سان فرانسيسكو تحتفي بالسينما الصامتة

غدا السبت، يبدأ مهرجان «سان فرانسيسكو للسينما الصامتة» دورة جديدة أخرى ميزتها أن تجمع كل أنواع الأفلام باستثناء تلك التي نطقت بعد عام 1927. الصالة التي يجري اختيارها كل عام لإطلاق هذا المهرجان هي بدورها من ذلك العالم إذ بنيت في عام 1922 (ثاني أقدم صالات المدينة بعد «روكسي» التي بنيت سنة 1909). في عام 1922 ذاته ولدت فيها أفلام عملاقة وصامتة مثل «نوسفيراتو» لفردريك مورناو و«دكتور مابيوز المقامر» لفريتز لانغ والتسجيلي «نانوك الشمال» لروبرت ج. فلاهرتي. وهو العام الذي عرض فيه ملك الكوميديا الصامتة بستر كيتون 7 من أفلامه الرائعة ومنها «ذو الوجه الشاحب» و«الشمال المتجمّد» و«الحداد». كما هو العام الذي قدّم فيه المخرج ألان دوان فيلمه الرائع «روبين هود» الذي كتبه الممثل والمنتج دوغلاس فيربانكس (تحت اسم مستعار هو إلتون توماس) وكان يريد تولي بطولته لكنه تنازل عن ذلك الدور ليخطط القيام بشخصية «لص بغداد» بعد عامين. والذي جرى في العام الماضي عرض فيلم بحث في الإنجاز التقني الكبير الذي حققه ذلك الفيلم عندما صوّر شخصياته تركب البساط السحري وتنطلق فيه عاليا. مشهدان من هذا البساط الطائر تجاوز بهما المخرج راوول وولش كل الخدع السينمائية المتوفرة آنذاك ولسنوات مقبلة.

* الأمير أحمد
* إنه ليس من السهل إقناع مشاهدي السينما الموزّعين بين شاشات الإنترنت وشاشات الأيماكس الضخمة الذين اعتادوا على الصوت المجسّد والصورة الملوّنة المتسارعة، ترك كل هذا ومشاهدة فيلم صامت حتى لو كان معروضا في الصالة القريبة من البيت. لكن الأصعب إطلاق مهرجان ناجح من هذا النوع وفي عصر الدجيتال وأنواع الصورة والصوت المتطوّرة. ولذا لم تكن المغامرة من أساسها رهانا أجوف. هذه المدينة التي شهدت تصوير بعض أفضل ما تم طبعه على أشرطة متحركة من أفلام بوليسية، نسبة لطرقها اللولبية والشوارع التي ترتفع وتنخفض في حدّة تبعا لهضابها الكثيرة، أطلقت هذا المهرجان قبل 19 سنة وحصدت في كل عام نجاحا وإقبالا من جمهور متعدد الأجيال.
خلال هذه الفترة جرى عرض مئات الأعمال الصامتة، قصيرة وطويلة. «مغامرات الأمير أحمد»، للألمانية لوتي راينر، أول رسوم متحركة طويل في العالم، كان ذروة العروض سنة 2008: الجانب الرومانسي الرفيع في حكايات ألف ليلة وليلة ممتزجا بمواقف المغامرة في عمل رفع التحية إلى أصول الحكاية العربية.
من أهم الاكتشافات هنا ما جرى عام 2003 عندما جرى تقديم سلسلة من الأفلام المنتمية إلى الحكاية الخيالية الشعبية «أليس في أرض العجائب» التي أقدم وولت ديزني، عبر شركته على إنتاجها ابتداء من عام 1922. وديزني ناقض نفسه عندما قال ذات مرّة إن مملكة ديزني «قامت على فأر»، قاصدا ميكي ماوس طبعا، ذلك أن الحقيقة هي أنها قامت على كتفي شخصية «أليس» كون سلسلة أفلامها سبقت أفلام الفأر المذكور ببضع سنوات.

* الثنائي الفريد
* لا مجال هنا لذكر كل المآثر التي عرضها هذا المهرجان الفريد في سنواته الثماني عشرة السابقة، لكن لا بد من التأكيد على أن معظم الحاضرين كانوا أمام سلسلة من الاكتشافات التي لا تقاوم. المهرجان ليس فقط فرصة للمؤرخين وهواة السينما المثابرين، بل، وعلى نحو شاسع، لجمهور يتألف من الصغار والكبار الذين ولدوا في أحضان 87 سنة من السينما الناطقة حتى الآن. وهذا العام يقدم المهرجان المزيد من الأفلام والاكتشافات. مثل ذلك الفيلم التسجيلي الذي يجمع ما أنجزه الثنائي لوريل وهاردي من أفلام صامتة في 70 دقيقة. لوريل وهاردي لا يزالان إلى اليوم أفضل ثنائي كوميدي بين كل سينمات العالم: الغبي والأغبى الأصليان والأكثر تفننا وتلاؤما من كل ثنائي كوميدي آخر شهر على الشاشة إلى اليوم. المهرجان في يومه الأول، في الساعة الحادية عشرة صباحا، يعرض فيلمين آخرين لهما هما Two Tars وBig Business (حققاهما سنة 1928 و1929 على التوالي).
والكوميديا تستمر بحضور أحد أهم اثنين من عباقرة الكوميديا وهو بستر كيتون. لجانب تشارلي تشابلن، نشر كيتون الكوميديا بين ملايين المشاهدين ومنحها سماتها الفنية. لم تعد تهريجا مزاولا للإضحاك بل باتت فنّا سينمائيا رفيعا لا تتخلى عن الإضحاك ولا تتنازل عن مستواه في الوقت ذاته.
الفيلم المختار للمناسبة هو «الجنرال» (1926) الذي هو ملحمة قصصية كوميدية لم يتجاوزه أحد في تحقيق مثيل لها حتى تشارلي تشابلن. فيه يؤدي كيتون شخصية رجل عاشق يلحق بحبيبته التي خطفها الجنود الشماليون، خلال الحرب الأهلية الأميركية، ويعود إلى المعسكر الجنوبي حاملا خطط الجيش الاتحادي المقبلة. لكن كيتون ليس الكوميدي الذي يكترث بأن يكون بطلا قوميا. المرأة التي يحب هي من تستطيع اعتباره ذلك وهذا كل ما يكترث له. المشاهد التي نراه فيها يقود بمفرده قطارا بدائيا (لم يكن بدائيا آنذاك) من تلك التي جعلت المخرج الراحل أورسن وَلز يقرر: «هذا الفيلم هو أفضل كوميديا في التاريخ، وأفضل فيلم عن الحرب الأهلية في التاريخ وربما أفضل فيلم جرى صنعه في التاريخ».
ومن الكوميديا (وهناك أفلام أخرى كثيرة من هذا النوع) إلى الرعب المبكر الذي أبداه الألمان من خلال ما عرف بالسينما التعبيرية. إلى جانب «نوسفيراتو» لمورناو، يأتي فيلم «كابينة د. كاليغاري» تتويجا لسينما التخويف ذات المنحى الفني المبكر. وفي حين أن «نوسيفيراتو» هو أمضى شأنا في فن الإفزاع، إلا أن «كابينة د. كاليغاري» الذي حققه روبرت واين الأجدر بحمل لقب «التشويق النفسي الأول في السينما». عندما جرى تحقيقه سنة 1920 لم يكن أحد سمع بأدولف هتلر، لكن رياح التوجه الوطني لألمانيا الخارجة من الحرب لم تكن بعيدة. من هنا جرى اعتبار هذا الفيلم من تلك التي حذّرت من المستقبل المشؤوم.
* سان فرانسيسكو في الأفلام
* سان فرانسيسكو مدينة لا تشبهها أي مدينة أخرى حول العالم وهي ألهبت الكثير من المخرجين وأفلامهم. تبعا لتضاريسها أشهر هذه الأفلام بوليسية: ستيف ماكوين طار بسيارته فوق طرقها الجبلية في «بوليت». ألفرد هيتشكوك صوّر فيها الفيلم الذي احتل قائمة النقاد والسينمائيين كأفضل فيلم في العالم «فرتيغو». المخرج بيتر بوغدانوفيتش صوّر فوق أدراجها العريضة مشهد المطاردة في «ما الجديد يا دكتور؟»، وكلينت إيستوود أنجز فيها سلسلة أفلامه البوليسية من بطولة شخصيّته المعروفة بـ«هاري القذر» ومن بينها «هاري القذر» و«تأثير مفاجئ».