كونتي ينتزع القرار السياسي من سالفيني

منذ بداية هذا الصيف، كانت إيطاليا ترقص على وقع خطوات ماتّيو سالفيني، زعيم حزب «الرابطة» اليميني المتطرف، الذي كانت شعبيته ترتفع مع كل استطلاع، ومع كل ارتفاع ينتشي بالنصر الموعود حتى بلغ به الأمر أن يطلب من الإيطاليين ما لم يجرؤ أي سياسي على طلبه منذ عهد موسوليني: صلاحيات مطلقة لإنهاض إيطاليا من سباتها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولإعادة تشكيل المشروع الأوروبي من جذوره.
لكن الرجل الذي كان سيّد المشهد السياسي الإيطالي بلا منازع، وشاغل وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، هو اليوم رجل كئيب ونادم على الخطأ الفادح الذي ارتكبه رغم إصراره على المكابرة، يكاد يكون مغلوباً على أمره، يراجع حساباته ويحاول إصلاح ما يدرك جيّداً أنه بات عصيّاً على الإصلاح.
مرة أخرى يأتي الدرس الديمقراطي من إيطاليا، البلد الأوروبي الذي منذ مطالع القرن الماضي يقيم علاقة معقّدة ومضطربة مع الديمقراطية، ويعاني منذ سنوات حالاً من الإنهاك السياسي والاقتصادي وضعته فيما يشبه غرفة العناية الفائقة داخل الاتحاد الأوروبي الذي يحاول مداواته بكل أنواع المسكّنات ويحبس أنفاسه كلّما ارتفعت حرارته.
فالحكومة التي سقطت مطلع الأسبوع الماضي بعد أربعة عشر شهراً من تشكيلها، كانت أوّل تجربة للحكم الشعبوي واليميني المتطرف في الاتحاد الأوروبي، والاختبار الأول للأحزاب غير التقليدية التي تنشط وتنمو على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن البلد الذي كان مهداً للفكر السياسي الماكيافيلي وجعل من المكائد أسلوباً للحكم، أظهر أيضاً أن الأزمات السياسية لا تحسم في ظلمة المؤامرات، ولا على مناشر شبكات التواصل والساحات المكتظّة بالجماهير الهائجة.
الفصل الأجمل في هذه الحكومة التي كانت مستحيلة منذ ولادتها هي نهايتها التي شهدت ارتطام الصعود الديماغوجي لسالفيني بسقف الواقع السياسي الإيطالي، وتتويج المسار الأكاديمي الهادئ لرئيس الوزراء جيوزيبي كونتي. فقد حاول الديماغوجي تفجير الحكومة من الداخل، في عزّ العطلة الصيفية، طالباً سحب الثقة من رئيسه والذهاب إلى انتخابات مبكرة يرى فيها الفرصة للإمساك وحده بزمام السلطة. أما رئيس الحكومة، أستاذ القانون الرصين، فقد فاجأ الجميع بحجّة موقفه، وهجومه اللاذع والأكاديمي على سالفيني في درس تطبيقي ونظري حول الديمقراطية.
أعاد كونتي مركز العمل السياسي إلى حيث يجب أن يكون في الأنظمة الديمقراطية، أي إلى البرلمان الذي يمنح الثقة أو يحجبها عن رئيس الحكومة. وقال لسالفيني، من غير أن يقول له، إن ممثلي الشعب، وبخاصة من يتولّى مسؤوليات الحكم بينهم، يتوجب عليهم احترام المؤسسات وقواعد اللعبة الديمقراطية، المكتوبة وغير المكتوبة، وأن يكونوا على ثقافة دستورية عالية.
وقال كونتي لسالفيني، أيضا من غير أن يقول له، إن السلطة الفردية والصلاحيات المطلقة لا مكان لها تحت عباءة النظام الديمقراطي والتوازن الدقيق بين السلطات، وإنه لا مجال للدمج بين الرموز الدينية والشعارات السياسية في انتهاك صارخ لعلمانية الدولة.
وتكمن أهمية هذه التطورات التي شهدتها الأزمة الإيطالية حتى الآن في أن عدداً متزايدا من القوى والقيادات السياسية في الاتحاد الأوروبي، والغرب عموماً، ما عاد يقيم وزناً للبديهيّات المسلكية في الديمقراطيات التمثيلية، ويجنح إلى قطف الثمار الانتخابية بأي ثمن أو وسيلة، سعياً للوصول إلى السلطة والتفرّد بممارستها بلا ضوابط أو مساءلة حول مسوّغاتها وعواقبها. أياً كانت نهاية هذه الأزمة، فإن ثمّة خاسراً أكيداً فيها هو زعيم حزب «الرابطة» الذي خسر رهانه الأهمّ في اللحظة الحاسمة عندما كان يمسك بكل الأوراق الرابحة. أما الرابح الأكبر فهو رئيس الوزراء جيوزيبي كونتي الذي، رغم عدم انتمائه لحركة النجوم الخمس، بات قاب قوسين من تسلّم زمامها بعد الأفول المتواصل لزعيمها الحالي لويجي دي مايو (أيار).
لكن الأيام قد تُبدي لنا أن الطبائع الإيطالية عصيّة على التطبّع، وأن سالفيني قد يحقق مبتغاه في نهاية المطاف، أو ربما أكثر، لكن ليس بفضل حنكته ومهارته، بل لأن خصومه، كالعادة، سيرتكبون أخطاءً أفدح من أخطائه.