عن ملامح وخصوصية الأدب الروائي والقصصي لدى الأديب الراحل صبري موسى، ومساهماته البارزة في كتابة أدب الرحلة والسيناريو، يدور كتاب «الكتابة على الحافة الحرجة»، الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية للكتاب، وقامت بإعداده زوجته الصحافية أنس الوجود رضوان.
يتضمن الكتاب 21 دراسة لعدد من النقاد المصريين، حاولوا من خلالها استقصاء رؤى صبري موسى المستقبلية للعالم والإنسان، التي شكلت على نحو خاص مدار روايته «السيد من حقل السبانخ» الصادرة عام 1997 في القاهرة، وفيها تجسيد لكثير من توقعاته لما يمكن أن تكون عليه المجتمعات بعد قرون؛ حين يحقق العلم انتصاره الكامل على الطبيعة، وينتظم الفرد في حركة صارمة لا مجال فيها للخطأ أو التجاوزات، وذلك من خلال تحولات بطل الرواية، المثقف المتمرد، المتردد، الذي يعمل في مركز زراعة السبانخ.
رمضان بسطاويسي، أستاذ الفلسفة، يشارف هذه الرؤى في دراسته النقدية «يوتوبيا التكنولوجيا... أسطورة العصر الباردة» مشيراً إلى أن صبري موسى يقدم إشكاليات الإنسان في عصر الاتصال والمعلومات، والتي تتركز حول الحرية ومستقبل البشرية، وعلاقة الفرد بالسلطة في المجتمع، والحب وتغير صوره بعد الثورة التكنولوجية والاجتماعية، وتحقق العدالة بكل صورها التي يحلم بها ويتمناها المؤلف.
ولفت بسطاويسي إلى أن «السيد من حقل السبانخ» تنطوي على جانب يوتوبي، وتحاول أن تستشرف صورة الإنسان في المستقبل البعيد، التي تبدو متخلفة وتثير الرثاء والإشفاق، وهي بهذا المعنى تزيل التوهم الساذج الذي يقول بأن الإنسان سيد الآلة؛ حيث يسعى في عصرنا الراهن لتكييف حياته بما يتوافق مع إمكاناتها وظروفها، بدلاً من تطويرها بما يتفق مع إمكاناته الروحية.
ويوضح بسطاويسي أن المؤلف هنا يكشف عن معنى لم يتم الالتفات إليه في مجتمع الحداثة وما بعدها، والذي يقوم في بنيته على التفكيك، فالآلة جوهرها يقوم على عدد من الأجزاء، إذا توقف أحدها أصيبت بالعطب، وهنا يربط بينها وبين الحياة المعاصرة في جانبها المعرفي، ويراها مفككة إلى الحد الذي يجعل الإنسان يفتقر إلى فكرة النموذج الداخلي، الذي تطرحه الأسئلة التي يفجرها بطل الرواية «هومو»، وهي تسمية يراها الناقد مقصودة لأنها جذر مشتق من «هيومنزم».
ويرى بسطاويسي أن الخلل الذي يسعى موسى لإبرازه في روايته ليس في النظام، ولكن في الأشخاص أنفسهم، وهو ما يعني استحالة وجود مجتمع يستوعب الكائن البشري في قلقه وتوتره وأفراحه وأحزانه، بدليل المصير الذي انتهى إليه السيد هومو.
وحول «فساد الأمكنة»، الرواية التي شغلت الأوساط الأدبية في مصر والعالم العربي، تدور دراسة «النص والنقد» للروائي فتحي إمبابي، لافتاً إلى أن هذه الرواية التي بدأ صبري موسى كتابتها عام 1968 وانتهى منها قبل بداية عام 1970، واحدة من الروايات القليلة التي يبدو من الوهلة الأولى أنه من الممكن تناولها بأكثر من منهج نقدي، وأبرزها المنهج الأسطوري، ومنهج التحليل النفسي، ثم يأتي في المرتبة الثالثة المنهج الاجتماعي، وهذا طبقاً لوجهة نظر إمبابي، يدل على ثراء العمل وحيويته، وعلى قدرات موسى وسعة ثقافته، وتنوع مصادر معرفته.
ويذكر إمبابي أن «فساد الأمكنة» مليئة بالرموز والإشارات الموحية، التي تدل على انهيار القيم، وانبعاث العدمية، ومشاعر الإحباط، واليأس.
وعن حكايات صبري موسى، يقول الدكتور مجدي توفيق، إنها كتابة تلوذ بفعل الحكي على بساطته وفطريته، وتسعى لتخليص النص من تقاليد الكتابة الشائعة، ومن تقنياتها التي تجعل من القصة نتاجاً لبيئة المثقفين المتميزة وسط المجتمع، وفيها يستعين موسى بتقنية السيناريو، ليس بوصفها خاصية أسلوبية فحسب، ولكنها بنائية أيضاً؛ حيث تنقسم كل حكاية إلى مشاهد، ينفصل كل منها عن الآخر بعلامة خطية، ويتحول السرد إلى مشاهد بصرية، في حين تستغني الحكاية عن العناية بالوصف تعويلاً على خيال القارئ، الذي يمكنه أن ينشط في يسر، ما دامت المادة المقدمة متتابعة على نحو طبيعي، ومن هنا تصبح المشاهد وحدات من المعلومات لا من الصور.
ويرى توفيق أن السرد يأتي في الحكايات كرسالة غائمة تحتاج للتأويل من القراء، وتبدو واضحة فيها حالة الالتباس والمفارقة التي تغلف معظم القصص. ويشير توفيق إلى أن موسى ترك الحرية لشخصياته لتعبر عن نفسها؛ بلُغتها الخاصة، ووجهة نظرها، التي قد لا تتفق معه كمؤلف؛ لكنه مع ذلك استخدم لعبة الأقنعة ليعبر في بعض الحكايات عن وجهة نظره، ويلوم المدينة والمدنية والرجعية والإقطاع والحياة العصرية، ويحتضن الفقراء.
ويضم الكتاب دراسة للناقد صبري حافظ، عنوانها «مستقبل الأقصوصة المصرية... الحكاية مغامرة للبحث عن طابعنا الخاص»، يشير خلالها إلى استفادة موسى من المقامات العربية القديمة، ونوادر جحا، وابن علي القالي البغدادي، ومنها ينهل ويحاول إعادة الدماء إلى عروقها.
ويذكر حافظ أن موسى يحاول أن يزرع في حكاياته الحكمة أو الموعظة، إلا أنه يقدمها بأسلوب عصري يستخلصها من عصارة القصة برشاقة، يصل إليها متسلقاً على هموم القارئ وفوق سيقان المشكلات العامة التي يعاني منها، مستفيداً في ذلك من تقنية الريبورتاج الصحافي والقصة القصيرة الحديثة؛ حيث يقوم بتجميع الجزئيات ببساطة ومباشرة للإيحاء بما يريد أن يقدمه، وهذا الأسلوب ليس منهجاً في البناء فقط؛ لكنه واضح في الرؤية أيضاً.
ويحتوي الكتاب أيضاً بحثاً للشاعر الراحل محمد أبو المجد، حول رواية «حادث النصف متر» يشير خلاله إلى أنها تتجلى باعتبارها رؤية عاكسة لحركة الإنسان.
ويضم الكتاب مقالاً للكاتب عبد الله الطوخي، ودراسة للناقد مجاهد عبد المنعم مجاهد، حول مجموعة «القميص» التي صدرت ضمن أعمال صبري موسى الكاملة عام 1988، ويتحدث خلالها عن الخصائص الأسلوبية التي تتميز بها القصص، ودلالة التراكيب المصرية، التي تبرز من خلاله ملامح الشخصيات الاجتماعية ومواقفها وظروفها الحياتية.
ولد صبري موسى في مدينة دمياط عام 1932، ورحل في 18 يناير (كانون الثاني) العام الماضي، عن عمر يناهز 86 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض، وحياة أدبية خصبة. عمل في بداية حياته مدرساً للتربية الفنية، ثم انتقل للعمل بالصحافة. ومن أهم أعماله الروائية: «فساد الأمكنة»، و«حادث النصف متر»، و«الرجل من حقل السبانخ». ومن أعماله القصصية: «القميص»، و«مشروع قتل جارة»، وله كتابات في أدب الرحلات عن البحيرات والصحراء، واليونان وباريس. كما كتب السيناريو لعدد من الأفلام المهمة، من بينها: «البوسطجي»، و«قنديل أم هاشم»، و«قاهر الظلام»، و«أين تخبئون الشمس».
21 بحثاً على طاولة صبري موسى صاحب «فساد الأمكنة»
كتاب عنه أعدته زوجته الصحافية أنس الوجود رضوان
21 بحثاً على طاولة صبري موسى صاحب «فساد الأمكنة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة