عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

وزير الدفاع التونسي في السباق لخلافة قائد السبسي

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب
TT

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

تولى وزير الدفاع والمرشح البارز للرئاسة التونسية الدكتور عبد الكريم الزبيدي مسؤوليات عليا في المؤسسات العلمية والإدارة التونسية منذ عام 1981 في عهد كل رؤساء تونس، من الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي، إلى الباجي قائد السبسي، مروراً بفؤاد المبزّع، والمنصف المرزوقي، بعد الانتفاضة الشبابية الاجتماعية التي فجّرت ثورات ما عُرف بـ«الربيع العربي» مطلع 2011. وكان الزبيدي، وهو طبيب، قد عيّن لأول مرة عضواً في حكومة بن علي مكلفاً بالبحث العلمي عام 1999، ثم عيّن وزيراً للصحّة في 2001 عندما كان محمد الغنوشي رئيساً للوزراء، بيد أنه ارتقى في سلم المسؤوليات خلال السنوات الأربعين الماضية، ليتصدر قائمة المترشحين لرئاسة تونس خلال السنوات الخمس المقبلة.
عبر الرحلة من مهنة الطب إلى عالم السياسة، تولّى الدكتور عبد الكريم الزبيدي مسؤوليات كثيرة، معظمها في قطاعات الطب والتعليم العالي والبحث العلمي. وتفيد السيرة الذاتية للزبيدي الطبيب والجامعي أنه ولد عام 1950 في مدينة الرجيش، بمحافظة المهدية السياحية، على بُعد 200 كلم جنوبي العاصمة تونس.
وحقاً، نشأ الزبيدي في جهة الساحل، بين محافظات المهدية والمنستير وسوسة، التي ينحدر منها الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، اللذان حكما تونس ما بين 1955 و2011. وكذلك غالبية كبار المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم.
ومِثل كثيرين من طلبة النخبة التونسية، تمكّن الزبيدي من إكمال دراساته العليا في أوروبا، فحصل على شهادة دكتوراه في الطب من جامعة كلود برنار - ليون 1 المرموقة في مدينة ليون بفرنسا. كما أنه حصل من الجامعة نفسها على شهادة الماجستير في علم وظائف الأعضاء البشرية، وأيضاً الماجستير في علم الصيدلة الإنسانية، إضافة إلى شهادة الدراسات المعمقة في علم وظائف الأعضاء البشرية، وشهادة دراسات وبحوث في علم الأحياء البشري.
ولقد نجح الزبيدي بفضل تفوقه العلمي في أن يتولى مبكراً مسؤوليات إدارية في الجامعة والمستشفيات التونسية. وعيّن منسقاً لتدريب كبار الفنيين الصحيين في كلية الطب بمدينة سوسة، خلال الفترة بين 1981 و1988. وتحمّل في الفترة ذاتها الكثير من المسؤوليات الرسمية والمناصب داخل الجامعة، بينها رئيس قسم العلوم الأساسية بين 1982 و1989. وحاز رتبة أستاذ في المستشفيات الجامعية العمومية منذ 1987.
بعدها، عيّن الزبيدي رئيساً لخدمة الاختبارات الوظيفية في مستشفى فرحات حشّاد الجامعي في مدينة سوسة بين 1990 و1999. وعيّن منذ 1992 مسؤولاً عن بعثات الخبراء في مجال التطبيقات الطبية النووية لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وترأس الزبيدي كلية علم وظائف الأعضاء والاختبارات الوظيفية التابعة لوزارة الصحة العمومية بين 1994 و1997، ثم عيّن رئيساً لجامعة الوسط برتبة عضو في الحكومة بين 1995 و1999. وبعد مغادرته الحكومة «لأسباب صحية وعائلية» عيّن عميداً لكلية الطب في جامعة الوسط بسوسة بين 2005 و2008.

العودة إلى الحكم
عاد الدكتور الزبيدي إلى الحكومة بعد أسبوعين فقط من ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 عندما أسندت إليه حقيبة وزارة الدفاع في الحكومة الثانية التي شكّلها رئيس الحكومة محمد الغنوشي يوم 27 يناير، وسقطت بعد نحو شهر. وبعد الإطاحة بحكومة الغنوشي الثانية وتعيين السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي (الرئيس الراحل) رئيساً جديداً للحكومة، بقي الزبيدي في منصبه وزيراً للدفاع.
كذلك ظل الزبيدي وزيراً للدفاع في أعقاب الانتخابات التعدّدية الأولى التي نظمت في تونس يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، وهي الانتخابات التي أوصلت الدكتور المنصف المرزوقي إلى قصر قرطاج الرئاسي، والأمين العام لحزب «حركة النهضة» حمادي الجبالي إلى قصر الحكومة. واحتفظ الزبيدي بالمنصب مجدداً حتى مارس (آذار) 2013، إلا أنه انسحب في أعقاب الاحتجاجات والاضطرابات السياسية التي عقبت اغتيال الناشط السياسي اليساري شكري بلعيد، ثم استقالة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، وتعويضه بوزير الداخلية آنذاك علي العريّض.

رفض رئاسة الحكومة وحقيبة الداخلية
وعُين الزبيدي من قبل رئيس الحكومة الجديد علي العريّض (مارس 2013 - يناير 2014) مستشاراً لوزير الصحة عبد اللطيف المكي برتبة وزير، إلا أنه اختار الانسحاب، وبرّر موقفه بأسباب صحية وعائلية. كذلك رفض الزبيدي طوال 4 سنوات عروضاً كثيرة قدّمها الرئيس الباجي قائد السبسي، من بينها رئاسة الحكومة الأولى في عهده بعد انتخابات 2014. ولقد حاول صديقه الوزير المخضرم الحبيب الصيد إقناعه بقبول عرض قائد السبسي، لكنه تمسك بموقفه الرافض.
وفي المقابل، يؤكد المقرّبون منه أنه لعب دوراً كبيراً في إقناع الصيد بالموافقة على اقتراح تولي رئاسة الحكومة، بحكم تجربته الطويلة في الإدارة، وعلى رأس مؤسسات استراتيجية في الدولة، من بينها الداخلية والتنمية المحلية والفلاحة والبيئة.
وبعد إسقاط حكومة الحبيب الصيد في أغسطس (آب) 2016، تلقّى الزبيدي عروضاً لتشكيل الحكومة الجديدة، أو دخول حكومة يوسف الشاهد الأولى وزيراً للداخلية والأمن، لكنه اعتذر.

في حكومة الشاهد
واصل الزبيدي رفض العودة إلى الحكومة حتى سبتمبر (أيلول) 2017 عند تشكيل حكومة يوسف الشاهد الثانية، وذلك بعد مفاوضات شملت معظم الأحزاب السياسية والنقابات، وأسفرت عمّا سُمّي بـ«وثيقة قرطاج»، وعن إدخال تغييرات شملت حقائب وزارات الدفاع والعدل والداخلية.
ولقد أكد يوسف الشاهد أنه عرض على الزبيدي حقيبة الداخلية والأمن، إلا أنه رفضها وقبل بحقيبة الدفاع، التي تشرف على تأمين حدود تونس وأمنها الخارجي والمشاركة في الحرب على الإرهاب، ولكن دون التورط مباشرة في الملفات الأمنية والسياسية الداخلية المعقّدة.
وبالفعل، بقي الزبيدي في هذا المنصب طوال سنتين بعيداً عن الانخراط في المعارك السياسية، مكرّساً مواقف المؤسسة العسكرية التونسية منذ عهد الرئيس الحبيب بورقيبة وثوابتها؛ الجيش في الثكنات، وتثبيت الحياد السياسي، والتفرغ للملفات الوطنية المشتركة.

علاقته بقائد السبسي
استفاد الزبيدي من دستور تونس الجديد، الصادر في يناير 2014، الذي يجعل وزراء السيادة - وبينهم وزير الدفاع - تحت إشراف مباشر من رئيس الجمهورية، على الرغم من انتمائهم إلى الفريق الحكومي الذي يقوده رئيس الحكومة، وعلى الرغم من مشاركتهم في اجتماعات مجلس الوزراء بإشرافه، وخضوعهم لمراقبة مباشرة من البرلمان.
هذه العلاقة المميزة بمؤسسة رئاسة الجمهورية، مكّنت وزير الدفاع الزبيدي من أن يكون أحد أكثر الوزراء تواصلاً مع الرئيس ومستشاريه، وبينهم مستشاروه في قطاعات الأمن والدفاع. ومكّنه هذا الموقع من أن يتابع مباشرة تطورات التنسيق الأمني والعسكري الإقليمي والدولي في مجالات مكافحة الإرهاب، والتطورات الأمنية والسياسية في ليبيا ومناطق التوترات الأمنية في شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، بما فيها ما يتعلق بالحرب ضد تنظيمات مسلحة مثل «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«داعش» وعصابات التهريب للأسلحة والسلع والأموال والمهاجرين غير القانونيين.
وبالتالي، مع دعم قائد السبسي دور مؤسسة الرئاسة في متابعة الملفات الاستراتيجية والأمنية والعسكرية، اقترب الزبيدي أكثر من مؤسسة الرئاسة والتأثير في بعض قراراتها.

خلافات رأسي السلطة
ولكن، قبل سنة ونصف السنة، عندما اندلعت الخلافات بين قائد السبسي والشاهد، وتطوّرت إلى أزمة مفتوحة بين رأسي السلطة التنفيذية في قصري الرئاسة والحكومة... بل إلى صراع سياسي علني داخل الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام، التزم الزبيدي الحياد، وحاول مراراً الانسحاب من المشهد واعتزال السياسة والتفرّغ لحياته الخاصة والعائلية.
وبالفعل، ينقل مقربون من الشاهد والسبسي أن الطرفين كانا يحرصان على وساطته في عدد من الملفات. وعندما استفحل «الخلاف الرئاسي» عام 2018 وفشلت جهود قائد السبسي لإسقاط رئيس الحكومة، عرض الزبيدي مجدداً استقالته، لكن الرئيس تمسك به وقرّبه أكثر.
وهكذا، بقي الزبيدي في منصبه، لكنه كان يؤكد للمقربين منه موقفه المتمسك بحياد المؤسسة العسكرية، المعارض للاصطفاف ضد رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة... أو ضد رئيس الحكومة الذي يمنحه الدستور والبرلمان أكبر الصلاحيات في تسيير شؤون الدولة ومؤسسات الحكم.

شعبية المؤسسة العسكرية
لقد استفاد الزبيدي من شعبية الجيش التونسي نتيجة تحاشي قياداته التورط مباشرة في قضايا الرشوة والفساد والاستبداد طيلة السنوات الـ60 الماضية، خلافاً لبعض القيادات الأمنية المدنية و«لوبيات» المال والأعمال والسياسة.
وعندما تدهورت الحالة الصحية للرئيس قائد السبسي يوم 27 يونيو (حزيران) الماضي إلى درجة استحالة نقله للعلاج في الخارج، طلب الزبيدي مع أطبائه نقله إلى المستشفى العسكري الكبير في العاصمة تونس؛ حيث تتوفر نخبة من الأطباء العسكريين والمدنيين والتجهيزات الطبية المتقدمة. ونُقل السبسي إلى المستشفى العسكري في اليوم الذي كانت فيه قوات الجيش والأمن الوطني تتصدّى لمجموعة إرهابية هاجمت مركز إرسال إذاعي وتلفزيوني في جنوب تونس على الحدود مع الجزائر، ولمجموعة إرهابية نظّمت عمليتين انتحاريتين وسط العاصمة تونس. ويومها كانت الأولى أمام مقر إدارة مكافحة الإرهاب، والثانية بالقرب من وزارة الداخلية والسفارة الفرنسية بتونس.
وأدى التعاطف الشعبي مع الرئيس المريض الذي يُعالج في المستشفى العسكري، ومع القوات التي تحارب الإرهابيين، إلى ترفيع التعاطف الشعبي مع المؤسسة العسكرية ومع وزير الدفاع الذي اختاره السبسي وأفراد عائلته صباح اليوم الموالي، ليكون الشخصية الرسمية التي أجرى معها اتصالاً هاتفياً لطمأنة الشعب وتفنيد إشاعة وفاته.
كذلك كان الزبيدي آخر مسؤول في الدولة قابله قائد السبسي صباح يوم الاثنين 22 يوليو (تموز) قبل 3 أيام فقط من نقله مريضاً للمرة الثالثة إلى المستشفى العسكري، ثم الإعلان عن وفاته. وأفاد الزبيدي أن المقابلة شملت الحديث عن الوضع الأمني والعسكري في البلاد.
بعد تلك المقابلة، التي بدا فيها السبسي منهكاً ولم يخاطب الشعب، التقى وزير الدفاع رئيس البرلمان محمد الناصر والسفير الأميركي لدى تونس دونالد بلوم، وأوردت وسائل الإعلام التونسية أن قائد السبسي كلّفه بذلك، في خطوة فهم المراقبون أنها محاولة جديدة من الرئيس وعائلته ومستشاريه لتهميش دور رئيس الحكومة و«ابنه الروحي» المتمرد عليه يوسف الشاهد، وإبراز الزبيدي بصفته «رجل ثقة الرئيس والأب الكبير».

الجيش ومراسم التشييع
ويوم وفاة قائد السبسي فوجئ العالم والتونسيون بسلاسة نقل السلطات من الرئيس الراحل إلى رئيس البرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور. ونقلت وسائل الإعلام موكب أداء الرئيس الجديد في البرلمان، بعد ساعات من إعلان وفاة قائد السبسي، بعد جلسة عمل جمعته برئيس الحكومة الشاهد، ومشاورات مع وزيري الدفاع والداخلية، أُعلن في أعقابها أن جنازة وطنية ستنظم للرئيس الراحل بعد يومين فقط. وبعد مراسم التشييع فهم الجميع أن قادة الجيش ووزير الدفاع شخصياً كانوا وراء النجاح الأمني والسياسي، لأن كبار الضباط من القوات البحرية والبرية والجوية كانوا في صدارة المشهد طوال مراسم الدفن التي تواصلت نحو 5 ساعات.

دعوات للترشيح
ونوّهت المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام المختلفة بنجاح المؤسسة العسكرية، وتوالت بسرعة الدعوات إلى ترشيح وزير الدفاع لرئاسة الجمهورية. وانخرط في حمّى المساندة لترشيح الزبيدي عائلة قائد السبسي، بزعامة نجله الأكبر حافظ، رئيس حزب «نداء تونس»، ثم قيادات حزبية وسياسية علمانية، بينها ياسين إبراهيم ورفاقه في حزب «آفاق».
أيضاً، صدرت تصريحات بالجملة مساندة لمبدأ ترشيح الزبيدي من داخل حزب «حركة النهضة»، قبل أن تقرر قيادته الموسّعة في اجتماع جديد ترشيح النائب الأول لرئيس الحركة ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو.

مرشح الحداثة
واليوم، بعد حسم «النهضة» موقفها بترشيح زعيمها التاريخي الثاني عبد الفتاح مورو لخوض السباق، فإنه من بين الأسئلة المطروحة؛ هل سينجح الزبيدي وأنصاره في إقناع غالبية المرشحين للرئاسة المحسوبين على تيار الحداثة بالانسحاب لصالحه، كي يتزعم «جبهة التحديثيين» المعارضة لمرشح الإسلاميين؟
ثم كيف سيتفاعل الزبيدي وأنصاره مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، المرشح بدوره للرئاسة، مدعوماً من قبل حزب كبير، انخرط في قياداته المركزية والمحلية عدد كبير من كوادر الدولة والحزب الحاكم قبل انتفاضة 2011 وبعدها.
في أي حال، فإن ترشح وزير دفاع للرئاسة، واستقالته في اليوم نفسه من الحكومة للتفرغ لحملته الانتخابية، حدث يحصل لأول مرة في تونس. إذ بات القانون الانتخابي يسمح فيها للعسكريين والأمنيين بالمشاركة في الاقتراع العام - أي في الحياة السياسية - بحجة المساواة في الحقوق والواجبات مع المدنيين.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.