رحل الصعاليك... فأين شعر التصعلك؟

تحوَّلوا إلى ما يشبه الأساطير المعاصرة بحركاتهم وملابسهم... وحتَّى بشتائمهم

رحل الصعاليك... فأين شعر التصعلك؟
TT
20

رحل الصعاليك... فأين شعر التصعلك؟

رحل الصعاليك... فأين شعر التصعلك؟

ربما كان العراق من أكثر البلدان التي تطفو على سطحه الظواهر الثقافية، والحديث عن الأوساط الثقافية والشعرية على وجه التحديد، ومن هذه الظواهر ظاهرة الشعراء الصعاليك. فقد أدركتُ في بداية دخولي هذا العالم عدداً من الشعراء الصعاليك الذين يدورون في الشوارع، وينامون في الساحات، ويضعون «ربع» الخمرة في جيوب سترهم المتهالكة. وكانت هذه الظاهرة التي أدركتها، أواسط التسعينات حتى ما بعد 2003 بسنتين أو أكثر بقليل، قد اختفت من الوسط الثقافي اختفاءً شبه تام، ما عدا بعض الأصوات التي سأمر على ذكرها في هذه المقالة.
إنَّ الشعراء الصعاليك ظاهرة ليست حديثة لكي نمتاز بها، إنَّما هي قديمة قدم الشعر الجاهلي، بل تكاد تكون مولودة معه، إذ يحتفظ تاريخنا الشعري بقائمة طويلة من الشعراء الصعاليك الذين أحببنا بعضهم، كـ«عروة بن الورد» الذي يُلقَّبُ بأمير الصعاليك، والذي كان إذا شكى له رجل أو فتى من الفتيان الفقر والعوز، يُعطيه فرساً ورمحاً، ويقول له «إنْ لم تستغنِ بهما، فلا أغناك الله». لهذا ارتبط «عروة بن الورد» في المدوَّنة التاريخية بالفروسية والشجاعة ونصرة الفقراء، وأنَّه كان يوزع جسمه في جسوم كثيرة، كما كان يردد في شعره:

أوزَّعُ جسمي في جسومٍ كثيرة |
وأحسو قراح الماء، والماء باردُ
وهناك كثير من الشعراء الصعاليك الذين استطاعوا أنْ يقاوموا ذاكرة النسيان، رغم مرور أكثر من ألف وخمسمائة سنة عليهم، حيث ينقسم الشعراء الصعاليك في الجاهلية إلى اتجاهات متعددة: فمنهم مَنْ نبذتهم القبيلة، أو نبذهم آباؤهم، كأنْ يكونوا أبناء حبشيات سود، مثل السليك بن سلكة أو تأبط شراً أو الشنفرى، ومجموعة أخرى يصفونهم بالخلعاء الشذَّاذ، مثل أبي الطحَّان القيني وقيس بن الحدادية وآخرين، وفي الأعم الأغلب هناك موقف ورؤية للشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي؛ موقفٌ من القبيلة، ومن توزيع الثروة والفقر، وكيفية الحصول على القوت البسيط. وقد عرفنا أولئك الصعاليك من خلال ما وصل إلينا من شعرهم الذي يمثَّل الخط الاحتجاجي للطبقات الاجتماعية، والصوت المختلف عن سياق ما يكتبه الشعراء. فلم تكن المرأة حاضرة في شعرهم، ولا الخمرة، ولا الوصف المبالغ فيه، ولا تهمَّهم كثيراً الأطلال التي تغنَّى بها الشعراء، لأنهم في الأصل بلا طلل، فهم دائمو الترحال، وكثيرو الإغارات، وفي كل يوم لهم أوطان جديدة، وحلفاء جدد، وكل يوم يأتيهم مطرود من قبيلته ليتحالف معهم، بوصفه صعلوكاً وفارساً جديداً. ولأول مرة نجد في قصائدهم تعاملاً مختلفاً مع الحيوان، حيث يأنسون بالقرب منه، بوصفه أميناً لا ينقل سرَّهم، ولا ينافق عليهم.
إنَّ كلَّ هذه التفاصيل موجودة في أشعارهم الاحتجاجية التي تشكل موقفاً إزاء العالم الذي كانوا يعيشون فيه. أمَّا الشعراء العراقيون المعاصرون الذين شكَّل حضورُهم «الجسدي» في الشوارع والفنادق الرخيصة ظاهرة للعيان، حيث أصبحوا مادة للتفوَّهات النقدية، وللمدونة الشفاهية عموماً، فسلوك هؤلاء الشعراء سلوكٌ مغايرٌ لواقع الشعراء الذين لديهم منازلُ نظيفة، وعوائل وأولاد وبيوت، كما أنهم يلبسون ملابس نظيفة، ويسافرون، ويتأنقون، و...و...و...و. وبإزاء هؤلاء الشعراء، لدينا الصعاليك الذين شكَّل أغلبهم حضوراً طاغياً في الوسط الثقافي، حتى تحوَّلوا إلى ما يشبه الأساطير المعاصرة بحركاتهم وملابسهم، وحتَّى بشتائمهم.
الشاعر الأهم الذي شكل ظاهرة كبيرة، شعراً وصعلكة، هو «عبد الأمير الحصيري»، حيث التكوين الشعري الهائل الذي امتاز به الحصيري، مقابل الصعلكة الغريبة التي يجوب فيها الساحات، وينام في الشوارع، ويزهد بجميع الوظائف التي تتوسل الحكومة في ذلك الوقت لتعيينه، فيباشر بالعمل، وبعد أسبوع أو أكثر بقليل يهجر كلَّ شيء، ويعود إلى الشارع، وإلى الخمرة المغشوشة، وأعتقد أنَّ ظاهرة الصعلكة الحديثة كانت لها بوادر - ولو بسيطة - لدى «حسين مردان»، حيث الروح المتمردة والوجودية التي كان يدَّعيها، ويتندر بها متفاخراً بأنَّه صافح «سارتر»، ومن ثم انتقلت إلى «الحصيري»، إلا أن الأخير جسدها بكلِّ معاني الصعلكة الجسدية، فهو لم يكن صعلوكاً على مستوى السلوك فقط، بل كان شاعراً مهماً ذا صوتٍ وأسلوبٍ بلاغي عالي الجودة في الكتابة، بالشكل التقليدي، فنحن لا نستطيع أنْ نحكم بأنَّ «الحصيري» صعلوك لو قرأنا شعره فقط، دون أنْ نسمع شيئاً عن سلوكه، لأنَّ شعره لا يُنبئ بأنَّه صعلوكٌ إطلاقاً، ما عدا بعض النصوص التي لا تشكل ظاهرة في شعره، ومن أشهرها قصيدته «أنا الشريد» التي تعد من عيون شعره، وهي من ضمن ديوانه «أناشيد الشريد»، المنشور عام 1960:

أجائع؟ أي شيء ثم يا قلق؟
أَمنْ حطامي هذا يمطر العبق؟
إذا تصبيت روحي دونما تعب
يطغى تلظي هواك القائم الخفق؟
إنْ كنت تحلم في قلبي، فإن دمي
من جوعه بات فيه الجوع يحترق!
ألم يشردك تشريد يمزقني
عيناي أظفاره العمياء تأتلق
قلبي الجحيم… أثيمات الشرور به
معذبات!! فما أذنبت يا قلق؟
أخشى عليك دمي الواري، وإن يك في
إحراقه حلمك الريان ينسحق
ما زلت طفلاً غريراً، كيف تقربني
أنا التشرد والحرمان والأرق؟
أنا الشريد!! لماذا الناس تذعر من
وجهي وتهرب من قدامي الطرق؟
إن هذه القصيدة، وهذا الديوان على وجه التحديد، المؤشر الأكثر وضوحاً لشعرية الصعلكة لدى الحصيري، فلولا هذا الديوان، ولولا مجايلوه الذين نقلوا أحاديثه وسلوكه، لما علمنا أنَّه متصعلكٌ إلى هذا الحد، وكذلك «جان دمَّو» الذي لم نخرج منه إلَّا بمجموعة بسيطة جداً، وهي «أسمال» لا توحي بأنَّ كاتبها كان متمرداً هجَّاء شتَّاماً، بل هي مجموعة بسيطة أقرب إلى الشعر المترجم ذي الصوت الباهت، لذلك فأغلب صعاليك العراق كانوا صعاليك بالسلوك، وليسوا بالشعر، ولا أظنُّ أنَّ صعلكة الجسد ستشكل ظاهرة فنية، بل بالعكس، بمجرد موت صاحبها سيُطوى كلُّ شيءٍ، وتبقى هذه الأحاديث الجانبية، بأنَّ فلاناً كان ينام في حديقة الأمة، وفلاناً كان يشرب الخمرة في الشارع، وفلاناً كان يأخذ ربع الدينار من أصدقائه ليشتري به خمراً، وستذهب هذه الأحاديث أدراج الحياة، وستبقى النصوص التي على ضوئها نحكم بأنَّ هذا صعلوك وذاك لا، وما إذا كانت الصعلكة موقفاً فكرياً اتخذه هؤلاء الشعراء أم أنَّها طريقة حياة سهلة تعيش على الاتكاء على الآخرين أم هي موقف من الوجود أو السلطة الحاكمة؟ حتى يقال إنَّ «جان دمَّو» كان دائماً ما يلعب لعبة «الطاولي» مع بعض الأدباء البعثيين ليغلبهم، وليعوض الخسارات، رغم أنَّه سيء اللعب، ولكنه كان يفوز عليهم، وهو جزء من التعويض النفسي، كما يذكر ذلك الشاعر «محمد مظلوم». لهذا كان يتناسل الشعراء الصعاليك، وبالأخص في أواسط التسعينات، حيث الفقر والجوع أخذ مأخذه من حياة العراقيين، وحياة المثقفين على وجه التحديد، فنرى لهم حضوراً في كل مهرجان أو أمسية، ولكنَّهم عُرفوا بالصعاليك، وكان سيدهم في ذلك الوقت «كزار حنتوش»، يرافقه علي حسين عبيد، وكذلك «عقيل علي» الشاعر المعروف الودود جداً. كان صديق الكراجات والساحات العامة، وقد أغراه التشرد فترك مدينته الناصرية، وأدمن ساحة الميدان وشارع الرشيد والفنادق الرخيصة، وعمل فرَّاناً حتَّى موته دون علم أصدقائه، ولكن شعر عقيل علي لم يحتوِ على بذرة صعلكة كالتي نجدها لدى الصعاليك الجاهليين، فها هو يقول:

ارتفعوا
ارتفعوا قليلاً
فهذه ليست الشمس كلها
وأيضاً الشاعر «صباح العزاوي» الذي شكل ظاهرة نهاية التسعينات، وكذلك «عبد اللطيف الراشد» و«هادي السيد». وبموت هادي السيد، وعقيل علي، والراشد، وكزار حنتوش، تكاد تختفي ظاهرة الشعراء الصعاليك، ما عدا الشاعر «حسين السلطاني» الذي توفي عام 2015، حيث بقي بصعلكته حتى وفاته.
رحل الشعراء الصعاليك جميعاً، ولم يتركوا إرثاً شعرياً متمرداً مثل أرواحهم أو سلوكياتهم. الآن، لم أر أي شاعرٍ يستطيع أنْ ينام في الساحات، أو لا يحمل نقَّالا، أو يلبس ملابس خشنة وقذرة، بل بالعكس، فالآن الشعراء يحاولون أنْ يكونوا نجوماً حقيقيين. أمَّا الشعر الذي يكتب، والذي يبقى طويلاً، هو مدى قدرة الشاعر على أنْ يكون صعلوكاً في اللغة، وصعلوكاً في تشكيل الصورة، وصعلوكاً على العادات والتقاليد، ولكن داخل النص، وهذا ما أجده عند أكثر الشعراء أناقة وبرستيجاً، فإنَّ النص هو الذي يبقى، وهو الهوية التي لا تتغير، أمَّا صعلكة السلوك فتذهب بعد ذهاب أصحابها سريعاً.



أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟
TT
20

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

أي تأثير للحب العذري في شعر «التروبادور»؟

يتفق معظم الباحثين الغربيين والعرب على تأثر شعراء التروبادور في العصور الأوروبية الوسيطة بشعر الحب العربي، سواء ما اتصل منه بالتجربة العذرية زمن الأمويين، أو الذي نظمه في ظروف مغايرة متيَّمو الأندلس وشعراؤها العشاق. وفيما ذهب محمود عباس العقاد إلى أن الشعراء الجوالين قد تعلموا الموسيقى على يد أساتذة أندلسيين من أحفاد زرياب، رأى المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا «أن الموشحات والأزجال التي انتشرت في الأندلس في القرن التاسع الميلادي هي المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر القوالب والطرُز الشعرية الأوروبية في العصر الوسيط». أما المستشرق الفرنسي غوستاف لوبون فيشير في كتابه «حضارة العرب» إلى أن مكتباً للمترجمين قد أنشئ في طليطلة منذ مطالع القرن الثاني عشر لنقل أهم كتب العرب إلى اللاتينية.

ويرى موريس فالنسي، من جهته، أن إعلاء شعراء التروبادور لمنزلة المرأة واتخاذها معبودة وملهمة، إنما يعود إلى تأثرهم البالغ بالشعر العربي العذري الذي وصلهم عن طريق الأندلس، خصوصاً وأن القوانين المدنية الأوروبية كانت تضع النساء في منزلة أدنى من الرجل وجعلهن مرؤوسات على الدوام. إضافة إلى أن آباء الكنيسة المسيطرة على المجتمع الأوروبي آنذاك كانوا يعتبرون المرأة «الوباء الأعظم وباب جهنم وحارس النار المتقدم وسهم إبليس».

والواقع أن تلازم العشق العفيف مع الفروسية لم يكن أمراً مقتصراً على أوروبيي القرون الوسطى وحدهم، بل كان العرب قد ربطوا العشق بالفروسية قبل ذلك بقرون عدة، حيث كانت تتعايش فوق سطح واحد ثنائيات الحب والحرب، الانتقام والتسامح، والقسوة والرقة. ولعل في مواصفات عنترة بن شداد ما يجعله صورة نموذجية عن العاشق الفارس، الذي ترتعد لقوته فرائص الأعداء، فيما كان حبه لعبلة يُكسبه سلوكه الليّن وطباعه الرقيقة. وقبل أن يكتب الكاهن الفرنسي أندرياس دي جابلن، الذي وضع مؤلفاً مهماً عن العشق الفروسي وقواعده، أن بمستطاع الحب أن «يحوّل الرجل الفظ وذا البأس الشديد إلى شخص دمث ولين العريكة»، كان أبو فراس الحمداني قد اختصر مفارقة العشق الفروسي بالقول:

نحن قومٌ تذيبنا الأعين النجلُ

على أننا نذيبُ الحديدا

لعل النصوص التي نظمها شعراء الحب من كلتا الثقافتين العربية والغربية هي الدليل الأمثل على ما بينهما من تشابهات، بخاصة في ما يتعلق بإبقاء المرأة المعشوقة في حالة ترنح دائم بين الحضور والغياب، إذكاءً لنيران الشغف والشوق، فنحن إذ نقرأ لأحد شعراء التروبادور قوله:

يا رب ما السر في أن شوقي إليها

يزداد كلما ابتعدتْ عني

يتبادر إلى أذهاننا قول جميل بن معمر قاصداً بثينة:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتْها

ويحيا إذا فارقتْها فيعودُ

أما على مستوى الرغبة والاشتهاء الجسدي، فإن ثمة وجوهاً مماثلة للشبه بين العشقين العربي والغربي الوسيط. ففي كلا المجتمعين الحجازي البدوي والبروفنسي التروبادوري، تقتصر الملامسات العذرية على النصف العلوي من الجسد متجنبة الفعل الجنسي على نحو قاطع. يكتب أندرياس دي جابلن، رجل الدين الفرنسي الذي كان أول من وضع كتاباً في أصول العشق الفروسي، أن حب التروبادور «الذي يقوم على التأمل الفكري والميل القلبي، يسمح بالقبلة والعناق ويستغني عما هو أبعد، إذ لا يُسمح به لمن يحب حباً طاهراً عفيفاً».

وإذ يعتبر الشاعر العربي العذري أن جنونه واختلاط عقله ليس تهمة توجب الاعتذار عنها، بل سبيله الأمثل إلى التلذذ بهوى المعشوق، كما في القول المنسوب إلى قيس بن الملوح، وينسبه بعضهم إلى سواه:

قالوا جننتَ بمن تهوى فقلتُ لهم

ما لذةُ العيش إلا للمجانينِ

يردّ الشاعر الفارس إيمري دي بلونو على منتقدي إسرافه في العشق المرَضي بأن هذا الإسراف بالذات، وصولاً إلى الجنون، هو ما يوفر له لذته القصوى، فيهتف معلناً:

ستقتلني هذه الشهوة المنشودة سواء بقيتُ أم رحلت

لأن اللذة التي تستطيع شفائي لا ترقُّ لحالي

واللذة هذه وإن يكن فيها الجنون

هي أفضل بالنسبة لي من كل لذة

وثمة في تقاليد الشعراء الفرسان ما يتصل بضرورة إخفاء أمر المرأة التي يحبونها، وعدم الإفصاح عما إذا كانت مجرد حالة مستلهمة من خيال الشاعر، أو هي امرأة من لحم ودم. وهم باتفاقهم على عدم البوح بالاسم الحقيقي للمرأة المعشوقة، والإشارة إليها باسم «السيدة»، يبدون كما لو كانوا ينتمون إلى ديانة معينة أو إيمان سري، أو أنهم يفعلون ذلك تجنباً لمكائد الوشاة والحساد. ولعل قول الشاعر الجوال جيرودو بورنهيل «كفّوا أيها الوشاة الماكرون الضالعون في الخبث، عن السؤال عمن تكون حبيبتي المعبودة، وعما إذا كان موطنها بعيداً أو قريباً، لأنني سأكتمه عنكم كل الكتمان، وأفضّل الموت على البوح بكلمة واحدة»، يذكّرنا بإصرار العباس بن الأحنف على كتمان الاسم الحقيقي لحبيبته «فوز».

أما اشتهاء العشاق الجوالين للموت بوصفه المآل الأخير للحب العفيف والمتعذر التحقق، فقد وجدنا نظائره لدى شعراء بني عذرة الذين لم يكتفوا بجعل الموت ذروة هيامهم بالمرأة المعشوقة، بل تجاوزوا بالحب الحدود الفاصلة بين سطح الأرض وجوفها المظلم. وكما أن بعض معشوقات العذريين المتزوجات قد قضين نحبهن حداداً وكمداً على موت عشاقهن، فقد تحدث مؤرخو القرون الوسطى الأوروبيون عن أن أحد الأمراء الغيورين قتل عشيق امرأته وقدم لها قلبه المطهو في طبق الطعام. وحين أعلم زوجته بالأمر أجابته قائلة «مولاي لقد أطعمتني طعاماً لذيذاً إلى درجة أنني لن أتناول بعده طعاماً آخر»، ثم ألقت بنفسها من نافذة الحصن الذي كانت تقيم مع زوجها فيه.

وإذ عمد العذريون العرب إلى نقل فكرة الجهاد من خانتها الدينية إلى خانتها «النسائية»، كما بدا في قول جميل بن معمر «يقولون جاهدْ يا جميل بغزوةٍ وأيّ جهاد غيرهنّ أريدْ»، فقد تكرر الأمر نفسه مع بعض عشاق أوروبا العذريين، حيث نقل الرواة عن الشاعر التروبادوري جوفري رودال أنه قرر إنهاء مشاركته في الحملة الصليبية «الجهادية» بعد أن وقع عن بعد في حب أميرة طرابلسية تناقل الحجاج أخبار جمالها الفاتن وسموها الأخلاقي، ليقرر حمل صليبه على جلجلة عشقه الأفلاطوني، إلى أن قضى نحبه بين يدي أميرته المعشوقة.

لعل النصوص التي نظمها شعراء الحب من كلتا الثقافتين العربية والغربية هي الدليل الأمثل على ما بينهما من تشابهات

أما في الجهة المقابلة من المواقف، فيبدو الفيلسوف الألماني شليغل الطرف الأكثر دحضاً لنظرية التأثر التروبادوري بالحب العربي، حيث يقول «إن شعراً يقوم على تقديس المرأة وعلى الحرية العظيمة في حياتها الاجتماعية، لا يمكن أن يستوحي شعر شعب آخر نساؤه من الجواري وحبيسات المنازل». وبصرف النظر عن صوابية رأي شليغل بشأن مسألة التأثر، فإن اتهامه العرب بتحويل النساء إلى مجرد إماء وخادمات، يكاد يلامس بنبرته التعميمية، نبرة الاستعلاء الغربي العنصري، فضلاً عن أنه يتناسى بأن النسوة العربيات لم يكنّ يتمتعن بقدر وافر من الحرية فحسب، بل إن الكثيرات منهن قد حولن منازلهن إلى منتديات ثقافية مفتوحة، أو بادلن غزل الرجل بغزل مماثل، كما فعلت ميسون بنت جندل الكلبية وليلى الأخيلية وعشرقة المحاربية وولادة بنت المستكفي وغيرهن.

وينفي الباحث المصري عبد الهادي زاهر أي تأثر للتروبادور بالشعر الأندلسي، سواء تعلق الأمر بالشكل التعبيري أم بتجربة الحب نفسها. فهو يعتبر أن التروبادور قد استعاروا قالب الموشحة والزجل من التراث اللاتيني الذي شاع استخدامه قبل ظهور الشعر العربي كله. وفي معرض نفيه لاقتفاء الغربيين التجربة العربية العشقية، يتخذ المؤلف من حرص التروبادور على الفرادة والابتكار، ومن عدائهم للعرب ومشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية حجتين دالتين على صوابية رأيه.

ومع ذلك فإن هاتين الحجتين، على وجاهتهما، لا يدحضان بالقطع مقولة التأثر، لأن استلهام الجوالين لتجربة العذريين العرب، عبر الاحتكاك بالأندلس، لا يجعل منهم نسخة مكررة عن هذه التجربة، ولا يسلخهم عن تربتهم المحلية، أو ينفي عنهم صفتي الأصالة والابتكار. أما كرههم للعرب بوصفهم الغزاة الذين احتلت طلائع جيوشهم أجزاء من إسبانيا وفرنسا، فلا يوجب بالضرورة عدم افتتانهم بما كان يصلهم عبر الأندلس من منجزات العرب الحضارية والثقافية، الأمر الذي أكد عليه ابن خلدون في «مقدمته» الشهيرة، حين اعتبر أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، لأن النفس تعتقد الكمال في من غلبها.