باريس متمسكة بوساطتها رغم العقبات الإيرانية والأميركية

المبادرة الفرنسية للتوسط بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، لم تصل بعد إلى طريق مسدودة تماماً، بل ما زالت هناك كوة في الجدار، رغم تصريحات المسؤولين الأميركيين في الساعات الثمانية والأربعين الماضية. الدليل على ذلك أن الرئيسين دونالد ترمب وإيمانويل ماكرون ما زالا على تواصل، وهذه المرة بمبادرة من الأول الذي لم يستبعد، أول من أمس، عقد لقاء مع الرئيس الإيراني حسن روحاني، ربما على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأيام العشرة الأخيرة من الشهر الحالي.
هذا الانطباع عززته مصادر القصر الرئاسي في باريس، التي علقت على الاتصال الهاتفي الأخير بين الرئيسين الأميركي والفرنسي، بقولها إن «الحوار مستمر، وهو يندرج في إطار استكمال الاتصالات المنتظمة التي أجرياها في الأشهر الأخيرة» حول الملف الإيراني. لكن هذا الاتصال يختلف عن سابقيه، لأنه يأتي، من جهة، بعد النتيجة «المشجعة» التي أفضت إليها قمة بياريتز لقادة مجموعة السبع بفضل اللقاء الثنائي المطول بين ماكرون وترمب، والمحادثات الجماعية الأخرى، وما اعتبر أنه «ليونة» أميركية تجلت في إعراب الرئيس الأميركي عن «استعداده» للقاء روحاني «إذا توافرت الشروط» لذلك.
الحال، أن الأمور سارت، بعد ذلك، في اتجاه مغاير، إذ تعدلت اللهجة الأميركية (وكذلك الإيرانية)، وفشلت المهمة التي قام بها وزير الاقتصاد برونو لو مير، بحر هذا الأسبوع في واشنطن. والسبب أن إدارة ترمب (خصوصاً الجناح المتشدد فيها) رفض الاستجابة للمطلب الفرنسي الذي يشكل واسطة العقد في وساطة باريس، وقوامه السماح لإيران بتصدير كميات من نفطها لتعويم اقتصادها، بالتوازي مع تقديم خط ائتماني أوروبي من 15 مليار دولار، يكون النفط ضمانته ما يشكل ربع مبيعات إيران من البترول للعام 2017.
وما يزيد من مصاعب الدور الفرنسي لجوء طهران لتنفيذ «المرحلة الثالثة» من تخليها عن بنود اتفاق عام 2015، رغم الضغوط الفرنسية والأوروبية، الأمر الذي يزيد من حالة التوتر، خصوصاً أن المرحلة المذكورة تمس جانباً «حساساً» من البرنامج النووي الإيراني، وهو تخصيب اليورانيوم بفضل الطاردات المركزية التي تريد طهران الآن تطويرها من غير قيود.
في المحادثة الهاتفية، كان موضوع تخفيف العقوبات عن إيران حاضراً بقوة، ولا شك أنه كان الأساسي لأنه يتحكم بمصير المبادرة الفرنسية. وفيما لم تشر مصادر الإليزيه إليه، أعلن جود ديري، وهو أحد مساعدي الرئيس ترمب، في تغريدة ليل الخميس - الجمعة، أن «الرئيس الأميركي أوضح لنظيره الفرنسي أن العدول عن العقوبات الأميركية على إيران لن يحصل في هذه المرحلة». وفي السياق عينه، أفاد مسؤول أميركي رفيع في وزارة الدفاع الأميركية، الجمعة، في إطار مؤتمر صحافي عبر الهاتف، بأن واشنطن متمسكة بنهج تشديد العقوبات على إيران لدفعها إلى التفاوض.
هذه التصريحات، مقرونة بما كرره ترمب نفسه، وما أوضحه مستشاره لشؤون الأمن القومي والمبعوث الأميركي للملف الإيراني برايان هوك، تدفع باتجاه تراجع الرئيس الأميركي عن «الليونة» التي بدرت منه في بياريتز. لكن الطرف الفرنسي ما زال يأمل بانتزاع تنازل ما لتحقيق اختراق في مبادرة الرئيس ماكرون، الذي هلل في حديثه للصحافة يوم 25 أغسطس (آب)، في بياريتز، إلى جانبه دونالد ترمب، للنجاح الذي حققه بقوله إن «الشروط توافرت للقاء (بين ترمب وروحاني) في الأسابيع المقبلة و(للتوصل) لاتفاق». ومن المرجح أن ماكرون يراهن على اجتماع مع ترمب في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث سيكون روحاني حاضراً أيضاً لتذكير نظيره الأميركي بوعوده. لكن لا شيء يحمل على الاعتقاد أنه سينجح في مهمته، رغم قدرته على الإقناع بسبب الضغوط التي يتعرض لها ترمب من محيطه المباشر، ومن أقرب مساعديه، خصوصاً إذا استمرت طهران في عملية الابتزاز التي تمارسها بحق الأوروبيين، على رأسهم ماكرون، وتوفير حجج إضافية للطرف الأميركي.
بيد أن بين باريس وواشنطن موضوعاً خلافياً آخر يتمثل في كيفية المحافظة على أمن الخليج وأمن الملاحة البحرية في المضائق. وهذا الموضوع سيكون الطبق الرئيسي للمحادثات التي يجريها اليوم وزير الدفاع مارك أسبر، في باريس، مع نظيرته الفرنسية فلورانس بارلي، بعد تلك التي أجراها في لندن مع نظيره البريطاني بن والاس، ومع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وكان ديري قد أشار، في تغريدته، إلى أن الرئيسين ترمب وماكرون «اتفقا على أنه من الضروري الحد من تصرفات إيران التي تهدد حرية الملاحة والتجارة في الخليج». وأفاد المسؤول الدفاعي الأميركي بأن واشنطن «تدرك اهتمام فرنسا بالمشاركة في حرية الملاحة وضمانها في الخليج، وسنتطلع إلى إيجاد طرق لتسخير واستخدام هذا الاهتمام للتنسيق بشكل أفضل مع مبادرتنا».
حقيقة الأمر أن لباريس رؤية مختلفة تماماً عن الرؤية الأميركية، وهو السبب الذي دفع فرنسا إلى رفض الانخراط في مبادرة واشنطن لإنشاء «تحالف» بحري دولي تكون مهمته السهر على الأمن، ومواكبة السفن التجارية التي تعبر مضيق هرمز.
وليس سراً أن باريس تفضل دوراً أوروبياً منفصلاً، وقد صفقت في حينه للمبادرة التي طرحها وزير الخارجية البريطاني السابق جيريمي هانت، التي تخلى عنها رئيس الوزراء الجديد بوريس جونسون، عندما ألحق بلاده بالمبادرة الأميركية. لكن مشكلات باريس التي لا تريد استفزاز إيران من خلال إرسال قطع بحرية إضافية إلى مياه الخليج، أن الأوروبيين غير متفقين على شكل ومضمون المبادرة الأوروبية، الأمر الذي برز بوضوح خلال اجتماعات هلسنكي قبل أسبوع لوزراء خارجية ودفاع بلدان الاتحاد.
وهذا الواقع يضع فرنسا في موقف متأرجح، إذ إنها غير راغبة بالسير في الركب الأميركي، ولا هي قادرة على تجميع الأوروبيين وراء خطة تحظى بقبولهم، وتكون رديفاً للمبادرة الأميركية. من هنا، لا يبقى أمامها، وهي المتعلقة بتوافر الأمن في مياه الخليج، التي تشغل قاعدة بحرية - جوية في أبوظبي، سوى «التنسيق» مع الأميركيين، بانتظار أن يتفق الأوروبيون على موقف في لحظة ما.