(2) التحمت المدرعات الأردنية بالإسرائيلية فغاب سلاح الطيران عن معركة الكرامة

مذكرات الأمير زيد بن شاكر كما ترويها أرملته - قوات سعودية واجهت الإسرائيليين جنوب البحر الميت وقدّمت شهداء

الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
TT

(2) التحمت المدرعات الأردنية بالإسرائيلية فغاب سلاح الطيران عن معركة الكرامة

الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين
الملك حسين والأمير زيد بن شاكر (إلى اليمين) وسط مجموعة من العسكريين

بعد عقود هيمنت فيها رواية محددة عن مجريات معركة الكرامة ضد الإسرائيليين عام 1968، يكشف الأمير زيد بن شاكر، في مذكراته التي ترويها أرملته السيدة نوزاد الساطي والتي تصدر الشهر المقبل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - عمان، أن التحام المدرعات الأردنية بالمدرعات الإسرائيلية في المعركة حال دون مشاركة سلاح الطيران الإسرائيلي في القصف، وساعد في تحقيق الانتصار بعد سنة واحدة من نكسة حرب عام 1967. وتكشف المذكرات التي تصدر تحت عنوان «زيد بن شاكر... من السلاح إلى الانفتاح»، عن أن قوات سعودية (جزء من قوات عربية كانت في الأردن آنذاك) واجهت الإسرائيليين جنوب البحر الميت وقدّمت شهداء؛ الأمر الذي أتاح للأردنيين خوض المواجهة ضد القوات الاسرائيلية في قرية «الكرامة» التي كانت فصائل فدائية فلسطينية تتحصن فيها.
وفيما يأتي نص الحلقة الثانية من مذكرات زيد بن شاكر الذي كان واحداً من أشد المقربين من العاهل الأردني الراحل الملك حسين:

كان على زيد ورفاق السلاح، عقب هزيمة 1967، مهمة متعددة الأبعاد، تتصل بدرجة أولى بإعادة بناء الروح المعنوية وصناعة الإرادة والإيمان بالذات، بعد الشعور بمرارة الهزيمة، والفجوة الكبيرة مع العدو في أرض المعركة. في حين تولى الحسين بدرجة كبيرة مهمة البحث، مرة أخرى، عن إعادة تسليح القوات المسلحة، في ظل تنامي الفجوة بين الأردن والولايات المتحدة، بسبب موقف الحسين في الحرب. أما الجانب الثالث، فتمثل بعملية إعادة توزيع القوات المسلحة للقيام بواجباتها بحماية الحدود والأمن الداخلي. وهي مهمات ثقيلة على الجميع.
‪‪في تلك المرحلة، وغداة الهزيمة مباشرة، برز مفهوم «حرب الاستنزاف» عربياً. وقد ألقى الحسين خطاباً مهماً في تلك الأيام، قال فيه إن أي عربي، وفلسطيني بشكل خاص، يريد أن يقاوم الاحتلال، فأبواب الأردن مفتوحة له ليكون قاعدة للعمل ضد الاحتلال. يقول زيد عن تلك المرحلة: «فتحنا أبواب البلد، فجاءتنا أعداد كبيرة. الفكرة كانت، في نظرنا، أن تبدأ عملية مقاومة للاحتلال داخل الأرض المحتلة. وكنا نأمل أن يستخدموا (الفصائل وقادتها) الأردن مكاناً لعبور المقاومين من حركة المقاومة الفلسطينية، إلى داخل الأرض المحتلة، لإقلاق الإسرائيليين وهزهم، على أساس أنه ليس بعد احتلال الأرض ينتهي كل شيء». وجاءت فعلاً أعداد كبيرة من الناس، كانوا في معظمهم فعلاً أناساً وطنيين يريدون محاربة الإسرائيليين وتحرير بلدهم. وكانت هناك أحزاب سياسية ممنوعة في الأردن، عندما فتحت الأبواب دخل قسم من هؤلاء الناس (من أعضاء تلك الأحزاب) واستغلوا القرار الذي اتخذه الأردن بالسماح لكل فلسطيني بشكل خاص بأن يتقدم ويشارك في مقاومة الاحتلال. تمكّن الفدائيون في البداية، بالتنسيق مع الجيش العربي، من إزعاج إسرائيل، كما يروي زيد: «فصارت قرية الكرامة قاعدة رئيسية من القواعد المنتشرة في كل المملكة لإخواننا الفلسطينيين الذين يريدون مقاومة الاحتلال. فكان لهم نشاط، وكنا في القوات المسلحة ندعمهم بمدفعية أو رشاشات إلى أن يعبروا النهر، وذلك على الرغم من دفع الأردن ثمن هذا الدعم والمساندة نتيجة الغارات الإسرائيلية المتواصلة على عمّان
ويضيف عن علاقة الجيش بالفدائيين، في المراحل الأولى بعد الهزيمة: «عندما كان الفدائيون ينهون مهمتهم ويعودون، كنا أيضاً نساعدهم عبر تغطيتهم بالنار حتى يستطيعوا العبور. فاتخذ الإسرائيليون قراراً بأن يقوموا بعملية كبيرة لتدمير هذه القاعدة الكبيرة».
بين يونيو (حزيران) 1967 ومارس (آذار) 1968، وقعت اشتباكات كثيرة، كان أعنفها في 15 فبراير (شباط) 1968؛ حين زادت وتيرة المواجهات بين الفدائيين والجيش العربي من جهة، والإسرائيليين من جهة أخرى. فقصفت إسرائيل قرابة 15 قرية في إربد والغور الشمالي، واستشهد جنود أردنيون - منهم الرائد منصور كريشان، قائد كتيبة الحسين الثانية الآلية - وهم يمنعون الجيش الإسرائيلي من التقدم، في مواجهة دامت ساعات عدة.
في مساء يوم الثلاثاء 19 مارس 1968، قدّم مدير الاستخبارات العسكرية غازي عربيات، تقريراً مهماً لقيادات الجيش، يقول فيه إن الهجوم الإسرائيلي سيكون صباح يوم الخميس 12 مارس، أي خلال 48 ساعة فقط. ومن ثم، أصبحت متواصلة الجهود المبذولة للاستعداد لهذه المعركة الحاسمة؛ لأن المدة قصيرة.
أدى زيد دوراً كبيراً خلال تلك الفترة في تجهيز الجيش للمعركة، وكان يجول على الجنود عشية «الكرامة»، ويقول: «نحن الآن أمام أنفسنا وأمام إرادتنا وإيماننا بالله عز وجل، فلن ننتظر طيراناً من سوريا ومصر، ولا مساعدة من أحد. وأعتقد أن الوقت حان لنبرهن نحن الجنود كيف ندافع عن وطننا».
يوم الأربعاء، زار زيد (بصفته قائد اللواء 60 المدرع) مع قائد الفرقة الوحيدة في الجيش العربي اللواء مشهور حديثة، خطوط التماس مع الإسرائيليين، فتأكد أن المعركة باتت وشيكة.
ويتذكر زيد لاحقاً لحظات الترقب في اليوم الذي سبق المعركة بالقول: «قمنا بجولة في الوادي (يقصد وادي الأردن) كلّه، ومررنا على الكرامة، حيث شاهدنا بعض إخواننا الفدائيين الفلسطينيين يحفرون الخنادق. وفي الوقت نفسه نظرنا إلى الغرب فوجدنا حركة للقوات الإسرائيلية غرب النهر؛ إذ كانوا يحشدون دبابات ومدافع وآليات كبيرة، وكان واضحاً لنا من هذه الرؤية والمشاهدات أن الإسرائيليين قد عزموا على إجراء عملية عسكرية ضد الأردن. وكانوا لا يحاولون أن يتخذوا أي تمويه لخداع عدوهم (نحن)، ولا أي نوع من التستر؛ لم ينتظروا غياب الشمس والتحرك في الظلام».
بماذا نفسّر تلك الاستعدادات العلنية للجيش الإسرائيلي وعدم إخفاء خططهم وتحركاتهم؟ يجيب زيد: «كان واضحاً أنهم يتعاملون بشيء من العنجهية، نتيجة الانتصار الساحق قبلها بأشهر في عام 1967، كنا نحن الضباط الذين نشاهدهم بالمناظير نقول إنهم إما مجانين أو إنهم لا يعرفون مقدرة الجيش الأردني».
يضيف زيد في ملاحظاته واستنتاجاته من زيارته مع اللواء مشهور حديثة لوادي الأردن: «نظرنا وقدّرنا أن الهجوم الإسرائيلي وشيك، وهي مسألة ساعات فقط تفصلنا عنه. فقابلت قيادات الكتائب التابعة لي، وأعددنا التنسيق الأخير، وعدت إلى قيادة اللواء».
بالفعل، كما أكد تقرير الاستخبارات واستنتاجات زيد واللواء مشهور حديثة من زيارتهما يوم الأربعاء لخطوط التماس، بدأ الجيش الإسرائيلي الهجوم في تمام الساعة الخامسة فجراً من يوم الخميس.
يومها، رن جرس الهاتف في منزلنا، وكان على الطرف الآخر عامر خماش، رئيس هيئة الأركان، يخبر زيداً ببدء المعركة.
غادر زيد بسيارته، برفقة عيد الروضان، إلى مقر القيادة في النبي يوشع، على جبال السلط، حيث كانت قيادة القوات الأردنية. ويتحدث الروضان عن ذلك: «رأينا على الطريق سيارات (لوري) تحمل الذخيرة وتتعرض لقصف جوي إسرائيلي، قادمة من الزرقاء. فطلب مني أبو شاكر أن أنزل من السيارة إلى السيارة الأخرى التي كانت ترافقنا، وأوجههم إلى الطريق الصحيحة للوصول إلى القوات المسلحة، في حين توجه هو إلى مقر القيادة حيث كان هو واللواء مشهور حديثة يديران المعركة».


 (الحلقة الأولى)
زيد بن شاكر: معلومات مصرية وضغوط دفعت بالملك حسين إلى حرب 1967


كانت القوات الأردنية عبارة عن فرقة مشاة تسيطر على المعابر المؤدية إلى عمّان ومدينة السلط، مؤلفة من ثلاثة ألوية موزعة على هذه الخوانق المؤدية إلى الجبل، تسليحها هو تسليح مشاة عادي مع إسناد مدفعي وهندسي. وكان هناك أيضاً اللواء 60 المدرّع الذي يقوده زيد، وبعض التواجد للقوات الخاصة بأسلحة قنص الدروع. أما الفدائيون، فكانوا متواجدين في منطقة الكرامة نفسها، وقد نسّق معهم زيد وقادة الجيش العربي في الليلة السابقة؛ لأنه كان من الواضح أن العملية بالنسبة لنا دفاعية.
يتحدث زيد عن المسار العام للمعركة بالقول: «كانت كل القوة الإسرائيلية التي أتت عبارة عن فرقة من مدرعات وآليات مشاة، حاولوا العبور من ثلاثة محاور: طريق القدس - عمان الرئيسية، طريق القدس - عمان عن طريق الشونة الجنوبية، وطريق نابلس - عمان عن طريق داميا، وهي قرية صغيرة. ‪في المحور الأول فشلوا؛ إذ كانت هناك دبابات قاومتهم ولم يستطيعوا العبور. لكنهم نجحوا في العبور من منطقة جسر الملك حسين الذي يؤدي من أريحا إلى الشونة الجنوبية، ومعظم قواتهم عبرت من هناك. كما أن هناك قوة عبرت نهر الأردن على جسر الأمير محمد في قرية داميا، وهي طريق نابلس - عمان. في المقابل، كانت قواتنا المدرعة والمدفعية موزعة، ولدينا توقعات دقيقة حول خطتهم؛ فلم يكن هناك عنصر مفاجأة. أيضاً، قاموا بهجوم تمويه في منطقة غور الصافي جنوب البحر الميت، وكانت تتواجد هناك قوات من الجيش السعودي واجهت العدو في تلك المنطقة، وسمحت لنا بمواجهة العدو في المنطقة الرئيسية الكرامة. وقد قدم السعوديون شهداء في هذه المعركة».
الهجوم كان بداية بالدبابات بإسناد مدفعي. ثم دخلت قوات المشاة الآلية بآليات مدرعة. واستمرت المعركة من الخامسة والنصف فجراً عندما عبروا، حتى الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة ظهراً، حين طلبوا - من خلال الأمم المتحدة - وقف إطلاق النار للسماح لهم بالانسحاب. وقد رفض الملك ذلك، إلا أن ينسحبوا من أرض المعركة ويعودوا خلف النهر. فاستمرت المعركة وبدأوا الانسحاب نحو الساعة الثانية عشرة والنصف. وتابعناهم إلى أن عبروا النهر. في الثامنة مساءً، انتهى الاشتباك. وكان علينا التأكد من أنه لم يبق أحد في أرض المعركة أو كمائن. واستمر عملنا هذا حتى الساعة الحادية عشرة مساء (وهو ما يسمى «تطهير الأرض»)، ولم نجد أحداً. لكنها كانت عملية دقيقة وضرورية للتأكد من أنه لم يبق أحد من أفراد العدو أو مجموعة داخل الأراضي الأردنية.
يروي الروضان، وكان رفيقاً لزيد في هذه المعركة أيضاً، مشهد المعالم الأولى للنصر: «بعد ساعات من بدء القتال، بدأت معالم الانتصار واضحة. ولم يكن أبو شاكر يطيق الانتظار أكثر في مقر القيادة، فتوجهنا بالسيارة إلى وادي شعيب، حيث كان يقود القوات الزعيم كاسب صفوق قائد قوات محور وادي شعيب في الكرامة».
على الرغم من الدور المحدود الذي قامت به المنظمات الفلسطينية في معركة الكرامة، فإن زيد لم يكن متحاملاً عليهم في تقييم ذلك (حتى بعد 23 عاماً، أي خلال مقابلته مع عماد الدين أديب)؛ إذ يقول: «كي أكون منصفاً، لم يكن لهم - أي الفدائيين - مجال للحركة، إلا أنهم عبارة عن أفراد مشاة بأسلحة خفيفة ولم يكونوا متخندقين... فكان من الصعب على الفدائيين أن يقاوموا هذه القوة إلا بأسلحة الدروع مثل (آر بي جيه) التي لا بد أنهم كانوا يمتلكون شيئاً منها».
أما نتائج المعركة فكانت، كما يلخصها زيد: «خسائرهم (أي الإسرائيليين) كانت كبيرة. تركوا لأول مرة في تاريخهم آليات وجثثا لجنودهم في أرض المعركة (دبابات وآليات ثقيلة وسيارات جيب).
أما عن خسائر الجانب الأردني فهي 85 شهيداً من القوات المسلحة الأردنية. كان قتالاً شرساً جداً، والمعركة استمرت 15 ساعة».
ما هو أهم من الخسائر المادية والبشرية في الجيش الإسرائيلي، كانت النتائج المعنوية للنصر. فكما يقول زيد: أسطورة الجيش الذي لا يقهر تحطمت في الكرامة وفي رأس العش، وكذلك استعادت قواتنا المسلحة ثقتها بنفسها وأصبحت معنوياتها عالية بعد المعركة، ونزعت عن نفسها ثوب الهزيمة المذلة في عام 1967، وأصبحت لدينا قناعة بعد «الكرامة»، بل هي أشبه باليقين، بأن علينا الاعتماد على أنفسنا بدرجة رئيسية؛ فالحروب لا تقاس بالكلام والخطابات العاطفية، بل بالخطط والاستعداد والعزيمة الصادقة.
ومن القصص المؤثرة التي تعكس حجم الفرق بين معنويات جنودنا في حرب 1967 ومعركة الكرامة، تلك التي يرويها فاضل فهيد، وكان قائداً لسرية مدرعات في الكرامة، عن بعض الأفراد والضباط «ممن شعروا بأنهم في موقع الشبهات في حرب 1967، فوجدوا في معركة الكرامة فرصة لرد الاعتبار، وأنه قد جاء اليوم ليغسلوا العار. وكان نقل إلى سريتي 24 فرداً بعد تلك الحرب، بأمر من زيد. فدخلوا معي المعركة واستشهد منم 18 فرداً». ويضيف: «مما أثر فيّ كثيراً أن زيد كان قد اصطحبني في يوم الجمعة الذي سبق معركة الكرامة (15 مارس) لزيارة جنوده في الغور؛ إذ كان يحب قيادة السيارة كنوع من الاسترخاء والراحة بعد العمل المجهد. وهناك تناولنا معهم (شاي عسكر)، كما يسميه الجنود، ويمتاز بكثرة السكّر. كما تعرفت على راتب محمد السعد البطاينة ومرشح ضابط عارف محمود الشخشير من نابلس، واللذين استشهدا في المعركة. وتعرفي بهؤلاء الشباب جعل تأثري باستشهاد عدد منهم كبيراً. وفقدانهم هو ما عكر فرحة النصر أيضاً».
عاد زيد ومعه اللواء مشهور حديثة من أرض المعركة إلى منزلنا في الساعة الواحدة والنصف فجر الجمعة 22 مارس. وطلب مني تجهيز العشاء، فأخبرته بأن ليس هناك أي وجبة جاهزة، فقال لي: «إقلي لنا بيضاً». فصنعت لهما «مفرّكة بطاطا مع بيض»، وجلست معهما بينما كانا يتحدثان عن المعركة، ويستعيدان تفاصيل ما حدث فيها بروح منتشية، ويحللان أسباب انتصارنا. وكنت لا أتوقف عن مقاطعتهما بأسئلة من لا يصدق نفسه لفرح ما يسمع؛ هل فعلاً انتصرنا على إسرائيل؟ هل فعلاً طلبوا وقف إطلاق النار؟ وهما يؤكدان ذلك لي معيدين تفاصيل ما حدث. في تلك اللحظة بدأت أبكي من شدة الفرح. لم أصدق نفسي وأنا أسمع خبر الانتصار؛ من كان يصدق ذلك؟‪!‬‬‬
أخيراً صار هناك جيش عربي يستطيع أن ينتصر على الإسرائيليين. وقفزت على الفور أمامي صور الهزيمة المذلة في 1967، وتعامل الإعلام الغربي معنا، نحن العرب، بعدها. وخرجت أمامي المرارة التي كنا نذوقها دوماً في الأردن، عبر الاتهامات الإعلامية والسياسية بالعمالة، ثم بعد ذلك يصمد الجيش الأردني وهو لم يتعافَ بعد من آثار هزيمة 1967.
وعلى الرغم من فرحة النصر، فإن زيد ومشهور كانا حزينين - في الوقت نفسه - على سقوط شهداء وجرحى من الجيش العربي. وكانت أول مرة أرى فيها دمعة زيد بعد «الكرامة»، وهو يتذكر الشهداء من رفاق السلاح! ففي اليوم التالي للمعركة لعودته، وكان يوم سبت، نظر إليّ بينما كان يرتدي زيه العسكري وقال: اليوم تنتظرني مهمة أصعب من مهمة أمس، وهي كيف سأخبر، شخصياً، أهل الشهداء بخبر استشهادهم! ثم ذرفت الدموع من عينيه‪.‬‬‬
أحد أهم أسباب الانتصار العسكري في «الكرامة»، برأي زيد، هو عجز سلاح الجو الإسرائيلي عن دخول المعركة. لكن على عكس التفكير الشائع حينها بأن الجو الغائم هو ما منع الطائرات الإسرائيلية من المشاركة بكفاءة، فإن لزيد رأياً آخر؛ إذ يقول إن الغيوم لم تمنع استخدام سلاح الجو، بل السبب الجوهري برأيه هو الالتحام السريع بين الدروع الأردنية والإسرائيلية، ما كان يعني إصابة الدروع الإسرائيلية بنيران إسرائيلية في حال استخدام سلاح الجو. وقد ظن الإسرائيليون أنهم باستخدام الدروع سيصلون إلى قاعدة للفدائيين في مزرعة الملك عبد الله المؤسس في الشونة؛ إذ تبين - خلال فترة المعركة - أنها هي هدفهم الرئيس. ولم يتوقع الإسرائيليون أن تنجح المدرعات الأردنية في صدهم بعد الدمار الذي لحق بالعتاد الأردني في حرب 1967.


«دواء مر»... مخاوف عميقة وشراكة قلقة تجمع مصريين بـ«النقد الدولي»

السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
TT

«دواء مر»... مخاوف عميقة وشراكة قلقة تجمع مصريين بـ«النقد الدولي»

السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)
السيسي ومديرة صندوق النقد الدولي الأحد في القاهرة (الرئاسة المصرية)

رغم قناعتهم بأنه الملجأ وقت الأزمات، وأنه الطريق الذي «لا بديل عنه» عندما تعصف التحديات الاقتصادية بالدولة، تجمع شراكة «قلقة» مصريين بـ«صندوق النقد الدولي»، وسط مخاوف عميقة من تبعات الالتزام بشروطه وتأثيرها في قدرتهم على تلبية احتياجاتهم اليومية، حتى باتت صورة الصندوق لدى كثيرين أشبه بـ«الدواء المر»، يحتاجون إليه للشفاء لكنهم يعانون تجرعه.

على قارعة الطريق جلست سيدة محمود، امرأة خمسينية، تبيع بعض الخضراوات في أحد شوارع حي العجوزة، لا تعلم كثيراً عن صندوق النقد وشروطه لكنها تدرك أن القروض عادةً ما ترتبط بارتفاع في الأسعار، وقالت لـ«الشرق الأوسط» ببساطة: «ديون يعني مزيداً من الغلاء، المواصلات ستزيد والخضار الذي أبيعه سيرتفع سعره».

وتنخرط مصر حالياً في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي مع صندوق النقد الدولي تم الاتفاق عليه في نهاية 2022، بقيمة ثلاثة مليارات دولار، قبل أن تزيد قيمته في مارس (آذار) الماضي إلى ثمانية مليارات دولار، عقب تحرير القاهرة لسعر الصرف ليقترب الدولار من حاجز الـ50 جنيهاً. وتلتزم مصر في إطار البرنامج بخفض دعم الوقود والكهرباء وسلع أولية أخرى، مما دفع إلى موجة غلاء يشكو منها مصريون.

«دواء مر»، هكذا وصف الخبير الاقتصادي الدكتور مصطفى بدرة، قروض صندوق النقد الدولي، مشيراً إلى ما يثيره «الصندوق»، في نفوس المصريين من «قلق»، ارتباطاً بما تولِّده «الديون والقروض» في نفوسهم من «أعباء ومخاوف».

يقول بدرة لـ«الشرق الأوسط» إن «المصريين دائماً ما يتحفزون ضد الصندوق نظراً لمتطلباته التي عادةً ما تؤثر في حياتهم وتزيد من أعبائهم المالية». وفي الوقت نفسه يؤكد بدرة أنه «لم يكن هناك باب آخر أمام الدولة المصرية إلا الصندوق في ظل أزمة اقتصادية بدأت عام 2011، وتفاقمت حدتها تباعاً».

كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قد أكد خلال لقائه ومديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، الأحد، في القاهرة أن «أولوية الدولة هي تخفيف الضغوط والأعباء عن كاهل المواطنين».

وتأتي زيارة غورغييفا للقاهرة عقب دعوة السيسي، نهاية الشهر الماضي، لمراجعة قرض صندوق النقد مع مصر «حتى لا يشكل عبئاً على المواطن» في ظل التحديات الجيوسياسية التي تعاني منها البلاد، وأعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي أن «المراجعة الرابعة للقرض ستبدأ الثلاثاء»، وهي واحدة من أصل ثماني مراجعات في البرنامج.

الوصفة الاقتصادية القياسية التي يقدمها صندوق النقد عادةً ما ترتبط بالسياسة النقدية والمالية، لكنها «لا تشكل سوى ثلث المطلوب لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والهيكلي»، حسب الخبير الاقتصادي هاني توفيق الذي أشار إلى أنه «لا ينبغي ربط كل الأعباء والتداعيات الاقتصادية بقرض صندوق النقد».

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «اشتراطات صندوق النقد أو متطلباته أمور منطقية لكن لا بد أن تمتزج بخطوات إصلاح هيكلي اقتصادي لتحفيز الاستثمار والنظر في الأولويات».

بدوره، قال الخبير الاقتصادي المصري، مدحت نافع لـ«الشرق الأوسط» إن «صندوق النقد كأي مؤسسة مالية أخرى هو جهة مقرضة، لديها شروط مرتبطة بحجم مخاطر الدين وبأجندتها التي قد لا تتوافق دائماً مع أجندة الدولة وأولوياتها الوطنية».

ولفت نافع إلى أن «دراسات عدة أشارت إلى أن برامج صندوق النقد عادةً ما تحقق أهدافاً جيدة على المدى القصير من حيث كبح جماح التضخم وتحرير سعر الصرف، لكنها على المدى الطويل قد تؤدي إلى تداعيات سلبية على مستويات النمو الاقتصادي ونسب عجز الموازنة والبطالة».

لكن رغم ذلك يؤكد نافع أن «مصر كانت بحاجة إلى قرض صندوق النقد»، فهو على حد وصفه «شهادة دولية تتيح لمصر الحصول على تمويلات أخرى كانت في أمسّ الحاجة إليها في ظل أزمة اقتصادية طاحنة».

علاقة مصر مع صندوق النقد تاريخية ومعقدة، ويرتبط في مخيلة كثيرين بوصفات صعبة، تدفع نحو اضطرابات سياسية وأزمات اقتصادية، وربما كان ذلك ما حفَّزهم أخيراً لتداول مقاطع فيديو للرئيس الراحل حسني مبارك يتحدث فيها عن رفضه الانصياع لشروط الصندوق، حتى لا تزيد أعباء المواطنين، احتفى بها رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

وهنا يرى بدرة أن «الظروف السياسية والاقتصادية في عهد مبارك كانت مغايرة، والأوضاع كانت مستقرة»، مشيراً إلى أن «مبارك استجاب لمتطلبات الصندوق وحرَّك سعر الصرف لتصل قيمة الدولار إلى 3.8 جنيه بدلاً من 2.8 جنيه».

واتفق معه توفيق، مؤكداً أن «الوضع الاقتصادي في عهد مبارك كان مختلفاً، ولم تكن البلاد في حالة القلق والأزمة الحالية».

ووفقاً لموقع صندوق النقد الدولي، نفّذت مصر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي أربعة برامج اقتصادية بدعم مالي من الصندوق، بقيمة 1.850 مليار دولار، لكنها لم تصرف سوى خمس المبلغ فقط، ما يعادل 421.3 مليون دولار. حيث تم إلغاء وعدم استكمال بعضها، بعد أن مكَّن الاتفاق مع الصندوق مصر من إلغاء 50 في المائة من دينها الرسمي في «نادي باريس».

ولتلافي التداعيات السلبية لقرض «صندوق النقد» أو على الأقل الحد منها، شدد نافع على «ضرورة الموازنة بين متطلبات (صندوق النقد) وبين أجندة الدولة الإصلاحية».

وقال: «تعديل شروط الصندوق أو تأجيل تنفيذ بعضها ليس صعباً في ظل أن الهدف الأساسي من الخطة، وهو كبح التضخم، لم يتحقق»، مشيراً في السياق نفسه إلى أن «الصندوق أيضاً متورط ويرى أن عدم نجاح برنامجه مع مصر قد يؤثر سلباً في سمعته، مما يتيح إمكانية للتفاوض والتوافق من أجل تحقيق أهداف مشتركة».

وانضمت مصر لعضوية صندوق النقد الدولي في ديسمبر (كانون الأول) 1945، وتبلغ حصتها فيه نحو 1.5 مليار دولار، وفقاً لموقع الهيئة العامة للاستعلامات، الذي يذكر أن «تاريخ مصر مع الاقتراض الخارجي ليس طويلاً، وأن أول تعاملاتها مع الصندوق كان في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عامَي 1977 و1978 بهدف حل مشكلة المدفوعات الخارجية وزيادة التضخم».

وعقب أحداث 2011 طالبت مصر بالحصول على قرض من الصندوق مرة في عهد «المجلس العسكري» ومرتين في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، لكنها لم تحصل عليه. وعام 2016 وقَّعت مصر اتفاقاً مع الصندوق مدته ثلاث سنوات بقيمة 12 مليار دولار. وعام 2020 حصلت مصر على 2.77 مليار دولار مساعدات عاجلة للمساهمة في مواجهة تداعيات الجائحة، وفقاً لهيئة الاستعلامات.