سنوات السينما: Metropolis

Metropolis
(1927)
فريتز لانغ يرسم
معالم المستقبل

في عام 1927، العام الذي تم فيه عرض هذا الفيلم، وضع المنظّر والفيلسوف الأميركي جون ديووي كتاباً بعنوان «العموم ومشكلته - The Public and its Problem» أشار فيه إلى أن الفرد يلمّ بنفسه حين يختلط مع الناس ويتصرّف على نحو مختلف حيال الأمور مما لو كان وحيداً. اختلاطه بالناس يجعله يشعر بأن دوره أكبر مما يشعر به من دون ذلك الاختلاط. في فيلم فريتز لانغ هذا، يمر بطله الشاب فَدر بهذه التجربة: وحيداً لم يكن يرى شيئاً. إذ يختلط تتبدّى له الحياة مختلفة. وحيداً كان بلا رسالة، فقط بمنهج مخطط له ينفّذه. مع الناس أدرك رسالته وحارب من أجلها.
وضع لانغ وزوجته تيا فون هاربو الأحداث في زمن مستقبلي هو عام 2000، وبما أن لانغ، المتوفى سنة 1976 لم يعش هذا المستقبل، فإن المثير للاهتمام كيف أن توقّعات الفيلم من ناحية ارتفاع الفارق بين الطبقتين الثرية والمتوسطة برهنت على صحتها مع مرور الوقت وإلى اليوم.
يحمل المستقبل في الفيلم شكلين تعبيريين خاصّين: بما أن العالم سينقسم إلى فوق الأرض، حيث يعيش الأثرياء، وتحت الأرض حيث يعيش ويشتغل العاملون، فإن الديكور والأدوات متباينة: فوق الأرض عمارات شاهقة وقطارات معلّقة وطائرات صغيرة تجوب الفضاء بين المباني. أما تحت الأرض فنجد آلات صناعية بدائية الشكل تمد فوق الأرض بطاقاتها.
الفارق بين التصاميم الفوقية والتحتية في بادئ الأمر مثير للاستغراب. ففي حين سيتمتع مَن هم فوق الأرض بالرفاهية سيبقى مستقبل الطبقة العاملة كما هو، بالتالي للتعبير عن هذا «البقاء كما هو» لا بد من ترميز الآلات إلى ذات الدلالة لكي يتلاءم ووضع الطبقة العاملة الذي لن يتغيّر لذلك، فالأدوات التي يعمل بها ثقيلة وقديمة تتطلب جهداً بدنياً كبيراً لتحريكها.
يبدأ «متروبوليس» بمشهد لآلات صناعية مع مونتاج متداخل ثم ينقلنا إلى الحركة الإنسانية الأولى: الساعة الثانية عشرة هو الوقت الذي يتم فيه استبدال العمّال. العمال على صفّين؛ واحد أنهى عمله وآخر يبدأه. الصف الأول يتجه صوب الكاميرا والثاني يبتعد في الاتجاه الآخر. مشْي الفوجين قريب لمشْي الأحياء - الموتى في أفلام اليوم. يرمز إلى عبودية فريدة الظهور في السينما آنذاك.
فَدر (غوستاف فروليش) هو ابن «سيد متروبوليس» جون فريدرسون (ألفريد آبل) وهو يعيش سعيداً وثرياً ومن دون همٍّ يُذكر إلى أن يتغيّر الوضع عندما يلتقي ذات يوم امرأة شابّة اسمها ماريا (بريجيت هلم) يراها تُطرد، ومَن معها من الأطفال، من «حديقة الخلود» الذي كان يزورها مع صديقته. حزنها وحال الأطفال لا يفارق مخيّلته. لم يكن رأى فقراء قبل الآن. وزاد من تأثير المشهد أنها نادت الأحياء فوق الأرض بقولها: «كلنا إخوة»٠
يلحق فَدر بالمرأة إلى العالم التحتي ويراه على حقيقته. يستمع إليها وهي تدعو العمال إلى التغيير ويشاهد والده وهو يحاول تحطيم إرادتها وإرادة العمال. فَدر عليه أن يتخذ موقفاً حيال الأمر خصوصاً عندما يقرر والده صنع روبوت على شكل ماريا لكي يبث دعوات لقبول الأمر الواقع.
المكانة التي حققها «متروبوليس» في التاريخ مستحَقة، لكني أحب «متروبوليس» أقل مما أعجب به. بكل تأكيد هو فيلم مهم جدّاً على صعيد العمل الفني والتقني. بصرياته مذهلة وتحريك مجاميعه وإدارة ممثليه رائع، لكن دائماً ما وجدت نفسي أمام مادّة مصنوعة لأجلها أولاً. لا يمكن ضحدها من حيث أهميّتها وصوغها الإنساني، لكنها مادّة باردة لا رأي فيها بل تُعرض بما تقدمه وتكتفي. على ذلك، حين النظر إلى ما تطلبه تحقيق الفيلم (37 ألف ممثل كومبارس وعامين من التصوير مثلاً) فإن قيمة هذا الفيلم الصامت ترتفع مجدداً.