رحلة في قلب الجحيم الليبي

صحافي غيني يروي تجربته في سجن إحدى الميليشيات لقرابة ثلاثة أعوام

ليبيا.... خوض المعارك المؤدية إلى طريق معتم ومصير مجهول
ليبيا.... خوض المعارك المؤدية إلى طريق معتم ومصير مجهول
TT

رحلة في قلب الجحيم الليبي

ليبيا.... خوض المعارك المؤدية إلى طريق معتم ومصير مجهول
ليبيا.... خوض المعارك المؤدية إلى طريق معتم ومصير مجهول

مغامرة قاسية محفوفة بمخاطر الموت والتعذيب والجوع خاضها بشجاعة الصحافي الغيني «ألفا كابا» البالغ من العمر 25 عاماً ليقدم للقارئ خلاصة تجربته الخاصة مع الميليشيات في ليبيا، التي عاشها المؤلف على مدى ثلاث سنوات، من 2013 حتى 2016، مسجلاً تفاصيلها ووقائعها في كتابه «عبد الميليشيات... رحلة في قلب الجحيم الليبي» الواقع في 220 صفحة من القطع المتوسط والصادر مؤخراً عن واحدة من أكبر دور النشر الفرنسية وهي دار «فيار» للنشر.
يستهل ألفا كابا كتابه هذا باستعراض حياته في غينيا وعمله صحافياً في إحدى المحطات الإذاعية المحلية هناك، حيث كان مسؤولاً عن أحد برامج الندوات اليومية الذي يتعرض للمشاكل الحياتية، إلى أن تعرض لمشكلة هناك في إحدى الحلقات التي تم بثها في 2013، وتم توجيه الانتقاد الشديد على إثرها إلى المحطة الإذاعية، هذا مع بعض التهديدات التي استهدفت الصحافي ذاته؛ الأمر الذي دفعه للهرب من مسقط رأسه قاصداً باب الهجرة غير الشرعية نحو فرنسا عن طريق ليبيا، ليجوب خمس دول أفريقية، ويركب الكثير من الحافلات، إضافة إلى السير مترجلاً لمسافات طويلة في جيوب الصحراء إلى أن بلغ الأراضي الليبية. لكن توقف حلمه في «الهجرة لفرنسا» عند هذا الحد، فبمجرد وصوله منطقة «بني وليد» تم اعتقاله على أيدي إحدى الميليشيات النشطة هناك ليبدأ فصلاً جديداً من حياته أشبه بالجحيم، ويستمر هذا الفصل لفترة تقارب ثلاثة أعوام، وهناك يعيش مع عناصر أخرى قيد الحبس تخضع لسلطة أحد أفراد الميليشيات، ويتم انتقالهم من سلطة فرد إلى سلطة آخر وكأنهم سلعة أو بضاعة.
يشير المؤلف إلى الأيام الصعبة التي عاشها في ظل الميليشيا هناك، حيث تم تكليفه القيام بأعمال الزراعة والبناء والتشييد، هذا بالإضافة إلى بعض الأعمال الأخرى التي لا يمكن له التواني أو التأخير ولو للحظات عن تنفيذها، مثل دفن الموتى من زملائه قيد السجن. ثم قبع بأحد السجون هناك عام 2016 لتتولد في رأسه فكرة هذا الكتاب «ليكون بمثابة نصيحة لكل من يفكر في مجرد خوض هذه الطريق المعتمة والمجهولة». وهو لم يتمكن من تنفيذ هذا الكتاب إلا بعد حصوله على وضع «لاجئ سياسي» في مدينة بوردو الفرنسية، حيث التقى هناك الصحافي الفرنسي كليمون بوريه، الذي ذلل له العقبات حتى خرج هذا الكتاب إلى النور.
يسجل المؤلف وصفاً دقيقاً وواقعياً للأيام الصعبة التي عاشها في أحد السجون التابعة لمعسكرات الميليشيات في منطقة بني وليد الليبية، وكان مجرد رؤية طائرة تمر في المجال الجوي للمعسكر القابع في أحد سجونه حتى تثير لديه أمنيته وحلمه القديم المتمثل في بلوغ الأراضي الفرنسية. وكان جدوله اليومي يتلخص في القيام بالأعمال الشاقة وتناول وجبة واحدة يومياً وهو حال يطول 700 ألف على الأقل من المهاجرين غير الشرعيين الذين يعيشون اليوم في ليبيا أملاً في بلوغ الشواطئ الأوروبية. إلا أن معظمهم يقعون بين أيادي عشرات الميليشيات النشطة هناك ليقبعوا خلف سجون المعسكرات التابعة لهذه الميليشيات، التي تحتجز بعضهم رهائن مقابل مطالبة ذويهم بدفع الفدية. وفيما يتعلق بالنساء القابعات خلف أسوار السجون التابعة للميليشيات، فهن يتعرضن لاعتداءات جنسية يومياً، وضرب وعنف جسدي.
ويقول المؤلف، إن ما يحدث في ليبيا ليس سراً في حد ذاته، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، أي بعد عام من إطلاق سراحه، نشر صحافيون من «سي إن إن» صوراً لمشاهد كثيرة تتعلق ببيع العبيد على أيدي الميليشيات في ليبيا، كما تناولت الصحافة هي الأخرى شهادات كثيرة في هذا الشأن، أي أننا، كما يضيف، أمام وضع يؤدي إلى نتيجة واحدة مفادها أن العبودية والاتجار بالبشر أصبحا يمثلان أمراً عادياً وتقليدياً في ليبيا.
خطورة هذا الوضع، يقول ألفا كابا، دفعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى أن يدين هذه الممارسات في 22 من نوفمبر 2017، واصفاً إياها بأنها تمثل وبحق جرائم ضد الإنسانية. إضافة إلى ذلك، فقد أعلنت حكومة إدوارد فيليب مطلع صيف 2018 عن تعزيز تعاونها مع الدولة الليبية بهدف إحكام السيطرة على تدفق تيارات الهجرة غير الشرعية، وتفكيك الشبكات الإجرامية التي تمتهن مهنة الاتجار بالبشر. ونظراً لزيادة هذا النمط من النشاط على الأراضي الليبية، فقد وصف صحافيون وباحثون عدة المشهد في ليبيا بـ«أننا أمام دولة تقريباً دون دولة».
وفى ظل هذا الوضع، يخلص المؤلف إلى أنه ليس هناك أي دولة أوروبية على استعداد اليوم للتحرك لإنهاء عمليات العنف والوحشية التي تشهدها سواحلها نظراً لخطورة الوضع على خلفية حالة الانفلات غير المسبوقة التي تشهدها الأراضي الليبية.
يذكر المؤلف أنه كان يتمتع ببنيان رياضي قوي وسليم، إلا أنه بعد مكوثه لما يقرب من ثلاثة أعوام خلف أسوار السجون التابعة للميليشيات في ليبيا، وما كان يقوم به هناك من أعمال شاقة، أصيب جسده بالهزال والضعف، وأضحى جسده يشبه الجثمان إلى حد كبير. ثم يعود بنا الكاتب لأحد أيام شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2016 ونشوب حريق في أحد العنابر التي كانوا يقطنونها؛ الأمر الذي دفعهم للتفكير في الهرب. وأخبره صديقه ورفيق رحلته في الرق والعبودية إبراهيم (سنغالي الجنسية) بأنهم سيهربون إلى الشواطئ الأوروبية ليلاً، وأن هناك سيارة دفع رباعي ستنقلهم إلى المركب الذي سيقلهم إلى هناك ليصلوا ليلاً للشاطئ، حيث ينتظر هناك 150 شخصاً من الرجال والنساء دورهم للصعود إلى المراكب في مجموعات يقدر قوام الواحدة منها بعشرة أفراد، ليقلهم بعد ذلك إلى الشاطئ الأوروبي. إلا أن المركب المقرر أن يقلهم إلى الشواطئ الأوروبية كان بحالة سيئة للغاية، وبمجرد أن دخلوه وصلت المياه إلى ركابهم، كما أن محركه لم يكن يعمل بسهولة. ومن هنا بدأت رحلتهم البحرية صوب الشواطئ الأوروبية لتنسيهم شدة البرودة والقلق المسيطر عليهم من المجهول والمجازفة في تحقيق الحلم القديم المتمثل في الوصول للأراضي الفرنسية، وبخاصة أن البحر لم يكن ساكناً وتحيط بهم الأمواج من كل جانب. ويتحدث المؤلف بالتفصيل عن مدى صعوبة رحلته البحرية تلك، وبخاصة أنه لم يكن ماهراً في السباحة، لكنه استطاع أن ينجح، وبخاصة بعدما طُلب منه النزول في المياه لاستكمال رحلته حتى الشاطئ الأوروبي بمفرده، وهذا ما نفذه بالفعل لتبدأ بعد ذلك رحلة إدارية أخرى لإضفاء الوضع القانوني والشرعي على وجوده ويحصل على صفة لاجئ سياسي في مدينة بوردو الفرنسية.



سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»