المملكة المتّحدة بعد «بريكست»... تحدّي الحفاظ على الوحدة

قصر باكنغهام مقر الملكة في لندن (أرشيف – إ.ب.أ)
قصر باكنغهام مقر الملكة في لندن (أرشيف – إ.ب.أ)
TT

المملكة المتّحدة بعد «بريكست»... تحدّي الحفاظ على الوحدة

قصر باكنغهام مقر الملكة في لندن (أرشيف – إ.ب.أ)
قصر باكنغهام مقر الملكة في لندن (أرشيف – إ.ب.أ)

في يوليو (تموز) الماضي، أبلغ الوزير ديفيد ليدنغتون، الذي كان بمثابة نائب لرئيسة الوزراء تيريزا ماي، زملاءه في الحكومة التي كانت تعيش أيامها الأخيرة، أن خروجاً فوضوياً من الاتحاد الأوروبي، أي «بريكست» بلا اتفاق، سيجعل من بقاء بريطانيا مملكة متحدة تحدّياً حقيقياً. وحدّد اسكوتلندا حيث للحزب القومي الاسكوتلندي حضور قوي، مصدراً رئيسياً للخطر، لافتاً أيضاً إلى ارتفاع شعبية الحزب القومي في ويلز «بلايد كامري». كا تحدّث عن مشكلة الحدود بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا التي قد تغري كثراً بالعودة إلى المطالبة بإعادة توحيد الشطرين.
مع تسلّم بوريس جونسون زعامة حزب المحافظين وتوليه رئاسة الحكومة في 24 يوليو، واتجاه بريطانيا إلى «بريكست» بلا اتفاق، يبدو التفكك احتمالاً لم يكن بهذه الجدية منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2014 حين قرر 55.3 في المائة من الاسكوتلنديين البقاء ضمن المملكة المتحدة، مقابل 44.7 في المائة صوّتوا لمصلحة الاستقلال.
قصة المملكة المتحدة في صفحات التاريخ طويلة، وهي اتخذت شكلها الحالي عام 1922 بعد استقلال معظم الجزيرة الآيرلندية عن التاج البريطاني، باستثناء آيرلندا الشمالية. وبالتالي تتألف المملكة من بريطانيا العظمى، اي إنجلترا واسكوتلندا وويلز، وآيرلندا الشمالية، مع العلم أن الناس يستعملون اسمَي بريطانيا والمملكة المتحدة دون تمييز.
على مدى ثلاث سنوات منذ الاستفتاء الذي أجرته حكومة ديفيد كاميرون على البقاء في الاتحاد الأوروبي وانتهى إلى النتيجة المفاجِئة المعروفة، كانت الحجة الرئيسية لمناهضي الخروج أن الاقتصاد البريطاني سيتضرر بشدة، وهو ما بدأ يحصل بالفعل قبل الخروج. إلا أن الخطر الأكبر الذي يتبدّى يوماً بعد يوم، يتمثل في احتمال إجراء استفتاء آخر على الاستقلال الاسكوتلندي وتفكك فوضوي للمملكة المتحدة، سيكون، إذا حصل، حدثاً مذهلاً يتخطى بأشواط تفكك تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا عام 1992، حتى لو أن الثاني كان عنفياً.
وأتى تحذير في هذا الخصوص من أحد أهل الدار، رئيس الوزراء السابق غوردون براون – وهو اسكوتلندي – الذي لم يكتفِ بالتحذير من القومية الاسكوتلندية، بل نبّه إلى «القومية الإنجليزية» الضيقة لحزب المحافظين التي لا تمانع انفصال اسكوتلندا عن لندن. وهنا، يرى محللون وخبراء أن السياسة التي يعتمدها بوريس جونسون حيال «بريكست» تقود البلاد في هذا الاتجاه، أي إلى صراع بين القومية الإنجليزية من جهة، والقوميات الاسكوتلندية والويلزية والآيرلندية من جهة أخرى.
ومما أجّج نار المشكلة، قرار جونسون – عبر الملكة إليزابيث الثانية من حيث الشكل والبروتوكول - تعليق عمل مجلس العموم (البرلمان) حتى 14 أكتوبر (تشرين) الأول، الأمر الذي يحول عملياً دون تشكّل غالبية برلمانية تستصدر قانوناً يمنع الحكومة من تنفيذ «بريكست» دون اتفاق مع بروكسل، علماً أن الموعد الأخير للخروج هو 31 من الشهر نفسه.

المقاطعات الثلاث
- تقع اسكوتلندا في شمال المملكة المتحدة. تبلغ مساحتها نحو 88 ألف كيلومتر مربع، وعدد سكانها 5 ملايين و400 ألف، ومتوسط الدخل الفردي السنوي 30 ألف دولار.
اتّخذت هويتها في أواسط القرن التاسع ميلادي، واتّحدت مع المملكة الإنجليزية في الأول من مايو (أيار) 1707. ويعتبر تاريخ 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 مهماً إذ انتقلت فيه صلاحيات كثيرة من السلطة المركزية في لندن إلى السلطات المحلية في إدنبره عاصمة اسكوتلندا.
يقود الحركة الاستقلالية في اسكوتلندا الحزب القومي الاسكوتلندي الذي تتزعمه رئيسة الوزراء المحلية نيكولا ستيرجن. ويملك الحزب 63 مقعداً من 129 في البرلمان الاسكوتلندي، ويحتل 35 مقعداً من أصل 59 مخصصة لاسكوتلندا في مجلس العموم البريطاني.
وإذا كان أكثر الاسكوتلنديين قد آثروا البقاء في المملكة المتحدة عام 2014، فإن استفتاء جديداً قد يأتي بنتيجة مختلفة، خصوصاً أن 62 في المائة من المقترعين في استفتاء 2016 صوّتوا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي.
- تقع مقاطعة ويلز في الخاصرة الجنوبية الغربية لبريطانيا، وتحتضنها إنجلترا من ثلاث جهات برية، فيما الرابعة للبحر.
تبلغ مساحة ويلز 20779 كيلومتراً مربعاً، يعيش فيها أكثر بقليل من 3 ملايين نسمة. ويبلغ متوسط الدخل الفردي السنوي نحو 27 ألف دولار.
انضمت المقاطعة إلى المملكة المتحدة عام 1707، ورغم السيطرة الإنجليزية الكاملة عليها احتفظت بثقافتها ولغتها التي لا تزال لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية.
لم تظهر في ويلز بوادر ميل انشقاقي واستقلالي كبير، مع أن الحزب القومي «بلايد كامري» (أي حزب ويلز) ينادي بالاستقلال منذ إنشائه عام 1925. والدليل على غياب النزعة الانفصالية عند معظم أهالي ويلز، أن الحزب لا يملك إلا 10 مقاعد من أصل 60 في البرلمان المحلي. كما أن المقاطعة صوّتت بنسبة 52.5 في المائة لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016.
غير أن الوضع قد يتغير في ظل الأزمة الحالية، وقد سمع رئيس الوزراء بوريس جونسون من رئيس وزراء ويلز مارك درايفورد، المنتمي إلى حزب العمال، أن «بريكست» سيكون كارثياً. ولئن كان من المستبعد أن تتظهّر اندفاعة انفصالية في ويلز، فإن المقاطعة لا بد أن تتأثر بالاتجاهات السلبية التي ستحصل حولها، خصوصاً في اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية.
- تقع آيرلندا الشمالية في الطرف الشمالي الشرقي للجزيرة الآيرلندية، وهي لا تتصل بالبر البريطاني. تبلغ مساحتها 14130 كيلومتراً مربعاً، ويتجاوز عدد سكانها بقليل مليوناً و800 ألف نسمة، 48 في المائة منهم من البروتستانت و45 في المائة من الكاثوليك.
عام 1922، بعد حرب الاستقلال والمعاهدة الأنجلو-آيرلندية، أصبح الجزء الجنوبي هو الدولة الآيرلندية الحرة ولاحقاً جمهورية آيرلندا، بينما اختارت آيرلندا الشمالية البقاء في المملكة المتحدة.
أواخر ستينات القرن الماضي، بدأت الاضطرابات واستمرت نحو ثلاثة عقود، وسقط فيها أكثر من 3 آلاف قتيل. وكان سبب الصراع الوضع غير المستقر لآيرلندا الشمالية داخل المملكة المتحدة والتمييز ضد الأقلية القومية الآيرلندية، وبتعبير آخر ضد الكاثوليك الذين دأبوا على المطالبة بالانضمام إلى جمهورية آيرلندا ذات الغالبية الكاثوليكية (87 في المائة من السكان).
ولم ينتهِ الصراع بين «الجيش الجمهوري الآيرلندي» وقوات الأمن البريطانية إلا بعد اتفاق «الجمعة العظيمة» الذي وقعته في 10 أبريل (نيسان) 1998 في بلفاست، الحكومة البريطانية والحكومة الآيرلندية وأحزاب آيرلندا الشمالية فحقق استقراراً في المقاطعة.
لكن هذا الاستقرار تهدده حتماً مسألة الحدود، ذلك أن عاملاً أساسياً من عوامل السلام كان قدرة الآيرلنديين الشماليين، ولا سيما الكاثوليك منهم، على العمل في آيرلندا بفضل فتح الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي. وعند خروج المملكة سيكون هناك ضرورة لإقامة حدود، وفق ما تقضي به نُظُم الاتحاد. وثمة خشية كبيرة من أن يؤدي التضييق على حرية الحركة إلى عودة المطالبة بانفصال آيرلندا الشمالية وانضمامها إلى الجمهورية، وبالتالي عودة العنف بين الكاثوليك والبروتستانت. وهذا من شأنه أن يهدد بقاء المقاطعة - التي صوتت عام 2016 لمصلحة الانتماء الأوروبي بنسبة 55.8 في المائة – تحت التاج البريطاني.
مهما يكن من أمر، تفرض حقيقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سواء باتفاق أو بلا اتفاق، سلسلة من التحديات على المستوى الوجودي لمملكة تضم أكثر من أمة. لذلك، سيكون على هذه الحكومة وأي حكومة في المستقبل، تكريس وقت وجهد كبيرين لتمتين تماسك الاتحاد. ولا يكفي في هذا الإطار أن يخلع بوريس جونسون على نفسه لقب وزير الاتحاد، إضافة إلى منصبه الأساسي، بل عليه أن يعمل جاهداً على معالجة مسألة الهوية والانتماء، وبلورة «وظيفة جديدة» للمملكة المتحدة لكي تبقى متحدة!



كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
TT

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)
نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

نجح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية جديدة في أوروبا وحول العالم، عبر جعل التهديد النووي أمراً عادياً، وإعلانه اعتزام تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

في عام 2009، حصل الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على «جائزة نوبل للسلام»، ويرجع ذلك جزئياً إلى دعوته إلى ظهور «عالم خالٍ من الأسلحة النووية». وفي ذلك الوقت، بدت آمال الرئيس الأميركي الأسبق وهمية، في حين كانت قوى أخرى تستثمر في السباق نحو الذرة.

وهذا من دون شك أحد أخطر آثار الحرب في أوكرانيا على النظام الاستراتيجي الدولي. فعبر التهديد والتلويح المنتظم بالسلاح الذري، ساهم فلاديمير بوتين، إلى حد كبير، في اختفاء المحرمات النووية. وعبر استغلال الخوف من التصعيد النووي، تمكن الكرملين من الحد من الدعم العسكري الذي تقدمه الدول الغربية لأوكرانيا منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، ومن مَنْع مشاركة الدول الغربية بشكل مباشر في الصراع، وتخويف جزء من سكان هذه الدول، الذين تغلّب عليهم «الإرهاق والإغراءات بالتخلي (عن أوكرانيا) باسم الأمن الزائف».

بدأ استخفاف الكرملين بالأسلحة النووية في عام 2014، عندما استخدم التهديد بالنيران الذرية للدفاع عن ضم شبه جزيرة القرم من طرف واحد إلى روسيا. ومنذ ذلك الحين، لُوّح باستخدام السلاح النووي في كل مرة شعرت فيها روسيا بصعوبة في الميدان، أو أرادت دفع الغرب إلى التراجع؛ ففي 27 فبراير 2022 على سبيل المثال، وُضع الجهاز النووي الروسي في حالة تأهب. وفي أبريل (نيسان) من العام نفسه، استخدمت روسيا التهديد النووي لمحاولة منع السويد وفنلندا من الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)». في مارس (آذار) 2023، نشرت روسيا صواريخ نووية تكتيكية في بيلاروسيا. في فبراير 2024، لجأت روسيا إلى التهديد النووي لجعل النشر المحتمل لقوات الـ«ناتو» في أوكرانيا مستحيلاً. وفي الآونة الأخيرة، وفي سياق المفاوضات المحتملة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، جلبت روسيا مرة أخرى الخطاب النووي إلى الحرب، من خلال إطلاق صاروخ باليستي متوسط ​​المدى على أوكرانيا. كما أنها وسعت البنود التي يمكن أن تبرر استخدام الأسلحة الذرية، عبر مراجعة روسيا عقيدتها النووية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع مع قيادة وزارة الدفاع وممثلي صناعة الدفاع في موسكو يوم 22 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

التصعيد اللفظي

تأتي التهديدات النووية التي أطلقتها السلطات الروسية في الأساس ضمن الابتزاز السياسي، وفق «لوفيغارو». ولن تكون لدى فلاديمير بوتين مصلحة في اتخاذ إجراء عبر تنفيذ هجوم نووي تكتيكي، وهو ما يعني نهاية نظامه. فالتصعيد اللفظي من جانب القادة الروس ورجال الدعاية لم تصاحبه قط تحركات مشبوهة للأسلحة النووية على الأرض. ولم يتغير الوضع النووي الروسي، الذي تراقبه الأجهزة الغربية من كثب. وتستمر الصين أيضاً في لعب دور معتدل، حيث تحذّر موسكو بانتظام من أن الطاقة النووية تشكل خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة إليها.

إن التهوين من الخطاب الروسي غير المقيد بشكل متنامٍ بشأن استخدام الأسلحة النووية ومن التهديد المتكرر، قد أدى إلى انعكاسات دولية كبيرة؛ فقد غير هذا الخطاب بالفعل البيئة الاستراتيجية الدولية. ومن الممكن أن تحاول قوى أخرى غير روسيا تقليد تصرفات روسيا في أوكرانيا، من أجل تغيير وضع سياسي أو إقليمي راهن محمي نووياً، أو إنهاء صراع في ظل ظروف مواتية لدولة تمتلك السلاح النووي وتهدد باستخدامه، أو إذا أرادت دولة نووية فرض معادلات جديدة.

يقول ضابط فرنسي: «لولا الأسلحة النووية، لكان (حلف شمال الأطلسي) قد طرد روسيا بالفعل من أوكرانيا. لقد فهم الجميع ذلك في جميع أنحاء العالم».

من الجانب الروسي، يعتبر الكرملين أن الحرب في أوكرانيا جاء نتيجة عدم الاكتراث لمخاوف الأمن القومي الروسي إذ لم يتم إعطاء روسيا ضمانات بحياد أوكرانيا ولم يتعهّد الغرب بعدم ضم كييف إلى حلف الناتو.

وترى روسيا كذلك أن حلف الناتو يتعمّد استفزاز روسيا في محيطها المباشر، أكان في أوكرانيا أو في بولندا مثلا حيث افتتحت الولايات المتحدة مؤخرا قاعدة عسكرية جديدة لها هناك. وقد اعتبرت موسكو أن افتتاح القاعدة الأميركية في شمال بولندا سيزيد المستوى العام للخطر النووي.