الشك عبر السؤال في الرواية الحديثة

ليس من السهل على الإنسان أن يفهم الطابع الموضوعي للقوانين أو التمكن من تغييرها

الشك عبر السؤال في الرواية الحديثة
TT
20

الشك عبر السؤال في الرواية الحديثة

الشك عبر السؤال في الرواية الحديثة

تتيح الرواية لكاتبها التعبير عن رؤاه الفكرية وتصوراته الحياتية إزاء الواقع من خلال شخصيات يتقصد جعلها وسيلة للبوح بالأسرار، لتستكشف المجهول المخفي في محاولة منه لعله يجد فهما للواقع وإشكالاته. وتعد الأسئلة وتدفقها داخل المتون السردية من أهم الوسائل التي تساعد على هذا كله بفضل ما تؤديه من دور في الاستثارة واستغوار تفاصيل الواقع المعيش وأبعاده المنظورة وغير المنظورة.
وهذا منظور ظاهراتي يعطي رؤية خاصة للوجود، وعن ذلك يقول مفكر الظاهراتية الألمانية أدموند هوسرل: «لا أستطيع أن أشك في أشياء كهذه أكثر من شكي بضربة حادة على الجمجمة...». وهذا ما يلقي بالرواية في مضمار مادي تحاول فيه مواجهة العالم في حركته الدائبة المتطورة. وهو ما تصفه الماركسية بالديالكتيك.
ومعرفة هذه القوانين أمر لا غنى عنه للنشاط العملي الإنساني الذي يقتضي ارتباط الشخصية الروائية، بالتطور في الواقع، كسمة مهمة للعالم المادي، وعندئذ تطوّع بعض قوانين الديالكتيك المادي ومقولاته في سبيل عكس هذه الارتباطات في الوعي، لاكتشاف القوانين الموضوعية.
ولان الأسئلة بوابة مهمة لفهم العالم، وعملية تطوره لذلك تصبح هذه الأسئلة ضرورية في المساعدة على دراسة الصورة العامة لهذا التطور كجانب من جوانب الديالكتيك، وهي تنطوي على تصارع الأضداد كأحد قوانين حركة العالم وترابطه الشامل فالأشياء والظواهر لا تطور نفسها على انفراد؛ بل هي تترابط في وحدة لا تتجزأ مع غيرها من الأشياء والظواهر وكل واحد منها يؤثر على غيره من الأشياء وهو بدوره يخضع للتأثيرات المضادة.
ولا يكون التوغل في الديالكتيك إلا عندما تكون واقعية الحياة غير معقولة أو لا منطقية، فيصبح الوجود بعيدا عن المثالية، والحياة لا تفهم إلا عبر التوغل في التساؤل والتركيز على الانثيالات الحدسية للقضايا والأفكار التي يقود التعاطي الديالكتيكي معها نحو التشظي والتعدي والتنوع إزاء الوجود بهدف فهم فلسفته وعلاقته بالعدم والحدس.
وتتخذ جدلية السؤال والجواب عند غادامير وهانس روبرت ياوس شكل نشاط قرائي على أساس أن العلاقة بين النص والقارئ إنما تخضع لمنطق السؤال والجواب، فالنص يحفز القارئ ويحاول هذا الأخير انطلاقا من معرفة معينة أن يجيب عن الأسئلة وقد تختلف الإجابة من قارئ إلى قارئ.
وإذا كنا نتصور أن لا فضاء لسؤال وجواب إلا في شكل استنطاق أو استجواب لأن القارئ هو الذي يقوم بصياغة الأسئلة وتوليدها من رحم النص ذاته؛ فإن قيام المؤلف بجعل السارد هو منجم صياغة الأسئلة داخل النص سيجعل القارئ أكثر فاعلية من الناحية القرائية باتجاه استدلال أبعاد التساؤلات والوقوف على فحواها، كما يكون أدنى قربا من استحصال الإجابات لها وأكثر استعدادا لرصد ماهيتها عبر التأمل الذي يوجه قراءاته توجيها مدرباً محنكاً وبمداومة فكرية.
ولذلك تغدو الأعمال الروائية ذات الأرضية المتسائلة والحاملة لنزعة التشكيك أكثر اندماجا في نظريات التلقي ومناهج القراءة كونها تطرح الأسئلة وتنكب على تواليها متعمدة استمرارها. وهو ما يضع هذه الأعمال منضوية في خانة الرواية ما بعد الحداثية موصوفة بأنها من (الرواية الجديدة) كونها لا تخاطب قارئا اعتياديا خاملا؛ بل هي تتقصد التوجه إلى قارئ نوعي، يوصف بأنه قارئ فاعل لا مستهلك، ومتحفز لا مستسلم، ومتحاور لا ملقن.
ولما تعد ثيمة التساؤل منطوية على قصدية التشكيك وفاعلية الحيرة والتذبذب بديالكتيكية تستدعي معرفة ماهية الوجود وفهم العالم المرئي واللامرئي؛ فإن التدليل على هذا التوصيف النظري يتطلب الوقوف عند عينات روائية.
وتنزع الرواية الجديدة إلى أن تجعل صلة الشك في السؤال تتمة للوجود، ولا شك أن العمل الفني إنما يعبر عن اللحظات الأساسية في تطور الفكرة المطلقة، وأن الأفكار تعود إلى فكرة الوجود على اعتبارها الفكرة الوحيدة التي تتحرك وتتطور.
وإذا ما أصبح التساؤل بالإيجاب والسلب بحثا عن الحقيقة هو أساس العمل الروائي؛ فإن هذا ما يجعل البحث عن السببية في لا منطقية الأحداث ولا معقوليتها بحثا شكّاكا في الفكر عن العلاقة المزدوجة بين الوجود والعدم.
والإنسان عموما ليس من السهل عليه أن يفهم الطابع الموضوعي للقوانين أو التمكن من تغييرها؛ لكنه بالأسئلة المنطقية المحتكمة إلى العقل والمراهنة على العلمية يقدر على مواجهة الوجود بقوانين وفرضيات تنظم صيرورتها وتجعلها تترابط بشكل جوهري وضروري فتكون للعالم من ثم ماديته المنطقية.
وبالأسئلة تتولد الرؤى والأفكار وتختبر ويشكك فيها، ومن خلال التساؤل يطرح الفكر مشاكله، ولا أسئلة من دون وجود صراع بين الأضداد يولِّد طاقة بها يتحرك العالم ويتطور وبعبارة أخرى ما دام هناك تضاد؛ فإن هناك تصارعا عقليا دائما يطور العالم ويحفز الوعي بالتنافر أو بالتناقض الذي هو المحتوى الداخلي للحقيقة وموضع تطورها. وعلى الرغم من حتمية التنافر والتناقض بين الموجودات؛ فإنها تظل مستلزمة بعضها بعضا، ومتعايشة في الوقت نفسه.
وتظل المعرفة أساس كل تلك المفاهيم والمقولات، ولعل أحد أهم مصادر المعرفة ومظان العثور عليها هو استمرار التساؤلات بقصد معرفة العالم وفهمه وإدراك الوجود وماهيته. ولن يظفر الإنسان بالحقيقة إلا عن طريق التساؤل الذي به يتمكن من الارتقاء من مستوى المدركات المحسوسة الحية إلى مستوى الأفكار التجريدية الصرفة والغاية التي يسعى إليها هي معرفة الحياة وفهمها.
ولا مناص لنزعة التساؤل من أن تكون مستندة إلى حقيقة جوهرية مفادها أن لكل إنسان نظراته ومثله وأحلامه ورغباته وأمزجته وعيه الفردي، ولا يكون هذا الوعي حاضرا ما لم يعكس الوجود الاجتماعي من زاوية متطلبات الفرد واهتماماته وأهدافه الاجتماعية.
ويظل تحقق هذا الوعي مرهونا بالطريقة التي بها توظف الرواية العربية الجديدة نزعة التساؤل في إطار جدلي إزاء العالم الروائي من خلال صناعة شخصية رئيسية لتكون فاعلة في توضيح المغلق واستكناه الأسرار لعلها تتمكن من الظفر بالفهم لما هو فوضوي أو غير مقنع أو ملتبس من الظواهر والمفاهيم والتصورات التي تحيط بواقعنا وتغزو علينا حياتنا ووجودنا.
وتحتل قضية إدراك الوجود الاهتمام الرئيسي الذي تنصبّ عليه التساؤلات التي تقضُّ على الشخصية المحورية مضجعها فتجعلها نهبا للشكوك وفريسة للحيرة التي تلقي بها في دوامة التفكير المنطقي محاولة التعبير عن توقها إلى الظفر بالحقيقة وفهم غائية الموجودات محسوسات ومرئيات ومدركات.
ويعد الشعور بالفوضى واللااتزان والإحساس بالشك والتذبذب والوقوع في دائرة الوهم من أهم المحفزات التي تدفع بالشخصية الروائية نحو التساؤل، فتتداعى الأسئلة على لسانها متدفقة في وعيها بعفوية وربما بقصدية، والهدف من وراء ذلك هو الرغبة في إعادة تشكيل الواقع المفكك وترميم المحيط المهشم وإنقاذه من السقوط والتدهور والشذوذ.
وقد لا يبغي الكاتب من وراء ترك الشخصية متسائلة وحائرة في واقعها مشككة في قيمها تحقيق استرضائها عن الواقع؛ بل توجيهها لمعارضته والتضاد معه والتشكيك فيه من خلال تحويل الكتابة إلى أداة للتهشيم والقمع والتطرف واللاعقلانية.
وقد يرتكن البوح بالتساؤلات وانثيالاتها تداعياً وقصدية على الحدس الذي به تتمتع الكينونة الساردة بالوعي لتتم رؤية العالم بدوغماتية، فيتوكد تحليلها له بشكل عقلاني. وقد لا يغدو انثيال الأسئلة مهما وجوهريا؛ إلا إذا تمت صياغتها أو إعادة صياغتها باتجاه بلوغ الأجوبة وهذا الأمر يظل رهنا بالمؤلف، كما يتوقف على القارئ وفقا لنظرية التلقي والاستقبال.

- ناقدة وأكاديمية عراقية



«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم
TT
20

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

يكتب السوريّ فوّاز حدّاد في «الروائي المريب» (رياض الريّس، بيروت، 2025) عن كاتب غامض يُدعى «أسعد العرّاد»، بطريقة أشبه بـ«كوميديا سوداء» تقع في مفترق الطرق بين التوثيق الساخر، والتأريخ الرمزيّ، والانقضاض السردي على نُخب صنعت ثقافتها من ولاءاتها وارتكاساتها في ظلّ نظام يستخفّ بها ويوظّفها بطرق مشينة لخدمته.

بطل الرواية، أو بالأحرى اللابطل، هو «الروائيّ الشبح»، كاتب ينشر رواية واحدة ثم يختفي. لا يُعرف اسمه الحقيقيّ، وليس له صورة، إنّما يتجسّد فقط من خلال روايته. الغائب، الذي لا يحضر في اللقاءات والندوات والمقاهي الأدبية، يصبح فجأة محور الهجوم، والقلق، والحسد، والافتراء؛ لأنّه كسر القاعدة، كتب من دون أن يكون من «القطيع الثقافيّ».

«الشبح» هنا ليس أسطورة أدبية، إنّما هو رعب وجوديّ للوسط الثقافيّ السوريّ الموصوف في الرواية. هو من يُسقط، دون أن يتكلّم، كلّ الأقنعة عن المثقّف السلطويّ، عن النقّاد المأجورين، عن ثقافة الولاء والانبطاح، فغيابه هو الذي صنع حضوره الطاغي.

تدور الرواية، التي تبدو كأنّها جزء ثانٍ من روايته «المترجم الخائن» من حيث الاشتغال على الفساد الثقافيّ والشلل العابرة للحدود، في دمشق، لكن دمشق ليست فضاءً محايداً، هي مسرح الجريمة الثقافية المستمرّة. تنتقل الرواية من مقهى الروضة إلى اتّحاد الكتّاب، من أروقة الجرائد الرسمية إلى صالونات النميمة الأدبية، من كواليس وزارة الثقافة إلى دهاليز المخابرات والقصر الجمهوريّ في زمن الأسدين، حيث تتقاطع السلطات وتُطبخ المصائر.

تقدم الرواية ثنائية مثيرة: «فريد جسّام» و«حسين كرّوم»، كنموذجين للمثقف المرتزق، المنتفع، السلطويّ، الموهوم بعظمة لا تتحقّق. كلاهما يشعر بالخطر من «الروائيّ الشبح»، يحاولان تحويل الهجوم عليه إلى مسألة وطنية، سياسية، آيديولوجية. يندفعان في حملة تشويه معلنة وسرّية، يشكّلان عصابة، يجنّدان أتباعاً، ينسّقان مع الأجهزة، في سبيل القضاء على الرواية وكاتبها.

يفكّك فوّاز حداد في روايته فكرة «المثقف التقدّميّ» أو «المفكّر الراديكاليّ» الذي يتحوّل إلى رقيب ثقافيّ، إلى معوّق للحداثة، إلى وكيل أمنيّ بغطاء ثقافي. ويمثّل كلّ من «جسّام» و«كرّوم»، ومن ورائهما سلطة مزدوجة: سلطة حقيقية داخل المؤسسات، وسلطة رمزية تحكم من تحت الطاولة.

ينوّع الكاتب بين أساليب كتابة مختلفة في روايته، تراه يسخر، يتهكّم، يروي، يسجل، يفضح. كأنّ الرواية «سيرة ثقافية لمجتمع أدبيّ»، تتحوّل تدريجياً إلى هجاء مرير، ثمّ إلى كشف بوليسيّ، ثمّ تعود إلى كابوس ساخر. وتراه يكتب عن سلوكيات الكتّاب بالموازاة مع تعرية «المؤسّسة الثقافيّة» بوصفها سلطة مضادّة للحرّية، تستدرج الكتّاب إلى مسالخها، وتكافئ الطيّعين، وتغتال المتمرّدين.

في المفارقة الكبرى، تصبح الرواية ذاتها موضوعاً للرواية، فـ«الروائي الشبح» لا يُكتب عنه فقط، بل تتحوّل روايته «لقاء لا ينتهي» إلى بؤرة أساسية تدور حولها الأحداث، ومنها تتفرّع المؤامرات. شخصيات الرواية تقرأ الرواية، تناقشها، تشتمها، تدافع عنها، تحاول منعها، تتمنّى موت كاتبها. هكذا تصبح «الرواية» نوعاً من الشاهد والمجرم في آنٍ واحد. شهادة ضدّ عصر، وجريمة ضدّ مَن يملك الجرأة على الكتابة.

تمتدّ الرواية إلى ما يقرب من 520 صفحة، مقسّمة إلى قسمين رئيسين، يتضمّن كلّ قسم مجموعة من الفصول التي تتراوح بين السرد الروائيّ، والأفكار التحليلية والنقدية، وحتى القصص الساخرة المدرجة ضمن المتن السرديّ. هذه البنية ضرب من التنقيب داخل بنية الرواية نفسها، بما يجعلها نصّاً يتحدث عن الكتابة الروائية وهو يكتبها في الآن نفسه.

ويتوزّع الزمن في الرواية بين مرحلتين: زمن الرواية الأولى «لقاء لا ينتهي»، وزمن الرواية «الحالية» التي تبدأ مع لحظة وفاة الرئيس الأب وانتقال السلطة للابن الذي هرب. التوازي بين المرحلتين، بالإضافة إلى أنّه يصنع مقارنة سياسية، يرسم جدلية أعمق: الماضي الذي دُفِن، والماضي الذي لا يُدفن.

تقدّم الرواية صورة المثقّفة السلطوية، بوصفها جزءاً من لعبة السلطة الثقافية. «الحسناء»، كما تُرسم، ليست سوى تجلٍّ لثقافة «تسليعية» للجسد، حيث الجسد الأنثوي يُستثمر في الصعود الثقافي أو التسلق السياسي. هي «جرأة معلبة»، أو «تحرر مصمم خصوصاً لخدمة النظام». في حين أنّ «صفاء»، مثقفة متحررة، تُقدّم على نحو متناقض: جميلة وواعية، ناقدة وخائفة، تمتلك القدرة على المواجهة، لكنها محاطة بمن يريد تهميشها أو احتواءها. يَظهر في علاقتها مع «الشبح» ما يشبه العلاقة المستحيلة: امرأة تبحث عن معنى في رجل لا وجود له، ورجل يهرب من العالم بحثاً عن صدق لا تجده هي في العالم المحيط.

أحد أقوى عناصر الرواية هو قدرتها على استخدام الرمزية الساخرة كأداة تشريح. لا يمرّ شيء من دون سخرية مريرة: اتحاد الكتّاب، الجوائز الأدبية، الصحافة الثقافية، حلقات النقد، المؤتمرات، حتى «الثقافة القومية التقدّمية» ذاتها، تسقط واحدة تلو الأخرى.

يتجلّى ذلك في شخصيات مثل: كبير النقّاد الذي لا يقرأ شيئاً لكنه يحكم على كلّ شيء. المفكّر الراديكاليّ الذي يرى الثورة في كلّ مكان إلا في نفسه. الوسيط الثقافيّ الذي يفتح بوابات العالم لكلّ من يدفع الثمن. الروائيّ القادم من الريف الذي يخون قريته حين يحاول الانتماء للعاصمة. الشبكة الثقافية الدولية التي تمنح الجوائز لا لمن يكتب جيّداً، بل لمن يكتب ما يُطلب منه. هذه الرمزية تنقلب أحياناً إلى هجاء صارخ، وأحياناً إلى مرآة قاتمة يرى فيها القارئ الواقع الثقافيّ كما لو أنه يرى «مسلخاً» فكرياً.

«جسّام»، «كرّوم»، «كبير النقاد»، «المفكر الراديكالي»؛ هم شخصيات كاريكاتورية بقدر ما هم واقعيون، لا لأنهم هزليون، بل لأنّهم مأساويون: أدوات ميتة تتحرّك داخل نظام فاسد لا مكان فيه للكتابة الحرّة. إنّهم أيتام المؤسّسة.

يشير فوّاز حدّاد في روايته إلى أنّه ربّما لا يحتاج صاحب الموهبة في بلاد تُعادي الحقيقة إلى رقابة رسمية، فهناك رقابة أشدّ ضراوة: رقابة الأقران، رعب الوسط الثقافيّ من كلّ صوت لا ينتمي إلى طيفه، كلّ كتابة لا تخضع لقوانين سوق الولاء، كلّ موهبة لا تحتاج إلى «توصية» لتكون. وتراه يرسم ملامح مشهد تُنتهَك فيه الموهبة لا عبر منعها من الكتابة، بل عبر الإحاطة بها بـ«تواطؤ جماعيّ» خفيّ، لا يمكن مسّه قانونياً، لكنه يُنفَّذ بإتقان: تجاهل، وتشويه، واختزال، وتهميش، وتضليل، وتصفية رمزية، حيث الكارثة لا تقع حين تُقمع الموهبة من قِبل سلطة سياسية، بل حين تصبح الأوساط الثقافية نفسها هي القامعة، هي اليد غير المرئية التي تخنق الكتابة الحرة تحت شعار «تقييم نقدي» أو «الغيرة الأدبية» أو «السجال الموضوعيّ».

يلفت الروائيّ إلى أنّ الشبح الذي يتقصّونه في الرواية ليس مريباً لأنّه أجرم، بل لأنّه كتب شيئاً لا يشبههم، رواية جاءت من خارج سردياتهم المُعلّبة، لم تُمهَّد لها في الملاحق الثقافية، ولم تُصنَع على مقاس الجوائز. كانت الكتابة فعلاً ذاتياً متمرّداً، فكان لا بدّ من محاصرته جماعيّاً.

تطرح «الروائي المريب» كلّ هذه التفاصيل عبر صمت الروائيّ، وضجيج الوسط الذي أحاطه. كأنّ حدّاد يكتب شهادة روائيّة عن «الاستقبال المُفخّخ»، وعن «الجمهور المصنوع»، وعن «الناشر الذي لا ينشر إلّا لِمن يُضمن صمته بعد النشر»، وهو بذلك ينقّب في البنية التحتّية للثقافة والمثقّفين، ويستخدم السخرية والفكاهة السوداء كوسيلة للفضح، والتمثيل، والتطهير. يكتب رواية جارحة، لكنها تفتح العيون على واقع أسود مرّ يراد تبييضه بالدعاية والتزييف.

يكتب فوّاز حدّاد أكثر من خاتمة لروايته، كانت الأولى مرآة للعصر الذي كُتبت فيه، أما النهاية الجديدة، فهي أشبه بتوقيع على مستقبل سوريّ لا يزال قيد التكوين. لكن المفارقة المُرّة التي لا تفوته هي أن سقوط النظام لا يعني سقوط أدواته. فحداد يُلمّح، بذكاء، إلى «قدرة الشخصيات على التلوّن»، على العبور من زمن إلى زمن، من خطاب إلى نقيضه، دون أن تتخلى عن آلياتها في الإقصاء والتواطؤ. وهكذا، فإن الرواية لا تسعى لطمأنة القارئ، بل لتقويض استكانته، ولتشير له: حتى النهاية ربّما تحتاج إلى رواية أخرى... وزمن آخر.