تتيح الرواية لكاتبها التعبير عن رؤاه الفكرية وتصوراته الحياتية إزاء الواقع من خلال شخصيات يتقصد جعلها وسيلة للبوح بالأسرار، لتستكشف المجهول المخفي في محاولة منه لعله يجد فهما للواقع وإشكالاته. وتعد الأسئلة وتدفقها داخل المتون السردية من أهم الوسائل التي تساعد على هذا كله بفضل ما تؤديه من دور في الاستثارة واستغوار تفاصيل الواقع المعيش وأبعاده المنظورة وغير المنظورة.
وهذا منظور ظاهراتي يعطي رؤية خاصة للوجود، وعن ذلك يقول مفكر الظاهراتية الألمانية أدموند هوسرل: «لا أستطيع أن أشك في أشياء كهذه أكثر من شكي بضربة حادة على الجمجمة...». وهذا ما يلقي بالرواية في مضمار مادي تحاول فيه مواجهة العالم في حركته الدائبة المتطورة. وهو ما تصفه الماركسية بالديالكتيك.
ومعرفة هذه القوانين أمر لا غنى عنه للنشاط العملي الإنساني الذي يقتضي ارتباط الشخصية الروائية، بالتطور في الواقع، كسمة مهمة للعالم المادي، وعندئذ تطوّع بعض قوانين الديالكتيك المادي ومقولاته في سبيل عكس هذه الارتباطات في الوعي، لاكتشاف القوانين الموضوعية.
ولان الأسئلة بوابة مهمة لفهم العالم، وعملية تطوره لذلك تصبح هذه الأسئلة ضرورية في المساعدة على دراسة الصورة العامة لهذا التطور كجانب من جوانب الديالكتيك، وهي تنطوي على تصارع الأضداد كأحد قوانين حركة العالم وترابطه الشامل فالأشياء والظواهر لا تطور نفسها على انفراد؛ بل هي تترابط في وحدة لا تتجزأ مع غيرها من الأشياء والظواهر وكل واحد منها يؤثر على غيره من الأشياء وهو بدوره يخضع للتأثيرات المضادة.
ولا يكون التوغل في الديالكتيك إلا عندما تكون واقعية الحياة غير معقولة أو لا منطقية، فيصبح الوجود بعيدا عن المثالية، والحياة لا تفهم إلا عبر التوغل في التساؤل والتركيز على الانثيالات الحدسية للقضايا والأفكار التي يقود التعاطي الديالكتيكي معها نحو التشظي والتعدي والتنوع إزاء الوجود بهدف فهم فلسفته وعلاقته بالعدم والحدس.
وتتخذ جدلية السؤال والجواب عند غادامير وهانس روبرت ياوس شكل نشاط قرائي على أساس أن العلاقة بين النص والقارئ إنما تخضع لمنطق السؤال والجواب، فالنص يحفز القارئ ويحاول هذا الأخير انطلاقا من معرفة معينة أن يجيب عن الأسئلة وقد تختلف الإجابة من قارئ إلى قارئ.
وإذا كنا نتصور أن لا فضاء لسؤال وجواب إلا في شكل استنطاق أو استجواب لأن القارئ هو الذي يقوم بصياغة الأسئلة وتوليدها من رحم النص ذاته؛ فإن قيام المؤلف بجعل السارد هو منجم صياغة الأسئلة داخل النص سيجعل القارئ أكثر فاعلية من الناحية القرائية باتجاه استدلال أبعاد التساؤلات والوقوف على فحواها، كما يكون أدنى قربا من استحصال الإجابات لها وأكثر استعدادا لرصد ماهيتها عبر التأمل الذي يوجه قراءاته توجيها مدرباً محنكاً وبمداومة فكرية.
ولذلك تغدو الأعمال الروائية ذات الأرضية المتسائلة والحاملة لنزعة التشكيك أكثر اندماجا في نظريات التلقي ومناهج القراءة كونها تطرح الأسئلة وتنكب على تواليها متعمدة استمرارها. وهو ما يضع هذه الأعمال منضوية في خانة الرواية ما بعد الحداثية موصوفة بأنها من (الرواية الجديدة) كونها لا تخاطب قارئا اعتياديا خاملا؛ بل هي تتقصد التوجه إلى قارئ نوعي، يوصف بأنه قارئ فاعل لا مستهلك، ومتحفز لا مستسلم، ومتحاور لا ملقن.
ولما تعد ثيمة التساؤل منطوية على قصدية التشكيك وفاعلية الحيرة والتذبذب بديالكتيكية تستدعي معرفة ماهية الوجود وفهم العالم المرئي واللامرئي؛ فإن التدليل على هذا التوصيف النظري يتطلب الوقوف عند عينات روائية.
وتنزع الرواية الجديدة إلى أن تجعل صلة الشك في السؤال تتمة للوجود، ولا شك أن العمل الفني إنما يعبر عن اللحظات الأساسية في تطور الفكرة المطلقة، وأن الأفكار تعود إلى فكرة الوجود على اعتبارها الفكرة الوحيدة التي تتحرك وتتطور.
وإذا ما أصبح التساؤل بالإيجاب والسلب بحثا عن الحقيقة هو أساس العمل الروائي؛ فإن هذا ما يجعل البحث عن السببية في لا منطقية الأحداث ولا معقوليتها بحثا شكّاكا في الفكر عن العلاقة المزدوجة بين الوجود والعدم.
والإنسان عموما ليس من السهل عليه أن يفهم الطابع الموضوعي للقوانين أو التمكن من تغييرها؛ لكنه بالأسئلة المنطقية المحتكمة إلى العقل والمراهنة على العلمية يقدر على مواجهة الوجود بقوانين وفرضيات تنظم صيرورتها وتجعلها تترابط بشكل جوهري وضروري فتكون للعالم من ثم ماديته المنطقية.
وبالأسئلة تتولد الرؤى والأفكار وتختبر ويشكك فيها، ومن خلال التساؤل يطرح الفكر مشاكله، ولا أسئلة من دون وجود صراع بين الأضداد يولِّد طاقة بها يتحرك العالم ويتطور وبعبارة أخرى ما دام هناك تضاد؛ فإن هناك تصارعا عقليا دائما يطور العالم ويحفز الوعي بالتنافر أو بالتناقض الذي هو المحتوى الداخلي للحقيقة وموضع تطورها. وعلى الرغم من حتمية التنافر والتناقض بين الموجودات؛ فإنها تظل مستلزمة بعضها بعضا، ومتعايشة في الوقت نفسه.
وتظل المعرفة أساس كل تلك المفاهيم والمقولات، ولعل أحد أهم مصادر المعرفة ومظان العثور عليها هو استمرار التساؤلات بقصد معرفة العالم وفهمه وإدراك الوجود وماهيته. ولن يظفر الإنسان بالحقيقة إلا عن طريق التساؤل الذي به يتمكن من الارتقاء من مستوى المدركات المحسوسة الحية إلى مستوى الأفكار التجريدية الصرفة والغاية التي يسعى إليها هي معرفة الحياة وفهمها.
ولا مناص لنزعة التساؤل من أن تكون مستندة إلى حقيقة جوهرية مفادها أن لكل إنسان نظراته ومثله وأحلامه ورغباته وأمزجته وعيه الفردي، ولا يكون هذا الوعي حاضرا ما لم يعكس الوجود الاجتماعي من زاوية متطلبات الفرد واهتماماته وأهدافه الاجتماعية.
ويظل تحقق هذا الوعي مرهونا بالطريقة التي بها توظف الرواية العربية الجديدة نزعة التساؤل في إطار جدلي إزاء العالم الروائي من خلال صناعة شخصية رئيسية لتكون فاعلة في توضيح المغلق واستكناه الأسرار لعلها تتمكن من الظفر بالفهم لما هو فوضوي أو غير مقنع أو ملتبس من الظواهر والمفاهيم والتصورات التي تحيط بواقعنا وتغزو علينا حياتنا ووجودنا.
وتحتل قضية إدراك الوجود الاهتمام الرئيسي الذي تنصبّ عليه التساؤلات التي تقضُّ على الشخصية المحورية مضجعها فتجعلها نهبا للشكوك وفريسة للحيرة التي تلقي بها في دوامة التفكير المنطقي محاولة التعبير عن توقها إلى الظفر بالحقيقة وفهم غائية الموجودات محسوسات ومرئيات ومدركات.
ويعد الشعور بالفوضى واللااتزان والإحساس بالشك والتذبذب والوقوع في دائرة الوهم من أهم المحفزات التي تدفع بالشخصية الروائية نحو التساؤل، فتتداعى الأسئلة على لسانها متدفقة في وعيها بعفوية وربما بقصدية، والهدف من وراء ذلك هو الرغبة في إعادة تشكيل الواقع المفكك وترميم المحيط المهشم وإنقاذه من السقوط والتدهور والشذوذ.
وقد لا يبغي الكاتب من وراء ترك الشخصية متسائلة وحائرة في واقعها مشككة في قيمها تحقيق استرضائها عن الواقع؛ بل توجيهها لمعارضته والتضاد معه والتشكيك فيه من خلال تحويل الكتابة إلى أداة للتهشيم والقمع والتطرف واللاعقلانية.
وقد يرتكن البوح بالتساؤلات وانثيالاتها تداعياً وقصدية على الحدس الذي به تتمتع الكينونة الساردة بالوعي لتتم رؤية العالم بدوغماتية، فيتوكد تحليلها له بشكل عقلاني. وقد لا يغدو انثيال الأسئلة مهما وجوهريا؛ إلا إذا تمت صياغتها أو إعادة صياغتها باتجاه بلوغ الأجوبة وهذا الأمر يظل رهنا بالمؤلف، كما يتوقف على القارئ وفقا لنظرية التلقي والاستقبال.
- ناقدة وأكاديمية عراقية