بريطانيا... هل ينفد حظها التاريخي؟

سبقت القارة الأوروبية فلم تضطرب لاضطراباتها بالقدر نفسه

آدم سميث
آدم سميث
TT

بريطانيا... هل ينفد حظها التاريخي؟

آدم سميث
آدم سميث

أتذكر دائماً محاضرات مادة الأدب العربي الحديث، والمبادئ التي شُرحت حول أدبيات الرواية، وأتذكر مقولة أن صناعة التراجيديا أسهل بكثير من الكوميديا، لأن الموت والمرض وتفرقة المحبين وغيرها أداة سهلة للروائي، ولا حكر على سلطاته في استخداماتها، وأتذكر تأكيده سهولة إبراز الشخصية أو البطل المحظوظ أو الموفق، فالحظ أو التوفيق أداة سهلة لقلمه، بالتالي فالحظ يصبح سبباً أساسياً للتراجيديا. وتولستوي، في تقديري، من أفضل من استخدم التراجيديا منذ أن أطلقها اليوناني «سوفوكليس» الذي تدين له البشرية بكثير من الحكمة والدموع. ولكن الإفراط في استخدام التوفيق أو الحظ يُضعف الأديب، ويُفقد مصداقية الرواية، لأننا ميالون بالطبيعة لقبولهما في اتجاه التراجيديا، لذا تكون هذه الشخصيات مثل «فورست جامب» أو «جميس بوند» ترفيهية الطابع محدودة المصداقية. ولكن هل ينطبق قانون الأدب على التاريخ؟ هنا يبدو أن الأمر ليس ببعيد، فهناك بالفعل شعوب تاريخها مليء بالتراجيديا عبر القرون، وعلى رأسها روسيا، على سبيل المثال لا الحصر، كما أن هناك شعوباً أقرب للحظ النسبي المقارن، وتقديري أن بريطانيا تحتل الصدارة بلا منافس.
الواقع أن بريطانيا دائماً ما سبقت القارة الأوروبية، فلم تضطرب لاضطراباتها بالقدر نفسه، فجاء تاريخها السياسي والعسكري والفكري أقل ألماً وأكثر ترجيحاً عن جيرانها. ولهذه الظاهرة شواهد كثيرة، ألخصها بشكلٍ مخلٍ فيما يلي:
أولاً: حسمت إنجلترا أزمة صراع السلطتين الدينية والملكية بشكل فريد للغاية، عندما قرر «هنري الثامن» بعد خلافه مع البابا بسبب الطلاق إصلاح الكنيسة، وفقاً لرؤيته وضمها للدولة، فأصبح رأس الكنيسة، وبات كبير أساقفة «كانتربري» في النهاية مطيعاً للبلاط الملكي. ورغم أنها لم تفلت من تبعات الحروب الدينية التي اجتاحت أوروبا في هذا الصراع، فإنها كانت أقل تأثراً بهذه الموجة. كذلك فإن أكبر تهديد خارجي في تاريخها حسمته معركة «الأرمادا» الشهيرة عام 1588، عندما أرسل القدر أمواجه العاتية لتغرق كثيراً من قطع الأسطول الإسباني التي كانت كفيلة باحتلال إنجلترا. ولا يفوتنا أن قرون الثورات في أوروبا ظلت محدودة الأثر على إنجلترا، فجاءت الحرب الأهلية قصيرة نسبياً، مقارنة بغيرها من الدول الكبرى. وكذلك الحكم الديكتاتوري لـ«كرومويل»، وما تبعه من استبداد ملكي انتهى في حقب أربع قصيرة بثورة سلمية، أو «الثورة المجيدة» التي وضعت النظام الملكي البرلماني الإنجليزي ثم البريطاني على شكله الحالي. وعندما اندلع موسم الثورات الأوروبية مع الثورة الفرنسية، فإن بريطانيا صارت بمنأى عنه، فلم يدمر هذا المد بريطانيا بسبب السياسيات المتقدمة للبرلمان الذي تحول من الأوليغاركية السياسية إلى الديمقراطية تدريجياً على مر قرابة إحدى عشرة حقبة بهدوء، لأن البرلمان سبق الموجات الثورية ونزع فتيلها بإصلاحات ممنهجة.
ثانياً: على الصعيد العسكري، يبدو أن الأمر تكرر بشكل مختلف، فبريطانيا لم تكن أبداً أكبر قوة عسكرية أوروبية، ولكنها كانت الأذكى، فلقد ركزت القيادة السياسية منذ الملكة «إليزابيث الأولى» على الأسطول كمصدر لقوتها الدولية، وربطته بفكرها الجيوبوليتيكي، فخدَّم على خطة الدولة التجارية ثم الإمبريالية. وفي سياستها الأخيرة، فإنها لم تلجأ، مثل آخرين، للاحتلال الكامل، والاستخدام المفرط للجيش لتغيير هوية المستعمرات، ترشيداً للتكلفة السياسية والمالية، ولكنها لعبت بذكاء شديد للسيطرة النسبية، بما يؤمن احتياجاتها السياسية والتجارية دولياً، فصارت تحكم خُمس العالم بلقب «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس»، بفضل الاستخدام الأمثل للأسطول.
ثالثاً: على الصعيد الفكري، لا خلاف على أنها كانت مصدر الفكر الليبرالي الحر، فكراً وتطبيقاً، فأول وثيقة في الليبرالية السياسية صيغت في بريطانيا في 1215، وهي «الماجنا كارتا» التي حسمت حقوق المواطن، وحجمت السلطة المطلقة للملوك، حتى وإن أغفلوها لاحقاً. وامتداداً لهذا جاء تأسيس التيار الليبرالي على أيدي بريطانيين قولاً واحداً، وتحديداً «جون لوك» والاسكوتلندي «آدم سميث»، فالأول وضع دستور وأركان هذا الفكر عبر الحريات الثلاث الأساسية، وتحجيم دور الحكومة، بينما وضع الثاني فكر ومؤسسية آليات السوق الحرة بكتابه «ثروة الأمم»، ولا خلاف على أن العالم مدين بهذا التيار الفكري لبريطانيا التي سبقته، تماماً مثلما أبدعت الثورة الصناعية الأولى والثانية، وركبت قطار التطور العلمي في العالم كله، وكذلك حركة الأدب منذ شكسبير.
وأياً كان مصدر هذا الرجحان البريطاني المقارن، الذي طورها وعصمها من التراجيديا التاريخية المقارنة، فإن هذه الظاهرة صارت مصدر تساؤل بعد قرارها الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ يسأل البعض: «هل ينفد حظ بريطانيا التاريخي؟». والحقيقة أنه كلما تأملت التاريخ العظيم لهذه الجزيرة، أميل للاعتقاد بأن الرجحان المنسوب للحظ إنما أتي في مرتبة أولى وكبيرة بفضل عظماء، أختزلهم بخلل شديد في: «إليزابيث الأولى»، و«وليم بيت» (الكبير والصغير)، و«نلسن»، و«وليجنتون»، و«بالمرستون»، و«ديزرائيلي»، و«تشرشل»، و«ثاتشر»... إلخ. إن البعض قد يربط تاريخ بريطانيا بالحظ، ولا غبار على ذلك، ولكن قانون علية الحظ البريطاني مرتبط في تقديري بالخصوبة البريطانية القادرة على إنجاب العظماء ذوي الرؤية الثاقبة أو احتضانهم. وكما قال «كاسلريه»، وزير خارجيتها المخضرم: «كل دولة لنفسها، والله لنا جميعاً». فالله يوفق الدول بقدر ما تصون سياساتها وتنجب عظماءها، و«إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟