مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

شملت مؤلفات لطه حسين ومحفوظ وإدريس وبورخيس وجاك دريدا

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة
TT

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

مبدعون مصريون: هذه الكتب أصابتنا بعدوى الكتابة

تنوعت اختيارات الكتاب المصريين المشاركين في هذا التحقيق حول أهم الكتب التي حفزتهم على خوض مغامرة الكتابة والتي لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والأسئلة والعودة إليها بين حين وآخر رغم مرور زمن طويل على صدورها
يسري عبد الغني: انهلوا من هؤلاء الرواد
من الكتب التي ألهمتني الكتابة، وكانت بالنسبة لي مصابيح تنير طريق البحث والدرس، كتب أستاذي ومعلمي وقدوتي عباس محمود العقاد، خصوصاً عبقرياته ودراساته عن أعلام التاريخ والحضارة العربية الإسلامية، ولغته الدقيقة المعبرة بإيجاز شديد، ومنهجه العلمي الذي قلما نجد من يكتب به في زماننا هذا.
بعد ذلك، يأتي عميد الأدب العربي طه حسين الذي نهلنا من كتبه، خصوصاً كتاب «الشعر الجاهلي» الذي أثار ضجة أدبية فكرية عند صدوره، وتعلمت منه كيف لا نأخذ الأمور بطريقة عشوائية مسلم بها، بل يجب أن نبحث ونبحث بغية الوصول إلى الحقائق، وفق أطر علمية سليمة.
ثم يأتي أستاذي الدكتور رشاد رشدي، وكتبه عن الأدب الإنجليزي، وبالذات الروائيين والشعراء والنقاد الإنجليز. وقد تعلمت منه كيف نقبل الآخر، حتى لو اختلفنا معه. وبالطبع ليس من الممكن أن أنسى علماء التراث، سدنة تحقيقه وحمايته، الذين مزجوا بين الأصالة والمعاصرة: أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وأحمد باشا تيمور، وعبد السلام هارون، وصلاح الدين المنجد، ورمضان عبد التواب، وأحمد أمين، وزكي نجيب محمود، وسهير القلماوي، وكامل الكيلاني، وعبد المنعم شميس، وثروت عكاشة، وغيرهم من الذين علمونا أن من لا ماضي له لا حاضر له ولا مستقبل.
وكتب أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي، الفيلسوف المفكر الذي ظلمناه، خصوصاً كتبه الفلسفية، من المستحيل أن يتجاهلها أي مثقف، أضف إلى ذلك دفاعه الرائع عن تراثنا العلمي ورواده.
ثم يأتي العم نجيب محفوظ الذي علمنا كيف نكتب بمصداقية وفهم وحب، وأيضاً بيرم التونسي، وديوانه الذي يجعلني أقول دائماً إن الصدق في الإبداع له رواد من الصعب أن نكررهم.
ولا أنسى إبداعات شوقي وحافظ والمازني وعبد الرحمن شكري، إضافة إلى عبد الصبور وأمل دنقل، وقبلهم محمد ومحمود تيمور، ومحمد عبد الحليم عبد الله، والسحار، وباكثير، وأمين يوسف غراب، ويوسف السباعي، وصبري موسى، ومصطفى محمود، وغيرهم من الذين علموني كيف أكتب وأبحث وأدرس. إن جيل الرواد الذين تعلمنا من كتبهم قدموا لنا آفاقاً رحبة، وفكراً جاداً مستنيراً، وكل كتاب لهم تعلمنا منه شيئاً مذكوراً؛ كانوا أساتذة بمعنى الكلمة: يعلمون، ويرشدون، ويوجهون، فكانوا بحق المثل الأعلى والقدوة الحسنة، ولم يكن طريقهم مفروشاً بالورود، وكل كتاب لهم يقول لنا ذلك.
ومن هنا، تأتي نصيحتي دائماً لأبنائي وأحفادي من الطلاب ومحبي الفكر: انهلوا من هؤلاء الرواد، واقرأوا كتبهم قراءة فاهمة واعية، وبعد ذلك كونوا رأيكم وفكركم، فمن قال إننا جيل بلا أساتذة، فقد ضل ضلالاً بعيداً، بل إنه ألغى كونه محباً للفكر.
ناصر عراق: الجبرتي ألهمني «الأزبكية»
إذا كان بورخيس قد تخيل أن الجنة عبارة عن مكتبة كبيرة، فإنني أزعم أن الكتب هي التي ستجعل الإنسان يصنع الجنة على الأرض، قبل أن يتذوق حلاوتها في السماء، فالكتب هي التي تكثف وتحفظ الخبرات الإنسانية في المجالات كافة، ثم تنقلها من جيل إلى جيل، ومن قرن إلى آخر، فيستفيد منها الإنسان، ويتفاعل معها وينفعل بها، فيختبر قناعاته ويطور أفكاره ليحقق طموحاته وأحلامه.
بالنسبة لي، فأنا أعد نفسي من المحظوظين لأنني شيّدتُ علاقة طيبة مع الكتاب منذ الصغر، بحكم النشأة في أسرة شغوفة بالمعرفة والاطلاع. ولكن عندما بلغت الخامسة عشرة، فتنتني «الأيام» لطه حسين، إذ كانت مقررة علينا نحن طلاب الصف الثالث الإعدادي، وقررت (للمرة الأولى) أن أصير كاتباً مثل هذا الرجل. وبعد شهور قليلة، وبالتحديد في سنة 1976، أهداني الحظ اللقاء الممتع الأول مع «ثلاثية» نجيب محفوظ، فأيقنت أنني مرصود لدنيا الكتابة والروايات، وأن مستقبلي هناك قابعاً بين الحروف والكلمات.
ولا يغيب عن فطنة اللبيب أن التقدم في العمر، واستقرار عادة القراءة، علاوة على تراكم الخبرات الحياتية والمعرفية، كل ذلك يؤدي إلى اتساع أفق المرء، ويفتح أمامه فضاءً واسعاً للتأثر والتفاعل بكتب معينة، وإذا كانت «أيام» طه وحسين و«ثلاثية» محفوظ أول الكتب التي ألهمتني فكرة الكتابة، فإن ثمة كتباً أخرى أذهلتني وأثارت شهيتي للكتابة، أذكر منها دواوين صلاح عبد الصبور ومحمود درويش.
كذلك أسرني كتاب «ماركس.. حياته ونضاله» الذي وضعه فرانز مهرنج بذكاء شديد. وفي المسرح، هزتني بشدة مسرحية هنريك إبسن «البطة البرية»، ومسرحية بيتر فايس «مارا - صاد»، ومسرحية تشيكوف «الخال فانيا»، ومسرحيات عبد الصبور (ليلى والمجنون - مأساة الحلاج - بعد أن يموت الملك). أما في مجال النقد، فكم عشقت كتب الناقد المصري فاروق عبد القادر، كذلك أعجبتني كتابات الناقد السينمائي كمال رمزي، خصوصاً كتابه المتفرد «نجوم السينما العربية».
وفي مجال الكتب التاريخية، لا يمكن أن أنسى اهتمامي الشديد بكتاب الجبرتي الأشهر «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»؛ وقد ألهمني فكرة روايتي «الأزبكية»، هو وكتاب «بونابرت في مصر» للمؤلف الأميركي ج. كريستوفر هيرولد، وترجمة فؤاد أندراوس. أما روايتي «دار العشاق»، فقد انبثقت فكرتها في خيالي وأنا أطالع كتاب «الفرعون الأخير محمد علي» للكاتب الفرنسي جيلبرت سنويه.
عصام حسين عبد الرحمن: الجريمة والعقاب
لقد سبقت القراءة لديّ كفعل قبل الكتابة بعقدين ونصف العقد من الزمان، وأعني بها قراءة الكتب الإنسانية والأدبية خاصة. كانت القراءة في البداية بدافع المتعة، مثلها مثل مشاهدة الأفلام السينمائية والاستماع للأغاني، ثم أضيف دافع المعرفة، فتنوعت الكتب والأفكار. وأذكر بعض الكتب المهمة التي أثرت في تكويني الفكري والوجداني، مثل: «قصة نفس» و«قصة عقل» لـذكي نجيب محمود، و«الأيام» لطه حسين، و«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لديستوفيسكي، و«الأخوات الثلاث» لتشيكوف.
ولأن الكتابة بطبيعتها فعل ملح للتعبير، أو لقول شيء ما يتمتع بخصوصية وحساسية شديدة لكاتبه، فقد ظل هذا الإلحاح يطاردني منذ أواخر التسعينات؛ وقتها اكتشفت رغم القراءة والمعرفة أنني لا أعرف الكثير عن نفسي. ورغم وعي بذاتي، فإنه وعي غير قادر على الوصول لها، فجاءت الكتابة لتحاول تقديم حيوات أخري تكون محصلة تجارب إنسانية متنوعة، قد تنجح أو تفشل، قد تزرع فيك الأمل أو تقذف بك بين فكي وحش اسمه الاكتئاب أو الإحباط، وقد تبهجك بالطبع أو تحزنك.
الكتابة الإبداعية تحتاج فعلاً إلى الإلهام أولاً، بمعني الموهبة، وبالتأكيد تحتاج للقراءة، لكن أيضاً تحتاج إلى عوامل أخرى متعددة؛ والخلاصة أن الإلهام أو الفعل المحفز للكتابة ليس بالضرورة أن يكون قراءة كتاب أو عدة كتب، مهما كان الأثر، لكنه مهم جداً وضروري، رغم أن الإلهام قد يأتي من صورة أو موقف أو حدث أو شخصيات تتماس معها، أو انغماس مشاعرك في حياة تستهويك، أو أفكار تثير عقلك، أو أحداث اجتماعية أو مشكلات نفسية، خصوصاً إذا كنت معنياً بالكتابة السردية القصصية أو الروائية، حيث بؤرة الاهتمام تنصب أكثر على الأفعال والأحداث والأفكار التي تنبعث من الشخوص. ولأن المرأة هي الأكثر غموضاً في بني الإنسان، فقد احتلت مساحة سردية شاسعة في أعمالي الإبداعية، خصوصاً الأخيرة، ومنها «سرير عنكبوت» و«زحف الأرانب» على سبيل المثال. لكن لو تتبعت الشخصيات النسائية، ستجد أنها تكونت من خليط من الصور الواقعية الماضية والحاضرة، عبر تراكم خبرات ذاتية، واستعادة بعض الصور والشخصيات من قراءتي لأعمال يوسف إدريس ومحمد المخزنجي، بالإضافة لشخصيات واقعية أتماس معها، لتصنع المخيلة في النهاية شخصية أخري جديدة، كما يجب أن تكون من وجهة نظري ككاتب، لأصنع بها خصوصيتي. وأظن أنني قدمت هذا العالم الخاص بي في آخر عمل لي (وكأنه هو).
عفاف عبد المعطي: البنية والعلامة
في مراحل الدرس الأولى التي قمت بها في مجال الدراسات النقدية المرتبطة بما بعد الحداثة والآداب المقارنة، وهي تخصصي الدقيق، كان عليّ رصد الأحداث الكبرى التي شهدها القرن العشرون، ومن ثم التغيرات الفكرية لمقولات كادت أن تكون ثابتة مطلقة لم تقبل الشك في الفكر الإنساني؛ ولعل أبرز هذه التغيرات انهيار الفكر الشمولي، بمعنى نقد المسلمات ومناقشتها.
فبدأ اهتمامي بالمفكر الفرنسي «جاك دريدا» الذي وضع كل مسلمات الفلسفة الغربية - منذ عهد أفلاطون - موضعَ سؤالٍ وشك، حيث بيَّن من خلال كتابه «البنية، والعلامة، واللعب في خطاب العلوم الإنسانية» الذي قدَّمه عام 1966، أن كل فكرة افترضت معها وجود مركز للمعنى يحكمها، وأن البشر راغبون في مركزٍ ما يؤسِّس حضورهم، ويضمن لهم وجودهم، وقد تجسَّدت المبادئ المركزية في عدد من الألفاظ المنتجة من طرف الفكر الغربي، مثل: الوجود، والماهية، والحقيقة، والجوهر، والنهاية، والبداية، والإنسان، والوعي. وتواصلاً مع ذلك، كانت الأحداث العالمية المتسارعة التي فرضت مصطلح الحداثة، ثم ما بعد الحداثة، اللذين يشكلان مجموعة من وجهات النظر العلمية، وقد تم استخدامهما في النظرية النقدية للإشارة إلى نقطة انطلاق أعمال الأدب والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم. وكان اهتمامي أيضاً بالفيلسوف الناقد الأدبي فريدريك جيمسون الذي عرّف ما بعد الحداثة بأنها «المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة»، التي هي الممارسات الثقافية المترابطة ترابطاً عضوياً مع العنصر الاقتصادي والتاريخي لما بعد الحداثة أو «الرأسمالية المتأخرة» أو ما بعد الثورة الصناعية أو الرأسمالية الاستهلاكية أو العولمة.
وقد رافق ما بعد الحداثة تطور وسائل الإعلام، وهيمنة الصورة، فأصبحت الصورة البصرية علامة دالة، محركها الأساس الصورة لمزيد من التحصيل المعرفي، ومعرفة الحقيقة. لذلك اهتم الناقد الفرنسي جيل دولوز بالصورة السينمائية، إذ يقسمها إلى الصورة - الإدراك، والصورة - الانفعال، والصورة - الفعل، ويَعتبر العالم خداعاً كخداع السينما للزمان والمكان عن طريق خداع الحواس، وذلك في كتابيه «الصورة - الحركة» و«الصورة - الزمان». وفي سياق اهتمامي بمصطلح ما بعد الحداثة، ظهر لي كتاب «النظرية الأدبية» لديفيد كارتر الذي يرى مصطلح ما بعد الحداثة على أنه موقف متشكك بشكل جوهري من جميع المعارف البشرية، وقد أثر مصطلح ما بعد الحداثة على كثير من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني، من علم الاجتماع إلى القانون والدراسات الثقافية.
أيضاً مصطلح «التناص» من أهم مصطلحات ما بعد الحداثة، وإن كان معظم الدراسات التطبيقية التي استخدمته في المشرق العربي لم تقدم تطبيقاً منهجياً يمثل إضافة للبحث العلمي، رغم العناوين الرنانة لتلك الدراسات أو الكتب التي تمت ترجمتها بشكل غير دقيق أو عشوائي. «التناص» يعني استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية، بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصياً مع النصوص الأخرى، سياقاً وتقليداً وحواراً. ويدل التناص في معانيه القريبة والبعيدة على التعددية والتنوع والمعرفة الخلفية. وقد ارتبط التناص نظرياً مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين من خلال كتابه المهم «المبدأ الحواري».



إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس
TT

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

إعادة اكتشاف جماليات رواية «الحرام» ليوسف إدريس

يولي الباحث والأكاديمي الدكتور عايدي علي جمعة، في كتابه «بناء الرواية: دراسات في الراوي والنوع» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب اهتماماً خاصاً برواية «الحرام» الصادرة عام 1959 ليوسف إدريس؛ حيث يسعى المؤلف إلى إعادة اكتشاف النص الشهير الذي تحول إلى فيلم سينمائي من إنتاج عام 1965، بطولة فاتن حمامة وإخراج هنري بركات. ويشير عايدي إلى أن البنية الكبرى للعمل تظهر من خلال عثور أحد الخفراء على شيء لفت نظره الضعيف، في أثناء عمله ذات صباح تحت شجرة وعلى جانب جسر الترعة التي كان يستحم فيها، وحينما أمعن النظر فيه مضى يصرخ: «الله حي، الله حي»، فقد كان جنيناً حديث الولادة مخنوقاً مفارقاً للحياة.

تبدأ عملية بحث كبيرة لكشف ملابسات الواقعة، خصوصاً من جانب «فكري أفندي» ناظر العزبة، عن صاحبة هذه الجريمة وشكه في عمال التراحيل الغرباء أو «الغرابوة» الذين جاءوا بنسائهم وأقاموا في العزبة الكبيرة من أجل العمل في تنقية محصول القطن مما يصيبه. وبعد عمليات بحث مضنية وشك طال الكثيرات، تبيّن أن إحدى عاملات التراحيل المتزوجات من رجل فقد صحته تماماً بسبب المرض هي من قامت بهذا الفعل؛ لأنها تخاف الفضيحة. والحكاية أن زوجها المقعد أبدى رغبته في أن يأكل ثمرة بطاطا، وعلى الفور أخذت فأسه الصدئة وذهبت إلى الحقل وحاولت أن تبحث عن «جدر بطاطا». وأثناء انهماكها في نبش التربة بالفأس بحثاً عن بغيتها، جاء «محمد بن قمرين» صاحب الحقل وحفر بدلاً منها وأعطاها بغيتها، ولكنها وقعت في حفرة من حفر الحقل، فذهب محمد بن قمرين لمساعدتها على النهوض وأثناء مساعدتها على النهوض، استيقظت فيه الرغبة فاحتضنها ليقعا في المحظور، فقد تذكرت فيه صورة زوجها حين كان بصحته. وأثمرت الخطيئة عن الحمل، وكانت النتيجة أنها فقدت حياتها بسبب ذلك.

يرى الباحث أن حركة السرد العارمة من أجل البحث عن أم الطفل اللقيط المخنوق شكّلت فضاءات سردية كاشفة عن بنية اجتماعية خاصة في بقعة مكانية تقع في شمال الدلتا حيث المعاناة الهائلة للمهمشين من أبناء الشعب المصري، وفضاء بصرياً لافتاً مهدت له بداية الرواية بمشهد الخفير عبد المطلب وحده في الترعة الكبيرة وقد غمر الماء جسده كله، ثم ما لبث أن ظهر الرأس منه ثم خرج عارياً من الماء على شاطئ الترعة حتى ارتدى ملابسه ثم يجد اللقيط. ويتوازى مع صورة الجنين في رحم أمه وهو مغمور بماء الرحم حتى يحمله، ثم سرعان ما تبدأ عملية ستر جسده وبذلك يظهر دور اللاوعي السردي في السرد.

هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية وتعرض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد

ويؤكد الباحث أن لوجود كلمة «الحرام» في العنوان دوراً كبيراً في جعلها مركز ثقل يظهر بوضوح عبر صفحات الرواية وعلى ألسنة بعض شخصياتها حيث يتضح للقارئ أن فعل التحريم لا يقتصر على الإنجاب سفاحاً وارتكاب واقعة الزنا فقط، فهذه هو الحرام على المستوى الشخصي، وإنما هناك حرام آخر على المستوى العام يتمثل في غياب العدالة الاجتماعية، وتعرُّض شريحة من المواطنين للتهميش والقمع والاستعباد. ولم يكن الراوي في هذا العمل شخصية من شخصيات الرواية، بل كان صوتاً مفارقاً وكأنه صوت كوني يعبر عن الأحداث والشخصيات، ولذا لم تجد له اسماً أو وصفاً، وإنما يطالعنا صوته وكأننا نعرفه لأنه يبعدنا عن صوت «الأنا» المتضخمة ليجنح بالقص إلى الموضوعية.

وتعد «عزيزة» الشخصية المحورية في الرواية؛ لأن السرد يتتبعها منذ البداية، وإن كان ظهورها الحقيقي في الرواية قد جاء بعد صفحات طويلة، فقد ظهرت في الصفحة 80 من النص الذي يقع في 151 صفحة. ومع ذلك، فقد جعلتها حركة السرد في بؤرة الحدث نتيجة بحث كل الأطراف عنها منذ اللحظة الأولى. وانحاز السرد لتلك الشخصية بوصفها نموذجاً حياً للمُهمشين الذين يعانون من الفقر والعوز ويتلقّون طوال الوقت أسواط القهر اللاهبة على ظهورهم بلا رحمة.

ويخلص الدكتور جمعة إلى أن السارد العليم استطاع أن يعكس بعض مفاهيم علم النفس الحديث في هذه الرواية؛ من خلال التركيز على مفهوم العلاقة بين السلوك و«المثير» أو «الحافز»، فحركة محمد بن قمرين العفية وهو يضرب بفأسه الأرض باحثاً عن ثمرة البطاطا ظهرت كمثير حرّك الرغبة النائمة داخل عزيزة فتذكرت عرامة جسد زوجها وفحولته القديمة، وتحولت الفأس إلى مثير يستدعي صورة الذكر وهو يضرب الأرض وكأنه يناجى أنثاه. واتخذ السارد العليم من تلك الواقعة البسيطة مدخلاً لإدانة الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي قبل ثورة 1952، عبر كشف خطايا المجتمع كله قبل أن يكشف خطيئة امرأة ريفية بسيطة في تلك الحقبة الزمنية.