هل «الأمير الصغير» معارضة لـ«الموت في البندقية»؟

روايتان فرنسية وألمانية من قمم الأدب العالمي

توماس مان
توماس مان
TT

هل «الأمير الصغير» معارضة لـ«الموت في البندقية»؟

توماس مان
توماس مان

ظلت «الموت في البندقية» لتوماس مان و«الأمير الصغير» لسانت إكزوبري تتبادلان الموقع في حقيبة سفري حتى جمعهما الـ«آيباد» ضمن مكتبتي الإلكترونية التي حلت محل الكتب الورقية في السفر.
في واحدة من قراءاتي المتكررة لـ«الموت في البندقية» لمع تحت عيني وصف آشنباخ للصبي تادزيو المدلل من أسرته وأقرانه بـ«الأمير الصغير»، وعلي الفور أحالني الوصف إلى رواية «الأمير الصغير».
هل ثمة علاقة بين واحدة من أعظم أعمال الرواية الألمانية، ورواية تبدو معجزة في الأدب العالمي كله؟
كتب توماس مان «الموت في البندقية» 1910 في مرحلة من تفكيره كان متحمساً فيها للنزعة الجرمانية ضد الحضارة اللاتينية، معادياً للديمقراطية ومدعماً للنزعة الشوفينية العسكرية، متسلحاً باعتزازه بنفسه وبمعارفه ومواقفه من الحياة. ورغم انقلابه الفكري بعد ذلك، لم يتخلص تماماً من حس التفوق الألماني، ولم يتخلص من سوداوية شوبنهاور ونيتشه، كما لم يستطع التخلص من برجوازية عائلته التي تمرَّد عليها عندما اختار الكتابة. كان واعياً منذ البداية باختلال توازن البرجوازية وجشعها الذي يصنع انحطاطها وانهيارها، دون أن يتمكن من التخلص من انتمائه لتلك الطبقة بالكامل في وقت من الأوقات، ولا من نزعة التفوق إذ يردّ على خبر فوزه بنوبل: «كنتُ أعرف»!
هذا التكوين ضروري، لفهم استراتيجيات السرد؛ البطل سافر إلى فينيسيا عامداً لتجديد النشاط والحفاظ على تفوقه الأدبي الذي أُضيفت بفضله علامة النبالة «آل» في اسمه.
نزعة التفوق والإحساس بالمسؤولية اللذان كانا منطلق آشبناخ إلى الرحلة، حكما تصرفه كذلك خلال إقامته؛ فهو يتأمل تادزيو كموضوع صامت للجمال دون أن يحاول التقرب منه أو من أي أحد آخر. لم ير في الغلام ذاتاً مساوية، بل رأى موضوعاً للتأمل. وقد تضافرت نظرته السوداوية ونزعة العدم مع الجمال الحسي للغلام في تحقيق هزيمة بكهل وجعله يستسلم للموت.
وفي 1942، يكتب أنطوان دو سانت إكزوبري «الأمير الصغير» وهي رحلة أخرى لمدة ثمانية أيام بين الكويكبات القريبة من الأرض، يقوم بها طيار تعطلت طائرته وهبط في الصحراء، مع غلام بالغ العذوبة هبط هو الآخر على الأرض من كويكب صغير لا يسع إلا بيته.
كتب إكزوبري روايته في أميركا، في الوقت الذي كان فيه توماس مان يعيش في الملجأ ذاته، بعد أن أسقط النازيون عنه جنسيته الألمانية عام 1936، جراء انقلابه ضد النازية.
إكزوبري الفرنسي المولود في سنة رحيل نيتشه، ابن طبقة أرستقراطية مثل توماس مان، لكن خياراته في الحياة والحب كانت خيارات إنسان طليق. ليست لديه الانعطافات الفكرية الحادة ولا ثقل الروح الألمانية المسكونة بالتفوق وحس المسؤولية، ولم يقده التفكير بالوجود والعدم، إلى تشاؤمية نيتشه التي صبغت توماس مان، بل بحث عن الله مثل نيتشه، وانتهى إلى أن الله موجود في الحب وفي العمل النافع، حتى أصبح يُشار إليه بـ«نيتشه الذي وجد الله».
رحلة إكزوبري بين الكويكبات خيالية تصدر عن روح إنسانية رحبة، فلا يمكن أن نحمل شيئاً منها على الروح الوطنية الفرنسية تحديداً. وهي تجري مصادفة، وتبدأ في لحظة من لحظات الحياة العارية. يهبط الراوي اضطرارياً في الصحراء، ويوشك مخزونه من الماء على النفاد دون أن يتمكن من إصلاح عطل طائرته، حتى يظهر «الأمير الصغير» لينطلقا معاً في رحلة بين الكويكبات. رحلة خفيفة للهروب من الموت لا تأبه لوسيلة الانتقال، كما نرى في رحلات ألف ليلة وليلة؛ فنحن نرى المرتحلَين، على هذا الكويكب أو ذاك، دون أن نعلم كيف ينتقلان، لم نعلم كذلك كيف هبط «الأمير الصغير» إلى الأرض. الواقعي الوحيد في الرواية هو هبوط طائرة صغيرة، بلا ركاب غير قائدها، وهذا هو نوع الطائرة التي قادها أنطوان دو سانت إكزوبري فعلياً بوصفه طياراً في هيئة البريد، ثم طياراً حربياً متطوعاً.
يؤثر عن الطيار إكزوبري أن دعاءه إلى الله كان: «اللهمّ إني لا أسألك معجزة، بل عزيمة كل يوم، ألهمني فنّ الخطوات الصغيرة». وقد كان مستجاب الدعاء على الأرجح، فقد عرف فن الخطوات الصغيرة في عمله الكبير «القلعة» وفي «الأمير الصغير»، وتوصل إلى أن الألم جزء من الوجود.
لا خلود على الأرض، ورغم حتمية الموت، بوسعنا أن نتذوق طعم الخلود في العمل، في عزيمة كل يوم، في الرضا الذي يجلبه العمل من أجل الآخرين.
ليست «الأمير الصغير» سوى هذه الفلسفة التي توجه بها إلى الأطفال، فأصبحت رواية لجميع الأعمار.
يُضمر سانت إكزوبري احتراماً لأصغر الأشياء، حتى إن العالم سيختل إذا ما أكل خروف زهرة في مكان مجهول من الكوكب. والزهرة تعرف أن أشواكها لا تحميها من الخروف، لكنها لا تكف عن إنتاج الأشواك.
ليس هناك من الروائيين من سبق أكزوبري بهذا الحس البيئي النابع من حب الإنسانية؛ فالأمير الصغير لا يفعل شيئاً بعد أن يغسل وجهه من النوم سوى تنظيف فوهة بركان كوكبه. وهو مصدر إلهام للراوي الراشد. حيث تقوم العلاقة بينهما على الحوار والتوافق الإنساني والاكتشاف المشترك، بل إن الطفل هو الذي اقتحم الطيار المشغول بإصلاح المحرك منذ البداية لكي يطلب منه أن يرسم له خروفاً. وبعد أن رسم له الطيار أكثر من خروف لم يعجبه، ثم رسم له صندوقاً وقال له إن الخروف الذي تريد بداخل الصندوق، ولدهشته فقد انشرح الصبي. من هذا التوافق على تخيل وجود خروف داخل الصندوق بدأت صداقتهما ورحلة التعلم عبر الكواكب الصغيرة؛ فيريان مشعل مصابيح يعمل بدأب رغم أن الليل في كوكبه لا يدوم إلا لحظة، ويقابلان المغرور، والسكير، والمولع بالحسابات، كما يقابلان ملكاً عاقلاً، يعرف أن سر طاعته يكمن في أن أوامره معقولة.
في رواية توماس مان، لا نجد هذا السعي إلى المعرفة، فآشنباخ يتأمل الزهرة والتمثال وتادزيو والبحر والموت في مونولوغ منفرد يقوم به البطل الروائي المكتفي بما لديه، المدرك لسر الجمال، والموت، لكن ليس في الإدراك أي نبل!
يعرف جوستاف آشنباخ أن الموت آتٍ، ويواجهه باستسلام وخمود همة، ويموت في نهاية روائية معتمة بلا نوافذ. في رواية «الأمير الصغير» يتبقى الراوي الكهل، إذ يختفي الأمير الصغير، وقد جعل إكزوبري اختفاءه ما بين انطلاق إلى الأبدية من أسر ثقل الجسد وبين عودة إلى كوكبه لكي يعتني بزهرة ساذجة، في غاية الضعف، ليس لها إلا أربع شوكات تافهة تحتمي بها.
لا تقوى يد أكزوبري الرقيقة على كتابة كلمة الموت، مفضلاً النهاية المفتوحة، وفي عبارات من أرقّ ما يمكن كتابته في باب الشوق والرثاء، يوجه نظر قرائه إلى النجوم لعلهم يرون الأمير عائداً ذات يوم، ويوصيهم بأن يكتبوا إليه إن رأوه!
بينما رسم توماس مان بكلمات مشحونة بشهوانية يائسة جمالاً مهدِّداً لصبي، لم ير إكزوبري في جمال صبيه أي تهديد، رسمه بالريشة، وترك للكلمات التعبير عن عاطفته وعاطفة الصبي تجاه العالم. مناصبة الجمال العداء عند توماس مان، مقابل التوحد مع الجمال عند إكزوبري.
ورغم كل هذه الاختلافات، ورغم كل الاختلافات نحن أمام روايتين في كل منهما كهل وصبي جميل، وأفترض أن «الموت في فينسيا» كانت في ذهن أنطوان دو سانت إكزوبري، عندما كتب روايته، وأنه وضع وصف توماس مان للغلام عنواناً لروايته، كمفتاح ينبهنا إلى أن «الأمير الصغير» معارضة أدبية لـ«الموت في البندقية». هذا افتراض افترضته ذات ليلة عندما كنتُ سائحاً معزولاً، ولا أستند فيه إلى نقدٍ سابق.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.