إيطاليا: كونتي يشكّل حكومة «ترمم العلاقات» مع الحلفاء الأوروبيين

بدت إيطاليا أمس الأربعاء وكأنها اجترحت معجزة تتحدّى منطق التوافق المتعارف عليه في السياسة وتخرق القواعد الأساسية التي تقوم عليها العلوم السياسية. فقد انتقلت، في أقل من شهر واحد ومن غير الذهاب إلى صناديق الاقتراع، من حكومة يمينية متطرفة جنحت نحو منحرفات عنصرية وتزّعمت المعسكر الذي يجهد منذ سنوات لمحاصرة القلعة الأوروبية من الداخل، إلى حكومة يسارية الميول والبرنامج، تتقدّم إلى الصفوف الأمامية للدفاع عن المشروع الأوروبي.
في الثالثة من بعد ظهر أمس الأربعاء توجّه رئيس الحكومة المكلّف جوزيبي كونتي إلى مقرّ رئيس الجمهورية سرجيو ماتّاريلا في قصر كويرينالي ليقدّم له تشكيلة الحكومة الجديدة التي كان ماتّاريلا قد سعى جاهداً إلى تشكيلها بعد الانتخابات العامة التي جرت في مارس (آذار) من العام الماضي، قبل أن تصطدم بالرفض القاطع من الطرفين، ممهداً لحكومة ائتلافية شعبوية بين حزب «الرابطة» وحركة «النجوم الخمس» هي الأولى من نوعها في الاتحاد الأوروبي.
لكن كونتي الذي أعلن أمس تشكيلة الحكومة الإيطالية الجديدة، يكاد لا يشبه في شيء كونتي الذي رأس الحكومة السابقة أربعة عشر شهراً كان خلالها بمثابة الكاتب العدل يكتفي بتنفيذ أوامر زعيمَي الائتلاف ويمضي معظم وقته في إطفاء الحرائق التي يشعلها النزاع الدائم بينهما، وفي تهدئة خواطر الحلفاء الأوروبيين الذين كانوا يضيقون ذرعاً بتحديات الحكومة الإيطالية وانحرافاتها ويتوجّسون كل المخاوف من عنتريّات وزير الداخلية ماتيو سالفيني الذي كان قد بدأ يحكم هيمنته على المشهد السياسي ويستعدّ للإمساك بزمام السلطة.
كونتي اليوم هو رجل المرحلة التي تعود فيها إيطاليا إلى حظيرة المشروع الأوروبي، وترمم علاقاتها مع كثير من حلفائها الأوروبيين الذين ابتعدت عنهم في الفترة الأخيرة. ومن دونه لم تكن هذه الحكومة لتشهد النور وتقطع الطريق السريع إلى الانتخابات التي كانت ستتوّج سالفيني منفرداً على قمة السلطة التنفيذية وتطلق صفّارات الإنذار في المحيط الأوروبي. لكن الإنجاز الأكبر الذي يخرج به كونتي من هذه الأزمة لن يكون دخوله النادي الضيق لرؤساء الحكومات الذين كرروا ولايتهم في إيطاليا، بل لكونه الذي أخرج ماتيو سالفيني من دائرة السلطة ووضعه على هامش المشهد السياسي الذي كان يتصدّره وحده منذ أكثر من عام. وليس مستغرباً أن يكون زعيم «الرابطة» قد صبّ كل انتقاداته على كونتي منذ بداية الأزمة التي كان المسؤول الوحيد عن تفجيرها عندما طلب سحب الثقة من رئيس الحكومة.
وأعربت معظم العواصم الأوروبية الكبرى عن ارتياحها لتشكيل الحكومة الإيطالية الجديدة التي أدرجت مسألة ترميم الجسور مع المؤسسات الأوروبية في أساس برنامجها، وتعهدت بإلغاء الإجراءات والقوانين التي أقرتها الحكومة السابقة وتتعارض مع الاتفاقات والمواثيق الأوروبية. وكان الارتياح باديا بشكل خاص في أوساط المفوضية الأوروبية التي عانت الأمرين في علاقاتها مع الحكومة الشعبوية خلال الفترة الماضية، لا سيّما أن المرشّح الإيطالي لمنصب نائب الرئيسة الجديدة للمفوضية، التي تباشر ولايتها مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، هو رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق باولو جنتيلوني المعروف بدفاعه عن المشروع الأوروبي.
من جهتها، تفاعلت أسواق المال بسرعة وإيجابية مع التشكيلة الحكومية الجديدة، إذ تراجع سعر الفائدة على سندات الخزينة الإيطالية إلى نصف ما كان عليه عند تشكيل الحكومة السابقة، فيما وصفت المديرة الحالية لصندوق النقد الدولي والحاكمة المقبلة للمصرف المركزي الأوروبي كريستين لاغارد تعيين روبرتو غوالتيري وزيراً للاقتصاد بأنه «خبر سار لإيطاليا ولأوروبا».
وكان لافتاً أيضا في التشكيلة الجديدة المناصفة تقريباً بين النساء والرجال، والتساوي في عدد الحقائب بين طرفي الائتلاف رغم أن عدد مقاعد حركة «النجوم الخمس» في البرلمان يضاعف عدد مقاعد الحزب الديمقراطي. وتجدر الإشارة إلى أن زعيم «النجوم الخمس» لويجي دي مايو، الذي تراجع عن إصراره على تولّي منصب نائب رئيس الوزراء، سيتولّى حقيبة الخارجية ويصبح بذلك الوحيد بين نظرائه الأوروبيين الذي لا يحمل شهادة جامعية.
ومن المقرّر أن تؤدي الحكومة الجديدة قسم الولاء للدستور صباح اليوم الخميس أمام رئيس الجمهورية، على أن تمثل أمام مجلسي النواب والشيوخ لطلب الثقة مطلع الأسبوع المقبل.