منذ عام ونيف، يقود حافلة السياسة الإيطالية سائق يدعى ماتيو سالفيني، يدفع بها في كل الاتجاهات المعاكسة الممكنة، يتجاوز كل حواجز المرور ويتجاهل قواعد السير منتشياً بأهازيج أنصاره الذين تضاعفوا 10 مرات في أقل من 4 سنوات، موعودين بالعودة إلى زمن حكم القبضة الحديدية في أعصى الدول الأوروبية على الاستقرار السياسي وأكثرها تعقيداً في إدارة الشأن العام. لم يأبه سالفيني يوماً لانتهاكه قواعد العمل الأوروبي وشروط الشراكة في الاتحاد الذي شهد النور في إيطاليا التي تشكل قوته الاقتصادية الثالثة، بل كان يجاهر بتمرده ويفاخر به ليقينه بأن شعبيته تتزايد كلما تمادى في الصدام وأوغل في تعميق الانقسام وتوسيع المواجهة. كل الدلائل في تصريحات وزير الداخلية وزعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف وتحركاته في الأسابيع الأخيرة كانت تدل على أنه قد بدأ العد العكسي لتفجير الائتلاف الحاكم مع حركة النجوم الخمس والذهاب إلى انتخابات مبكرة ترجح الاستطلاعات فوزه فيها بأغلبية ساحقة. لكن لم يكن أحد يتوقع أن يقدم سالفيني على هذه الخطوة قبل نهاية العطلة الصيفية، خصوصاً أن إيطاليا أمام استحقاق أساسي قبل منتصف الشهر المقبل، لتقديم موازنتها النهائية إلى المفوضية الأوروبية كي لا تتعرض لحزمة من الإجراءات والعقوبات القاسية. وكان حزب الرابطة قد فاجأ الجميع بتقديمه طلباً في مجلس الشيوخ لسحب الثقة من رئيس الحكومة جوزيبي كونتي الذي كانت تدعمه الرابطة في الحكومة الائتلافية مع حركة النجوم الخمس، ما يشكل عملياً الخطوة الإجرائية الأولى نحو إسقاط الحكومة، ثم البحث في إمكانية تشكيل أغلبية حكومية جديدة حتى نهاية الولاية البرلمانية الراهنة أو الدعوة لإجراء انتخابات عامة جديدة.
وكان سالفيني قد أعلن مساء الخميس، أنه يعتبر التحالف الحاكم في حكم المفسوخ وطالب بإجراء انتخابات مسبقة في أسرع الآجال الممكنة، بعد أن بلغت الخلافات والمواجهات داخل التحالف مستويات غير مسبوقة حول عدد من الملفات الرئيسية وفي طليعتها السياسة المالية والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي. هذه الخطوة التي أقدم عليها سالفيني وضعت رئيس الحكومة أمام خيارين لا ثالث لهما: تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية، وهو الخيار الذي يفضله زعيم الرابطة، أو المثول أمام البرلمان لبت طلب سحب الثقة ومحاولة تشكيل أغلبية برلمانية أخرى كما فعل كونتي، وكان يخشى سالفيني وبسببه تريث حتى الآن في إسقاط الحكومة. وقد أعلن كونتي خياره في ساعة مبكرة من فجر أمس (الجمعة)، بعد مشاورات مع رئيس الجمهورية وقيادة حركة النجوم الخمس وأدلى بتصريحات تضمنت انتقادات شديدة لسالفيني اتهمه فيها بأنه «المسؤول الوحيد عن إسقاط الحكومة، ويتصرف بانتهازية انتخابية سعياً لاقتناص ارتفاع شعبية الرابطة في استطلاعات الرأي». لكن إيطاليا، وبرلمانها، في عز العطلة الصيفية، وليس معروفاً بعد متى سيلتئم البرلمان لمناقشة طلب سحب الثقة والتصويت عليه، فيما رجحت أوساط سياسية أن جلسة الثقة لن تعقد قبل العشرين من الشهر الحالي. وبحسب وكالة الإعلام الإيطالية، قد يجتمع مجلس الشيوخ في 20 أغسطس (آب)، لأخذ علم بانهيار الائتلاف الحكومي، وقد يتم حل البرلمان بعد أيام. ومن المنتظر أن يتبين كونتي عدم وجود الدم الكافي لحكومته في البرلمان، فيبادر إلى تقديم استقالته إلى رئيس الجمهورية الذي، في حال قرر حل البرلمان، عليه أن يدعو لإجراء انتخابات جديدة في موعد لا يقل عن 45 يوماً ولا يتجاوز 70، أي في النصف الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. لكن لرئيس الجمهورية أن يلعب ورقة أخرى مثل محاولة تشكيل حكومة جديدة، بأغلبية مختلفة، حتى نهاية ولاية البرلمان الحالي الذي تمخض عن الانتخابات التي أجريت في مطلع مارس (آذار) من العام الماضي. الأغلبية الوحيدة الممكنة بديلاً للحالية هي التحالف بين حركة النجوم الخمس والحزب الديمقراطي اليساري، الأمر الذي يبدو مستبعداً في الظروف الراهنة نظراً للتباعد الشديد بين الطرفين. لكن بوسع ماتاريلا أن يلعب ورقة أخرى مثل تشكيل حكومة تكنوقراطية مؤقتة حتى موعد الاستحقاق الانتخابي المقبل، لإدارة الملفات العاجلة وتنفيس الاحتقان السياسي والاجتماعي الشديد الذي يسيطر على المشهد الإيطالي منذ أشهر.
الرابطة سارعت إلى رفض هذا الاحتمال الأخير وطالبت بانتخابات سريعة، وقال سالفيني: «إن أي خيار آخر غير الانتخابات سيكون فضيحة كبرى وتحقيراً للنظام الديمقراطي»، فيما اعتبرت النجوم الخمس أن الحكومة التكنوقراطية هي «ضرب من الجنون». وأكد سالفيني أمام أنصاره ظهر أمس (الجمعة)، أنه سيترشح لمنصب رئيس الحكومة في الانتخابات المقبلة التي قال إنه سيخوضها منفرداً وليس بالتحالف مع حزب برلسكوني والفاشيين الجدد كما فعل في الانتخابات الماضية. وأعلن أمام مناصريه: «يقولون لنا إنه لا يمكن خفض الضرائب. سنثبت إذا أعطيتمونا القوة للقيام بذلك، أنه من الممكن خفض الضرائب عن العمال الإيطاليين». وأثار قرار سالفيني هذا غير المتوقع غضب رئيس الحكومة جوزيبي كونتي ولويجي دي مايو. وبإمكان الرابطة، بموجب قانون الانتخاب الإيطالي، أن تشكل حكومة منفردة إذا حصلت على 40 في المائة من الأصوات، وإلا ستضطر للتحالف مع المحافظين والفاشيين الجدد. ونشبت الأزمة داخل الائتلاف الأربعاء بسبب خلاف بين الطرفين حول مشروع للسكك الحديد بين ليون وتورينو. وصوتت حركة 5 نجوم منفردة ضد هذا المشروع في حين دعمت الرابطة مذكرتين للمعارضة لصالحه.
مهما كان التاريخ ستكون الرابطة في موقع قوة مع استطلاعات للرأي تشير إلى حصولها على 36 أو 38 في المائة من نوايا التصويت وحتى أكثر ما يسمح لها بالحكم منفردة أو بدعم حزب «فراتيلي ديتاليا» من اليمين المتطرف. ويبقى حزب 5 نجوم بعيداً مع 17 في المائة من نوايا الأصوات.
الغموض يلف المشهد السياسي الإيطالي بعد أزمة مفاجئة
سالفيني يريد انتخابات مبكرة ترجح استطلاعات الرأي فوزه فيها بأغلبية ساحقة
الغموض يلف المشهد السياسي الإيطالي بعد أزمة مفاجئة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة