سانتوس يقدم دروساً عن كيفية التفاوض لتحقيق السلام

المكان لندن، والعام 1975، والساعة 9 مساء. كان خوان مانويل سانتوس، الرئيس السابق لكولومبيا (2010 - 2018) والفائز بجائزة نوبل للسلام، الذي كان يعمل آنذاك في لندن، يسير بالقرب من ساحة «بيكاديللي» عندما انفجرت قنبلة... كان الجيش الجمهوري الآيرلندي مسؤولاً عن هذا الهجوم الإرهابي، وكانت تلك الجماعة مجرد واحدة بين كثير من الجماعات هناك خلال فترة العنف الرهيبة «فترة المتاعب».
وعلى الرغم من تعرضه للإصابة خلال التفجير، فإن ما حدث له كان مصدر إلهام بعد ذلك بنحو 35 عاماً من عملية السلام، التي أدت إلى اتفاق بلفاست عام 1998، الذي أنهى النزاع الذي رآه في شوارع لندن.
ويُنظر إلى اتفاق السلام هذا باعتباره أحد أنجح الأمثلة لإنهاء الصراع في أوروبا. وكانت الدروس المستفادة منه أساسية لعملية السلام في كولومبيا. بعض الشخصيات الرئيسية في المحادثات التي أدت إلى اتفاق بلفاست كانوا في الواقع مستشارين لسانتوس. لكن عملية السلام الكولومبية، استفادت أيضاً من دروس أخرى من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المفاوضات التي أدت إلى نهاية الفصل العنصري عام 1993 في جنوب أفريقيا.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذه الأمثلة، أدرك سانتوس أنه لا توجد صيغة سرية للتفاوض والوصول إلى اتفاق. ففي مذكراته التي حملت عنوان «المعركة من أجل السلام»، يكشف خوان مانويل سانتوس عن مدى أهمية الدعم المقدم من كوبا والولايات المتحدة وفنزويلا في هذه العملية.
بدأت محادثات السلام الكولومبية قبل عودة العلاقات الثنائية الأميركية الكوبية بين باراك أوباما وراؤول كاسترو. ووفق سانتوس، فقد أعجبت إدارة أوباما بالمساعدة التي قدّمتها كوبا لكولومبيا للتوصل إلى اتفاق سلام بين الحكومة الكولومبية ومقاتلي «فارك». و«فارك»، وتعني القوات المسلحة الثورية الكولومبية، هي حركة ثورية يسارية قاتلت مختلف الحكومات الكولومبية منذ أكثر من 50 عاماً.
كان الحصول على دعم الولايات المتحدة أمراً أساسياً، لأن غالبية قادة «فارك»، من منظور الولايات المتحدة، ارتكبوا جرائم فيما يخص تهريب المخدرات. لذا فإن دعم أوباما كان مفيداً للغاية لكولومبيا، لأنه حدّ من الخوف من تبادل المجرمين مع الولايات المتحدة لدى قادة «فارك».
يقوم سانتوس في كتابه بدور المرشد ذي الخبرة الكبيرة في تاريخ كولومبيا. فهو يوضح الأسباب التي أدت إلى ميلاد «فارك»، فضلاً عن مجموعات حرب العصابات اليسارية الأخرى، ثم يعرض لنا أسرار المحادثات الأولى بين مندوبيه ومقاتلي حرب العصابات. أخيراً، يأخذ الكاتب القارئ إلى الأماكن التي اتخذت فيها القرارات، في ظل ظروف بالغة السرية، خاصة في كوبا. كان سانتوس في كولومبيا، لكنه جرى إبلاغه بكل إجراء اتخذ في هافانا.
هذا الكتاب كُتب بأمانة شديدة، وفيه يعترف سانتوس بإحباطه ومخاوفه وإصراره على محاولته جعل معاهدة السلام حقيقة، على الرغم من العقبات الكثيرة التي اعترضت طريقه مثل معارضة فئات من المجتمع الكولومبي والزعماء السياسيين.
بعد عامين من توقيع معاهدة السلام، باتت كولومبيا بلداً جديداً. فقد كانت هذه الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية معروفة بالعنف، وبأنها موطن المآسي الرهيبة التي خلّفت أكثر من 8 ملايين ضحية، كثير منهم من الأطفال والنساء. كم كان هذا الصراع مميتاً وطويلاً.
وكان جميع رؤساء كولومبيا خلال الثلاثين عاماً الماضية، قد أجروا مفاوضات مع تنظيم «فارك». وللأسف، لم ينجحوا في مساعيهم، إلى أن تولى خوان مانويل سانتوس السلطة. وجرى تكريم سانتوس بمنحه جائزة نوبل للسلام، لجهوده لإنهاء الصراع، وكان ذلك عام 2016. وبعد أيام قليلة من رفض الكولومبيين اتفاقية السلام في استفتاء وطني.
وكان نجاح 6 سنوات من المفاوضات في كوبا يعود إلى عدة عوامل، أهمها أن جماعة «فارك» ضعفت عسكرياً على مدى السنوات السابقة للمفاوضات. كانت لحظات فظيعة ومحبطة للغاية للرئيس شخصياً، وكانت هناك أوقات عصيبة كثيرة خلال مراحل التفاوض، لكنّ أصعبها كان الفشل في الحصول على دعم شعبي للاتفاق على الاستفتاء.
لكن بعد محادثات صريحة مع زعماء المعارضة، جرى تم تعديل الاتفاقية وتوقيعها بين خوان مانويل سانتوس، ورودريغو لندنو، المعروف باسم تيموشينكو، زعيم جماعة «فارك».
يمكن اعتبار هذا الكتاب دليلاً للتفاوض، يكون فيه الضحايا هم بطل الرواية الرئيسي. ففيه يقدم سانتوس 6 دروس تتيح التفاوض بنجاح على عملية السلام، منها أنه يجب عليك محاولة تحويل الأعداء إلى حلفاء، وأن عليك أحياناً التفاوض في منتصف الصراع. إنها بلا شك واحدة من أكثر أفكار سانتوس إثارة للاهتمام.
والنقطة المهمة، حسب نصيحة سانتوس، هي سرية المراحل الأولى من المفاوضات بين الطرفين. وهذا ما حدث أثناء مفاوضاته مع «فارك»، إذ إنها جرت بعيداً عن الأضواء والصحافة وبمنأى عن معارضي السلام وفي جو من الهدوء والحيادية وفّرته كوبا، فتهيأت الأجواء لتحقيق تقدم وسط تشاؤم عام.
بعد التوقيع على معاهدة السلام، كان من الواضح أن 50 عاماً من الصراع لن تنتهي في غضون شهور. كانت «فارك» منتشرة في جميع أنحاء كولومبيا، ولم يكن البعض متحمساً بشأن احتمال تسليم أسلحتهم والتحول إلى مدنيين. وأنشأ كثير من الأعضاء السابقين في «فارك» حزباً سياسياً، له تمثيل في البرلمان كطريقة دستورية للنضال من أجل قضيتهم.
تمتلئ مذكرات الرئيس سانتوس بالحكايات والمشاعر الإنسانية والانعكاسات والتناقضات والتفاصيل والدروس. صحيح أن كولومبيا الآن بعيدة كل البعد عن أن تكون دولة مثالية، لكنها على الأقل منحت مواطنيها فرصة للعيش في سلام.