاة الواقعية، كما يشهد الأسلوب المتبع في تجسيم العينين والأنف والفم. أما رأس النصب الثاني فدائري، وتتبع صياغة ملامحه النسق التحويري التجريدي الذي يسقط الشبه الفردي ويُبرز الشبه الجامع، ويتجلّى ذلك في اتساع العينين اللوزيتين، وتقلّص شفتي الثغر، وبروز كتلة الأنف المستقيم.

أُنجز هذان النصبان بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ويمثّلان فرعين من مدرسة محليّة واحدة برزت في البحرين وازدهرت فيها، والغريب أن أعمال التنقيب المتواصلة لم تكشف بعد عن نحت موازٍ في نواحٍ خليجية مجاورة لهذه الجزيرة، شكّلت امتداداً لها في تلك الحقبة.