كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

صحافيات زرن البلاد لمعاينة {انتصار الأسد}

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة
TT

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

كيف يبدو «النصر»؟... رحلة عبر سوريا الممزقة

عندما انطلقنا في رحلتنا حول حطام ضاحية دوما في دمشق، استغرق الأمر منا وقتاً قليلاً كي ندرك ما ينقص المكان. رأينا نساء يحملن أكياس البقالة، ورجالاً كباراً في السن على ظهر دراجات بخارية وأطفالاً بأجساد نحيفة في طريق العودة إلى ديارهم حاملين أواني من المياه. ومع هذا، كان هناك القليل من الرجال الشباب.
لقد سقطوا قتلى في الحرب أو زج بهم إلى السجون أو تشتتوا فيما وراء حدود سوريا. والآن، أصبح لزاماً على الناجين أمثال أم خليل، الجدة ذات الوجه المستدير البالغة 59 عاماً، التأقلم مع غيابهم. لقي ثلاثة من أبناء أم خليل مصرعهم، بينما تعرض ابن رابع للتعذيب في سجن يتبع الجماعات المسلحة، واختفى خامس في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام. واضطرت زوجات أبنائها إلى العمل، بينما تتولى هي رعاية أحفادها الخمسة في ظل غياب زوجها الذي قتل في غارة جوية.

قالت أم خليل أثناء جلوسها في شقة أحد معارفها، حيث يتكدس الباقون من أفراد أسرتها: «أحياناً، أجلس وأفكر كيف حدث كل هذا؟ كان لدي أبناء يعملون، وكان كل شيء طبيعياً، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج، وفقدته أيضاً. ليس لدي إجابات. فليسامح الله من كان مسؤولاً عن كل ذلك». وبعد ذلك، انفجرت صائحة: «يغفر لهم أو لا يغفر لهم، ما الفارق الذي سيحدثه ذلك؟ أتمنى لو كان بإمكاني العثور على من دمر هذه المدينة لأقتله بنفسي».
على مدار فترة من الوقت، أحاطت الشكوك بمسألة ما إذا كان الرئيس بشار الأسد سيخرج منتصراً في هذه الحرب. ونحن ثلاثة صحافيات لدى «نيويورك تايمز» قدمنا إلى سوريا لمعاينة كيف يبدو هذا النصر الذي حققه.
على مدار ثمانية أيام في يونيو (حزيران)، زرنا خمس مدن وقرى خاضعة لسيطرة قوات النظام، وعايننا فيها حطاماً وكرماً وأشخاصاً يعتصرهم الحزن وآخرين يعيشون يوماً بيوم. الواضح أن المعاناة توزعت على نحو متفاوت، وكان الجزء الأكبر منها من نصيب الفقراء وسكان المناطق التي كان يسيطر عليها المسلحون سابقاً. كما جرى التشارك في جهود التعافي على نحو متفاوت، أيضاً.
في دمشق، يقف مركز للتسوق التجاري جرى بناؤه أثناء الحرب بتكلفة 310 ملايين دولار في بقعة ليست بعيدة عن جبل كانت قوات الأسد تدك أماكن خاضعة لسيطرة مسلحين فيه بالمدفعية. في المقابل نجد أنه في بلدة دوما المجاورة التي خضعت لسيطرة المسلحين على مدار الجزء الأكبر من الحرب، ما تزال المياه الجارية أملاً أكثر منه حقيقية. وفي اللاذقية، المطلة على ساحل البحر المتوسط، وأحد المعاقل القوية للأسد، كانت النسوة يبكين خلف صور الأبناء القتلى. وفي مدينة حلب الشمالية التي نجح الأسد في استعادة السيطرة عليها، عادت الحياة مجدداً إلى المصانع والأسواق، لكن إمدادات الكهرباء ما تزال متقطعة.
ولم تكن البنية التحتية الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى إعادة بناء، وإنما تؤكد مشاهداتنا أن سوريا تنقصها طبقة وسطى، بعد أن فر أفراد هذه الطبقة إلى الخارج أو هبطوا على درجات السلم الاقتصادي.
من ناحيتها، تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية من بين كل 10 أشخاص في سوريا، الآن، يعيشون في الفقر، ويتقاضون أقل من 3.1 دولار يومياً بالنسبة للفرد. وحتى مع بدء عودة بعض النازحين إلى ديارهم، ما يزال الشباب يجبرون على الانضمام إلى الجيش، بينما يختفي المنشقون أو من هم على صلة بهم داخل سجون مظلمة. وما يزال الناس يفرون من البلاد حتى اليوم، وإن كانت أعدادهم أقل كثيراً عما كانت عليه في فترات الذروة من قبل.
وفي ظل عدم تدفق مساعدات من الجهات الدولية المانحة، وجد السوريون الذين التقيناهم أنفسهم مضطرين لفعل كل ما بوسعهم لرأب الصدوع التي أحدثتها الذخائر في جدران منازلهم وإطعام أطفالهم وإيجاد سبيل لكسب القوت.
وفي ظل غياب عدد كبير للغاية من الشباب، وقعت هذه المهمة على عاتق الكبار في السن وشديدي الصغر، خاصة النساء، بما في ذلك نساء من أسر محافظة يعملن اليوم للمرة الأولى في حياتهن. على سبيل المثال، قالت أم عقيل (40 عاماً)، في شرق حلب: «لم يخطر ببالي قط أن يأتي يوم وأعمل فيه، لكن هذا أفضل بكثير من أن أضطر للتسول». وقالت أم عقيل إن الحكومة تحتجز زوجها، «دون ذنب اقترفه» حسب قولها. وقالت إنها ترغب في أن تعمل بناتها عندما ينجزن تعليمهن بالمدارس، كي «لا يكابدن ما كابدته أنا».

صور الأسد في كل مكان

في كل مكان زرناه، كان من المستحيل أن تنسى من يترأس هذا الدمار، ومن سيترأس ما سيليه. حملت واحدة من اللافتات الكثيرة المعلقة فوق الطرق السورية عبارة «الأسد إلى الأبد» وحملت صورة الأسد.
وانتشرت صور الأسد عند مداخل المدن التي أعادت قواته السيطرة عليها. وفي بعض الصور، أطل وجهه من بين وجهي داعميه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من جهة وزعيم جماعة «حزب الله» اللبنانية، حسن نصر الله، من جهة أخرى. وعند إحدى نقاط التفتيش التابعة للجيش التي مررنا بها، كان هناك ما لا يقل عن 13 صورة للأسد، تحدق عيناه داخلها في اتجاهات مختلفة وكأنها مجموعة كاميرات أمنية. أما عملاؤه، فكانوا حاضرين دوماً في رحلتنا. كانت الحكومة قد حظرت عمل الكثير من زملائنا وعدداً من وسائل الإعلام الأخرى بسبب تغطية اعتبرتها شديدة النقد. وتطلب الأمر منا نحن الثلاثة ـ أنا، المراسلة المقيمة في بيروت، ومترجمة لبنانية، ومصورة أميركية تدعى ميريديث كوت، قرابة نصف عام كي نتمكن من دخول البلاد.
ومع هذ، فإن مجرد الحصول على «فيزا» لا يعني السماح بالتجول بحرية في الأرجاء، ففي كل مكان تقريباً ذهبنا إليه، كنا مرافقين برقباء، والعديد من الجنود، ورقباء في ملابس مدنية يتبعون جهاز الاستخبارات السوري القوي. ومن حين لآخر، كان هؤلاء يقدمون أنفسهم باعتبارهم «صحافيين»، وكانوا يقفون إلى جوارنا تقريباً في جميع المحادثات التي كانت تدور بيننا وبين أحد من السوريين. وكان من الصعب الحديث إلى الناس، فقد كانت تجربة مخيفة لهم.
على أفضل تقدير، تمكننا في نهاية الأمر من الحصول على رؤية ضيقة من منظور المعسكر الموالي للنظام لما آلت إليه الأوضاع في سوريا. ولم يلق أي شخص ممن تحدثنا إليهم اللوم على حكومة الأسد في الكارثة التي أنهكت سوريا. ودائماً ما رأى من تحدثنا إليهم، أن الانهيار الاقتصادي نتاج العقوبات الأميركية، وليس الحرب أو الفساد.

نفس القصص الحزينة

كان الرقباء الحكوميون حريصين على أن يظهروا لنا أن الحياة عادت إلى طبيعتها في البلاد. وكانت هذه مهمة بسيطة في دمشق التي نجحت في الجزء الأكبر منها في تجنب الضرر المادي. ومع ذلك، فإنه في غضون دقيقتين من انطلاقنا في رحلة بالسيارة من دمشق إلى دوما، تبدل فجأة المشهد خارج نافذة السيارة من مدينة تعج بالحركة إلى ميدان يعج بركام رمادي اللون. وبدا كما لو أن هذا الركام ممتد لأميال، ورأينا مباني سكنية أشبه بساحات انتظار سيارات في الهواء الطلق، ومآذن تطل برأسها من قلب الحطام مثل شموع ذابت إلى منتصفها في قلب كعكة.
اتسم الدمار والركام المحيط بتجانس مخيف ناتج عن إقدام الطائرات الحربية والمدفعية على محو كل ما على وجه الأرض تقريباً، فيما عدد منشآت إنسانية قليلة. وبذلك، كان من السهل على المرء أن ينسى أن هذا الركام كان بنايات ومنازل في يوم من الأيام.
في قلب دوما، تجتذب السوق حركة خفيفة لكنها مستمرة من متسوقين يبحثون عن فاكهة ومعدات منزلية - إلا أنه رغم مرور أكثر عن عام على نجاح الحكومة في كسر سيطرة المسلحين على المدينة من خلال حصارٍ قاسٍ دفع السكان لأكل العشب، ما تزال أجزاء كبيرة من المدينة لا تصلح للسكن.
ويمكنك التعرف على المناطق التي بدأ الناس في العودة إليها، تحديداً بين تلال الركام، وذلك من خلال أغطية من القماش حلت محل جدران المنازل التي لم يعد لها وجود. في واحدة من البنايات، كانت ثريا يغطيها اللون الأسود واضحة عبر ثقوب واسعة في الجدران التي تحولت إلى شاهد على تحطم الطبقة الوسطى في دوما. وقادنا أحد الأطفال ممن كانوا يلعبون في الخارج نحو أعلى السلالم لمقابلة جده، علي حمود طعمة، وزوجته أم فارس.
كان الجد والجدة قد عادا إلى شقتهما في مايو (أيار)، ليجداها منهوبة ومحترقة. أما قطعة الأثاث الوحيدة التي نجحا في إنقاذها فهي قطعة سجاد تمزج بين اللونين الخمري والأزرق حملتها أم فارس معها عندما فرا إلى قبو على الجانب الآخر من المدينة خلال الأيام الأولى من الحرب. وعلى مدار السنوات السبع التي عاشاها تحت الأرض، بعض الأحيان من دون طعام أو شراب، رفضت أم فارس استخدام السجادة، وظلت في انتظار اليوم الذي يعودان فيه إلى منزلهما من جديد. بحلول وقت عودتهما، كان 20 من أفراد أسرتهما قد لقي مصرعه. وتولت أم فارس وزوجها تربية 11 حفيداً يتيماً داخل مبنى مهجور في معظمه. أما بالنسبة للأصدقاء والجيران القلائل الذين تبقوا، فقد قالت أم فارس: «نتحاشى رؤية بعضنا البعض لأننا جميعاً لدينا نفس القصص الحزينة».
بالجوار، جلس حفيدها، خالد (9 سنوات)، يمسح عينيه الممتلئتين بالدموع ويدفن رأسه من حين لآخر في وسادة. وأوضحت أم فارس أنه لا يبكي على والده المتوفى، وإنما لأنه يعمل في ورشة حدادة، ويتقاضى أجراً يومياً يكافئ ثمن ساندويتش واحد، وتتسبب الشظايا والمواد الكيماوية المتطايرة في التهاب عينيه. بالنسبة للدواء، فإنه خارج حدود مقدرة الأسرة المادية، لكن من دون عمل خالد، لن يكون هناك طعام.
ونهض طعمة وعاد إلينا حاملاً طبقاً زجاجياً به فطائر محشوة بالتمر والفول السوداني. في الواقع، جميع السوريين الذين التقيناهم حرصوا دوماً على أن يقدموا لنا شيئاً مهما بلغ ضيق العيش بهم. وشعرنا أنه من غير اللائق أن نرفض بادرة تهامي السخية هنا داخل منزله البسيط. في وقت لاحق، أخبرتني المصورة المرافقة لنا، أنها رأته يبحث بيديه عبر كومة كبيرة من المتعلقات داخل دولاب الملابس وحمل شيئاً من الأسفل: علبة الحلوى، واحدة من آخر ما تملك الأسرة، والتي يحافظون عليها بحرص.

شرف لنا أن نضحي به

تضاعفت أعداد أتباع الحكومة من حولنا عندما قادتنا السيارة نحو مدينة اللاذقية الساحلية. وتضم المدينة أعداداً كبيرة من المسلمين العلويين الذين يشاركهم الأسد الطائفة، وقد كانوا من قبل أقلية دينية مهمشة داخل البلاد. وتعج صفوف الجيش وقوات الأمن من أبناء العلويين، وكان واضحاً أن اللاذقية تشكل معقل الرئيس.
في قرية بيت ياشوط الجبلية، تظهر صور لشباب قضوا أثناء قتالهم من أجل الأسد - أطلق عليهم «الشهداء» - معلقة على أعمدة خطوط الهاتف. وقامت مجموعة تضمنت لواءً عسكرياً ومسؤولاً بالقرية واثنين من المعنيين بشؤون الجنود، بمرافقتنا من منزل لآخر. سألت والد أحد الجنود القتلى، ياسين حسنا، عن تضحيته، وما إذا كان الأمر يستحق هذه التضحية. قال الأب وعيناه تنظر باتجاه اللواء الذي هز رأسه بالموافقة: «مستعد لتقديم أي شيء من أجل سوريا - أتمنى لو نصبح جميعاً شهداء من أجل الوطن». وأشارت لنا أم تدعى زكية أحمد حسن، إلى مقعد بلاستيكي غالباً ما تجلس عليه بجوار قبر ابنها لتشرب القهوة وتغني له. وقالت: «كان شرف لنا أن نضحي به. لقد كان يدافع عن الوطن».
يفترض الكثير من غير العلويين أن العلويين نالوا مكافآت سخية مقابل ولائهم، لكن الحقيقة أن هذه الأسر كانت تحصل على قوت يومها بالكاد، وتحدث أفرادها عن عجزهم عن توفير الحليب للأطفال والأسعار الباهظة للبطاطا والزيت والسكر، وأنهم توقفوا تماماً عن الذهاب إلى اللحام. وأشارت زكية إلى مجموعة من الخضراوات تزرعها بجوار قبر ابنها، وقالت: «حتى لو فرض الأميركيون حصاراً ضدنا، على الأقل ما يزال بإمكاننا تناول الخيار والخبز!».
وأبدى الحاكم المحلي، إبراهيم خضر السالم، حرصه على التأكيد على أن الحكومة توفر موارد إضافية إلى أسر الجنود، ومن المفترض حصولهم على أولوية فيما يخص الوظائف الحكومية، بجانب ميزات صغيرة أخرى مثل إلغاء ضرائب السيارات ومصاريف الدراسة الجامعية. وأضاف السالم: «السيد الرئيس شخصياً يولي أولوية لهذه القضايا. وفي كل يوم، يتابع والحكومة أوضاع أسر الشهداء».
جدير بالذكر أن ثلاثة مصورين حكوميين تولوا تصوير مقابلتنا حتى أنهى الحاكم حديثه تماماً.

في حلب ليل بلا أضواء

في طريقنا بالسيارة شمالاً نحو حلب، كانت هناك سيارات محترقة على جانب الطريق، بينما تصاعدت ألسنة دخان رمادية من واحدة من الحرائق التي تسببت في وقت قريب في حرق آلاف الأفدنة من المحاصيل. ويبدو أن أحداً لم يكن يعرف المسؤول عن هذا الحريق، الأمر الوحيد المؤكد أن الجوع في سوريا في طريقه نحو مزيد من التفاقم.
قبل الحرب، كانت حلب المنافس الأكبر لدمشق، وكبرى مدن البلاد والمحرك التجاري لها. وتبعاً لما ذكرته رنا، التي رافقتنا في جولتنا: «لا ينام أهل المدينة مطلقاً أو هكذا جرت العادة فيما مضى». إلا أن الحصار الحكومي تسبب في خراب سوق المدينة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الـ14. وفي انطفاء الأضواء.
وبعد مرور عامين ونصف العام عما أسماه كل من التقيناهم «تحرير شرق حلب من قبضة الجماعات المسلحة»، ما تزال الكهرباء تأتي بصورة أساسية من المولدات. ومن دون أموال إعادة الإعمار من الحكومة، تعتمد أعمال إعادة البناء على القدرات المالية للأفراد. كان هناك أشخاص عاجزون عن شراء أبواب أو نوافذ، وآخرون يعيشون على قدر يسير للغاية من الكهرباء لدرجة تضطرهم إلى الجلوس خارج منازلهم كل ليلة حتى وقت النوم. وتعد المستشفيات الخاصة المؤسسات الوحيدة التي بدأت العمل من جديد، ربما لأن الحكومة قصفت المستشفيات باستمرار وما تزال العامة منها مدمرة.
ومع هذا، خلال ساعات النهار، بدت المنطقة تعج بحركة بائعي البطيخ وحركة المرور. وأخبرتنا سيدة التقيناها داخل صالون تجميل أنها تقص شعرها للمرة الأولى منذ الحرب داخل صالون متخصص. كما أعادت المدارس فتح أبوابها. وفي أحد الشوارع، كانت هناك لافتة كبيرة مكتوب عليها «عاد الأمن إلى سوريا».
ومع هذا، ظل الأمن حلماً بعيد المنال بالنسبة لأم أحمد (28 عاماً)، التي كانت تجلس بجوار شقيقتها عند المغيب، وتحيطها مجموعة من تلال المباني المدمرة.
قالت السيدتان إن زوجيهما من المفقودين، وأنهما احتجزا مع تقدم قوات موالية للحكومة في شرق حلب عام 2015. واقترب من يرافقوننا من رقباء الحكومة، وأخبرت رنا، التي لم تفصح قط عن اسمها الثاني، أم أحمد، بأن الأمر أكثر تعقيداً مما تقوله، وأنه لا ينبغي لها التفوه بمثل هذا الحديث إلى صحافيين. وهنا، ردت أم أحمد: «هل ينبغي أن نكذب؟ هذا ما حدث». وهنا، اصطحبتها رنا إلى المطبخ حيث ارتفع صوتهما في الحديث. وعندما عادت (أم أحمد)، ظلت هادئة.
في وقت لاحق، شكوت إلى وزير الإعلام كثرة المرافقين لنا، فأجابني بقوله: «عليك أن تعي أننا لسنا أميركيين. وندير أمورنا هنا على نحو مختلف. والجميع هنا يفترض أنكم جواسيس». عندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقنا الرقباء من الاستخبارات العسكرية حتى الحدود اللبنانية. واضطررنا للتوقف أربع مرات خلال الطريق بسبب تعطل السيارة.
ما الذي يبدو عليه النصر؟ على الأقل نصف مليون قتيل، وأكثر عن 11 مليون شردوا من منازلهم. وتحولت المدن إلى ركام ومدن أشباح. وبينما يتسوق البعض في مراكز تجارية، يعيش آخرون على تناول الخيار الذي يزرعونه.
وأبدى غالبية من قابلناهم حذراً شديداً لدى الحديث إلينا، ورفضوا تماماً الحديث عن الماضي أو المستقبل، بينما انحنت ظهورهم تحت وطأة المهمة اليومية: ضمان البقاء. ومع هذا، من حين لآخر، كان يظهر لنا شيء يذكرنا بأن سوريا كانت أكثر بكثير من مجرد الحرب، رغم طول أمد هذه الحرب وبشاعتها.
خلال وقت العشاء في ليلتنا الأولى في حلب، قال سائقنا، أبو عبده، إنه يعرف بضعة أماكن يمكننا تناول العشاء فيها قرب الفندق الذي نقيم فيه، منذ أيام ما قبل الحرب عندما كان يرافق سائحين في جولاتهم بالمدينة.
وكان المطعم الأول الذي تذكره قد اختفى، وكذلك الثاني. وعند البناية التالية، وقف رجل إلى جوار لافتة كتب عليها «روستو أبو نواس»، وسارع نحوه أبو عبده بمجرد رؤيته. وقال له: «محمود، هل تذكرني؟ لقد اعتدت القدوم هنا كثيراً. أنتم تقدمون الطعام الأفضل على الإطلاق». في البداية، لم يتعرف عليه مالك المطعم، عبد الغني محمود، لكن بعد ذلك أضاء وجهه فجأة وقال: «أها. نعم، نعم».
كان المطعم خالياً سوى من شيف يقف بإحدى الزوايا. وكانت قطعة القماش التي تغطي الطاولة ملطخة، وكذلك الجداريات الخاصة بحلب القديمة على الجدران. وحام داخل منطقة تناول الطعام بعض الذباب. أما الشيء الوحيد الذي لم يبد قديماً ومتهالكاً فهو الطاولة التي كانت عليها أكوام طازجة من الطماطم والخيار والنعناع والفجل. وعندما طلب أبو عبده مشروباً مثلجاً، اعتذر محمود، مشيراً إلى أن المولد الذي يعتمد عليه المبرد تعطل، وبالتالي ليس هناك ثلج. وهنا، حدقت في وجه المترجمة المرافقة متسائلة: «كيف سنتناول لحوماً هنا؟». في البداية، جاءت الخضراوات، ثم سلطة الحمص والمتبلات وسلطة باذنجان مدخن. بعد ذلك، جاءت العديد من أطباق الدجاج المشوي الحار والكباب. بدأت في تناول الطعام وعلى الفور نسيت أمر المبرد المعطل. ورغم أني تناولت مثل هذه الأطباق عدة مرات من قبل في لبنان وسوريا، لكن تلك كانت الأفضل. وقال أبو عبده معلقاً على الطعام: «ما يزال الطعام كما هو، مثلما أتذكره».
عندما غادرنا، كان الشارع مظلماً وفارغاً. كان الوقت ما يزال مبكراً، لكن مرت سنوات كثيرة منذ الأيام التي اعتاد أبناء حلب خلالها السهر طوال الليل في الشوارع.
*خدمة نيويورك تايمز



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.