شعر «الباب الموارب» والأفق المفتوح

عمر شهريار ينوع الطَّرق في «كفجيعة تعاند النسيان»

شعر «الباب الموارب» والأفق المفتوح
TT

شعر «الباب الموارب» والأفق المفتوح

شعر «الباب الموارب» والأفق المفتوح

يشكل اللعب مع الشعر عتبة أساسية في ديوان «كفجيعة تعاند النسيان»، للشاعر عمر شهريار، وتتعدد طرائقه وحِيله، مراوغاً من خلالها عمق وسطح الصورة الشعرية، وحقول الدوال والرموز، والمعني الظاهر والباطن، وجدل الموت والحياة، بينما تشكل مراوحة الحضور والغياب للذات والأشياء مركز اللعب، ومحور إيقاعه وثقله وخفّته في النصوص... لكن، هل اللعب وسيط بين الشعر والحياة، أو بين الذات الشاعرة والشعر، أو بينها وبين الآخر؟ هل هو قناع تتخفى تحته الذات من موضوعها، أو تصطنع مسافة وهمية معه؟ لا يكترث الشاعر بكل هذا، فاللعب ببساطة شديدة هو جوهر كل هذه العناصر، مخبوءاً وكامناً في نسيجها، وحراكها في الزمن والحلم والذاكرة. حينئذ، تصبح مهمة الشعر هي الفرح باللعب، وتحويله إلى طقس ومرآة خاصة للذات ترى فيها طفولتها، وتشاكس سأم العالم وضجره، على شتى المستويات العاطفية والاجتماعية والسياسية.
تكشف هذه الرؤية عن شعرية الباب الموارب والأفق المفتوح، وعن ذات واضحة تنفر من الأشياء المغلقة، مدركة أن النص مجرد محاولة للامتلاء، إنه وجود لم يكتمل، رهانه ليس فقط على الخطوة القادمة، بل في المقدرة على التجدّد والتنوّع والتمرّد على السياقات التقليدية، حتى داخل هذا الوجود الناقص. ولعل هذا هو التجلي الأمثل للسؤال النقدي دائم التكرار: كيف يصبح النقصُ في الفن إضافة، بما يتركه ويغادره على ضفتي الوعي واللاوعي؟!
بهذه الروح النزقة ينفتح الديوان على قارئه، مؤكداً منذ لطشته الأولى، التي تأتي على سبيل الإهداء العائلي، سمات وملامح هذه الشعرية، قائلاً: «إلى هناء وسمو ومتيم - حديقة شعر تزهر دائماً - أبواب مشرعة على الفراغ، ولا أحدَ يمر».
من الممكن تأويلُ الفراغ هنا بأنه إشارة إلى الوجود الناقص أو الهارب، في حديقة تزهر دائماً، لكن أتصور أن الأمر يذهب إلى ما هو أبعد، حيث الفراغ معادل رمزي لوجود مشوش مضطرب فارغ من معناه الإنساني الحقيقي، وجودٍ مسكون بتشققات وفجوات لا تنتهي، توسع من ثنائياته الضدية الشرهة، وتجعل الحياة محنة شديدة التناقض على مستويي الشكل والمضمون، وعلى مستوى الغريزة الشعرية أيضاً... هذه المكابدات، فيما أتصور، أحد الهموم الأساسية في الديوان. يلوِّح بها منذ النص الأول «ملاك طيب لو تعلمون» الذي يشكل عتبة لاستدراج الحياة المتناقضة الضيقة إلى براح الموت، وكأنه محاولة لإنقاذها وتطهيرها من شرورها وآثامها... يقول النص:
«وجدته - أخيراً - في كهف مظلم
وعلى وجهه ابتسامة صوفي راضٍ
كأنه ينتظرني منذ زمن
قال إنه غاضب منكم
لأنكم تشوهون سمعته عن عمد
وتتناسون يده الرحيمة
التي تنتشل العالقين
وتحتضن قلوباً أصابتها شيخوخة مبكرة.
ولا يحتملون غبار الطريق».
يتوسل النص بضمير الغائب المفرد لاستحضار صورة الصديق المفتقد الذي غيبه الموت فجأة. وفي ثنايا الحوار معه مجازياً، يصبح حضوره الوهمي شبحاً لحقيقة غائبة، يناوشها النص بقوة اللعب، ويسبغ كثيراً من صور الحياة على الموت نفسه، فيصفه بالرحمة والشفقة والعدل، حتى أن الموت يصبح متواطئاً في اللعبة الشعرية: (في الفجر... قبّل جبهتي - وأعطاني مسدساً ومشنقة - ثم قال بيقين الواصلين: أعرف أنك صدامي، وتريد تعذيبهم بصورتك الأخيرة).
ينمو المشهد ويتسع بتفاصيل أكثر دراماتيكية في النص التالي، بعنوان «أناشيد لمؤانسة الموتى»، حيث لا يتم استدراج الموت عبر رموز ودوال محددة، فهو حاضر بالفعل وبالقوة، يعلّم الحياة حكمتها المفتقدة، ويبادلها العناق. كما أن الموتى مبتهجون، يحتفلون بالحياة كأنها طقس مَرِح؛ يبتهلون لها، ويتحسسون خطواتها وغبارها حين تمر بجوارهم في المقابر، خصوصاً في الأعياد والمناسبات التي يتم تبادل الزيارة فيها بين طرفي اللعبة من الأحياء والأموات... إنه عبث مغوٍ، يشد اللعب إلى تخوم البدايات والنهايات، ويمنحه سمت الصيرورة الشعرية، وكأن الشعر في سباق مستمر مع الموت والحياة، من أجل أن يقبض على حقيقته في الأشياء، حتى لو كانت باردة ذابلة تفوح منها رائحة الموت... يجسد النص هذا العبث في صفحتي (21، 22)، قائلاً:
«أحبُّ الموتى بأجسادهم الباردة
وعيونهم التي كفّت عن الكلام.
أحبّ شجاعتهم على التخلي والانصراف ببساطة
دون أن يلتفتوا للوراء،
أو يتأخروا لحظة ليفصحوا عن شغفٍ
ظلّ يسكنهم في صمت.
أقرأ على جلودهم الشاحبة
تاريخاً لا يعرفه أحد،
تمتد تماثلات المقبرة ورمزيتها وأجوائها المقبضة إلى مشاهد الحياة اليومية، في الشارع والبيت والمقهى، وتلوّن المشهد في شكل استعارة صريحة ومتخفية في ثنايا الصور والإشارات والعلامات، فـ «مقبرة العائلة» (ص23): «حوائطها بلا ثقوب، ونوافذها مغلقة، حتى لا تنفذُ البهجة إلى ظلامها، ولا يرى العابرون الساحرة الشريرة، وشعرها المجعد». وفي «عام سعيد يا حبيبتي» و«كعجوزين في منتصف الثلاثينيات» (ص27، و25)، لا شيء في جعبة الزمن والحب سوى أن (نجلس كتمثالين - نهش الصمت عن وجوهنا - ونسمع أنين اللذة المحبوسة في الثلاجة»... أيضاً في «هنا القاهرة»، النص قبل الأخير في الديوان (ص81)، حيث يقول:
«هنا...
ينخرط الموتى في نحيب جماعي
على طفولتهم المغدورة
ويطمئنون
من آن لآخر
على أحلامهم الذابلة
والمرتبة بعناية
في حافظات نقودهم»
على ضوء ذلك، يمكننا أن نرصد أسلحة وأدوات هذا اللعب فنياً، ومنها: التهكم والسخرية والمفارقة والفانتازيا، كذلك الجرأة في اقتناص المشهد بسخونته وطزاجته، واختراق ما يحيطه من حواجز الأعراف والتقاليد.
ورغم لطشات من الاستطراد والتكرار، والاستسلام لغواية الفانتازيا بنزوعها السريالي في بعض النصوص، يبقى اللعب على كاف التشبيه من مناطق الجدارة الأسلوبية في الديوان. يتواتر هذا اللعب بداية من عنوان الديوان، وفي عناوين مثل: «كمن يتأهب لسفر طويل»، «كعجوزين في منتصف الثلاثينيات»، وأيضاً في بنية الصورة الشعرية، مثل «كشجرة وحيدة»، و«كموظف فندق» و«كأوراق خريفية»، و«كواحد غيري تماماً»، وغيرها.
وفي اللعب على كاف التشبيه، يتم إزاحة علاقة التمثيل النمطية في الربط بين المشبه والمشبه به، وتصبح أداة للشك وجر المطلق بسمته المتعالي إلى أرضية النسبي المفتت الهش ابن الواقع والحياة، كما تساهم في فك جمود الأشياء، وإشاعة الحركة في دواخلها المصمتة.
تتنوع هوية اللعب في بقية نصوص الديوان: «مشاهد سقطت من ذاكرة الريح»، و«حيوات غير مرئية»، و«محاولات للنظر في المرآة»... ونلاحظ تخفف الذات الشاعرة من ثقل اللعب، فيصبح كائناً لطيفاً من الخفة، يمرق في شقوق الحياة وفجواتها، ويتحول أحياناً إلى ندٍّ شعري للذات، لا يكف عن الفوضى والهذيان والصراخ... تستثمر الذات هذه الخفّة وتوظفها، في محاولة لابتكار إيقاع شخصي، يجمع بين التوتر والانسيابية والشغف بالأحاسيس الواضحة الغامضة، في دبيب البشر والعناصر والأشياء، وكأن الخفة أحد تجليات الوجود الإنساني، خصوصاً في منعطفات الأزمنة، ولحظات صعودها وانكسارها، وعبثيتها، كأنها وثبة الذات للارتطام بكينونتها، خارج حدود الواقع والزمن، ولا بديل لهذه الوثبة الخلاقة سوى الوقوع في براثن السأم والأرق... يجسد الديوان هذا المعنى على نحو لافت وممتع شعرياً في نص «حيوات غير مرئية»، قائلاً (ص43، و44):
«فلنتحدث إذن عن الخفّة
نعم الخفّة
التي هامت على وجهها
في الشوارع والحقول
كمجذوبة عجوزٍ
يقذفها العيال بالعتمة
فتنزف شجناً أبيض.
الخفة التي قمعها العمقُ
بشاربه الكثِّ
بعد أن أكلت التجاعيدُ روحها.
إن الأمر لا يتعلق هنا بأنسنة الأشياء، بقدر ما يتعلق أساساً بعناق حي بين الألفة والغرابة، وأن كليهما ظل للآخر. فالألفة تتحول إلى غرابة، حين تصبح مصدراً للسؤال والدهشة، حينئذ تصبح أكثر جاذبية وحميمية، وتشعر بأن ثمة من يتقاسم معك النعمة والروح... ربما هذا هو المعنى الهارب الذي يناوشه النص بخلق هالة من التوتر في التعاطي شعرياً مع هذه العناصر المثبطة لفاعلية الوجود، التي تتواتر في النصوص وكأنها إفراز واقع مضطرب حتى في النظر لغريزته العاطفية... لكن يبقى السؤال قائماً: هل الشعر فعلاً فجيعة تعاند النسيان، أم أن النسيان نفسه فجيعة تعاند الشعر... هذه المتاهة بوقعها الإنساني المغوي جسدها هذا الديوان بتلقائية شديدة التميز والبساطة، ومحبة أعمق للشعر والحياة.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!