«الواقعية السحرية» في رواية إندونيسية

لنقاد برواية غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة»

إيكا كورنياوان
إيكا كورنياوان
TT

«الواقعية السحرية» في رواية إندونيسية

إيكا كورنياوان
إيكا كورنياوان

عن دار الكتب خان في القاهرة صدرت في عام 2018 الترجمة العربية لرواية «الجمال جَرْح» للكاتب الإندونيسي إيكا كورنياوان المولود في غرب جافا في عام 1975. أنجز الترجمة عن اللغة الإنجليزية المترجم المصري أحمد شافعي. كانت الرواية قد صدرت بلغتها الأم في عام 2002. ونالت حظاً وفيراً من الاستحسان النقدي مما حدا بدور النشر إلى ترجمتها إلى 38 لغة، وجعَل جريدة لوموند الفرنسية تتساءل: «مَن يعْلَم! قد تمنح لجنة نوبل كورنياوان الجائزة التي لم تنلها إندونيسيا قط بعد عدة سنوات». كما اعتبرت أن أدبه لا يتكئ على سواه بينما وضعته مجلة «ذا نيويورك ريفيو أوف بوكس» في خانة المقلِّدين للكبار حين نعتته «بالابن الأدبي لغونتر غراس وغابرييل غارسيا ماركيز وسلمان رشدي».
لا نعجب لهذا الاحتفاء العالمي، فمعلومٌ أن كورنياوان واحد من أبرز الكتاب المهيمنين على المشهد الثقافي في إندونيسيا، وإن ندر في المجمل ما نعرفه عن أدب إندونيسيا. فبعد أن بلغت رواية «الجمال جَرْح» القائمة الطويلة لجائزة المان بوكر الدولية شبَّهها النقاد برواية غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة».
وإندونيسيا نفسها، وهي أكبر دولة إسلامية في العالم، تقدِّم لنا مادة أدبية وتاريخية وافرة للتمحيص والتأمل على خلفية صراعات سياسية تجْنح إلى العنف، كانت المرأة هي أكبر ضحاياها، والحلقة الأضعف في كل مواجهاتها الدامية.
محل الأحداث بلدة ساحلية خيالية، تحْمل اسم هاليموندا، وتستدعي إلى أذهاننا مقاطعة يوكناباتوفا للكاتب الأميركي ويليام فوكنر. وفيها نتتبع سيرة ثلاثة أجيال من أسرة واحدة، في سرد متراكم الطبقات، يحكي رواية ملحمية عن الخرافات والتعويذات وتاريخ الأساطير، والإشكالات السياسية لهذه الدولة الآسيوية، وكذا روحها الملتبسة. مسرحها الزمني يتسع لقرابة مائة عام، وخلفيتها تراجيديا عائلية هي العمود الفقري للقصة.
في مستهل الرواية في عام 1997. يبتعد النص عن الإطار الاجتماعي - السياسي المحتوم تالياً إلى ما يمْكن وصفه بالميتافيزيقيا. فباستخدام أدوات الواقعية السحرية، ينقل لما الروائي مشهد أشباح العائدين من الموت.
تنهض ديوي آيو من قبرها بعد أن واراها التراب لمدة واحد وعشرين عاماً! تُوقِظ راعي الغنم الصغير النائم أسفل شجرة! يتوقع أهل القرية معجزة، إذ أتاهم أن أهل الإثم ينالون حتماً عقابهم في القبر! يتردد صخبٌ يصم الآذان، فيحسبونه سوطاً يدوياً. وفجأة يهتز القبر وينفلق! تتفجر الأرض، فتموج بزلزال وعاصفة، تطيح بالعشب وشواهد القبور في الهواء. يطْلق بعض القرويين ساقهم للرياح، ويَسقط البعض الآخر مغشياً عليهم. أمَّا ديوي آيو نفسها، فتتشكى في قرارة نفسها، وهي لا تزال تتستر بكفنها، من لؤم الناس لدفنهم إياها حية!
وبعد هذه البداية المزلزلة، يتأرجح السرد بين المستقبل تارة والماضي تارة أخرى، مستعيداً الحرب العالمية الثانية واحتلال الإمبراطورية اليابانية لإندونيسيا في مارس (آذار) 1942، وكانت حينذاك مستعمرة هولندية. يقبض الجنود اليابانيون على ديوي آيو، وتتعرض لأقصى درجات الوحشية والانتهاك. وعندما يحرر الأميركان إندونيسيا من اليابانيين، تنال ديوي آيو العتق، ولكنها لا تجد عائلتها، وتلقى نفسها شريدة وجائعة وهي لم تتعد الثامنة عشرة، فتسعى إلى الرزق الحرام بامتهان الدعارة. تتولد الأحداث تباعاً، فلا يختلف حظ بناتها وأحفادها الذين عاشوا حياة حافلة بأحداث أشبه بالقصص القوطية القديمة.
ينْظم كورنياوان الحكاية بعد التالية في انسيابية لطيفة، ويحرص على الاستفادة من موروث ثقافته البصري وحكايات بلاده الشعبية وفنونها العتيقة، ومن بينها خيال الظل، في منعطفات تجمع بين الكوميديا السوداء والغرابة التي تبلغ مبلغاً يبث في أنفسنا إحساساً بالعزلة القسرية. كما يتغنى المؤلف بأساطير ثقافته وتقاليدها، ويسود الحكي الشفاهي لأحداث خارقة للطبيعة، من بينها أسطورة تحذر من مغبة الجمال ولعنته. وعلى ذكْر الجمال، كانت ديوي آيو ذات جمال بارع، نصفه هولندي، ونصفه إندونيسي، جمال يقدسه الرجال، وفي الوقت نفسه يخشونه.
تنجب ديوي آيو أربع بنات من أربعة رجال مختلفين، وكلهن يتعثرن في كل ما هو خبيث وشرير. وعلى لسانهن نسمع شتى الحكايات عن ضباط النظام والشيوعيين فيما يزيد على ستمائة صفحة، يعيبها أحياناً بعض التطويل. تتنوع صنوف المصائب، من اغتصاب لابنة ديوي آيو الكبرى، وقتل، وجنون، وقلوب مهشمة إلى سحر أسود، ولعنة الجمال الأنثوي في عالم من الذكور في مثل اهتياج كلاب الطرق حسبما تقول البطلة بنبرات متفجعة.
تحْمل تيارات التاريخ الأسرة في تقلبات أمواجها العاتية. نرى رجالاً امتهنهم الضعف رغم تحكمهم في مصائر النساء، ونساء لا يعْرفن الخوف، وأخريات يتحرقن شكاً وغيرة من البطلة. كما تعكس معاناة المواطنين الكادحين مما جلبه الدهر من احتلال عسكري وتدخل أجنبي وخيانات ارتكبها مَن حسبهم الشعب وطنيين. ومثلما لم يقتصد المؤلف في هجاء الكولونيالية، لم يقتصد في هجاء الحكم العسكري الديكتاتوري على يد سوهارتو ومناصريه في خلال ثلاثة عقود من الزمان.
تطفح الرواية بفظاعات وشخصيات تعلي من الانتقام والانتهازية قيماً وغايات. ويمهر المؤلف في رسم البشاعة، ولا يخجل من الكشف الجنسي الصارخ والبذيء، ولا يكبح مشاهد محفوفة بالهمجية، مثل وصفه لعامين كاملين من سفك الدماء قبل حكم سوهارتو، ووصْفه لمذبحة الشيوعيين في عام 1965 التي ارتمت فيها الجثث في أرجاء البلدة دون أن تخْلف محلاً لا يؤذي البصر. ماتوا غيلة وغدراً وهم يحاولون الهرب.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
TT

ماجان القديمة ...أسرارٌ ورجلٌ عظيم

قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية
قطعتان ذهبيتان وقطعة نحاسية مصدرها موقع تل أبرق في الإمارات العربية

كشفت أعمال المسح المتواصلة في الإمارات العربية المتحدة عن مواقع أثرية موغلة في القدم، منها موقع تل أبرق التابع لإمارة أم القيوين. يحوي هذا التل حصناً يضمّ سلسلة مبانٍ ذات غرف متعددة الأحجام، يجاوره مدفن دائري جماعي كبير. وتُظهر الدراسات أن هذه المنشآت تعود إلى فترة تمتد من الألف الثالث إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، وترتبط بمملكة عُرفت في تراث بلاد الرافدين باسم ماجان. خرجت من هذا التل مجموعة من اللقى تشهد لتعدّدية كبيرة في الأساليب، وضمَّت هذه المجموعة بضع قطع ذهبية، منها قطعة منمنمة على شكل كبش، وقطعة مشابهة على شكل وعلَين متجاورين.

يقع تل أبرق عند الخط الحدودي الفاصل بين إمارة أم القيوين وإمارة الشارقة، حيث يجاور الطريق الرئيسي المؤدي إلى إمارة رأس الخيمة. شرعت بعثة عراقية باستكشاف هذا الموقع في عام 1973، وبعد سنوات، عُهد إلى بعثة دنماركية تابعة لجامعة كوبنهاغن بإجراء أعمال المسح والتنقيب فيه، فأجرت تحت إدارة العالِم دانيال بوتس خمس حملات بين عامَي 1989 و1998. خرج تل أبرق من الظلمة إلى النور إثر هذه الحملات، وعمد فريق من الباحثين التابعين لكلية برين ماور الأميركية وجامعة توبنغن الألمانية على دراسة مكتشفاتها في 2007. تواصلت أعمال التنقيب في السنوات التالية، وأشرفت عليها بشكل خاص بعثة إيطالية تعمل في إمارة أم القيوين منذ مطلع 2019.

استعاد دانيال بوتس فصول استكشاف هذا الموقع في كتاب صدر عام 1999 تحت عنوان «ماجان القديمة... أسرار تل أبرق». زار الباحث تل أبرق للمرة الأولى في 1986، يوم كان يقود أعمال التنقيب في مواقع مجاورة، وزاره ثانية بعد عامين، بحثاً عن مؤشرات أثرية خاصة تتعلّق بالأبحاث التي كان يقودها، وكان يومها يعتقد أن تاريخ هذا التل يعود إلى مطلع الألف الأول قبل الميلاد، ثم عهد إلى العالِمة الدنماركية آن ماري مورتنسن بمشاركته في استكشاف هذا الموقع، وتبيّن له سريعاً أن الأواني التي كشفت عنها أعمال المسح الأولى تعود إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد بشكل مؤكّد. إثر هذا الاكتشاف، تحوّل موقع تل أبرق إلى موقع رئيسي في خريطة المواقع الأثرية التي ظهرت تباعاً في الأراضي التابعة للإمارات العربية المتحدة، وتوّلت البعثة الدنماركية مهمة إجراء أعمال المسح المعمّق فيه خلال خمسة مواسم متتالية.

حمل عنوان كتاب دانيال بوتس اسم «ماجان القديمة»، وهو اسم تردّد في تراث بلاد الرافدين، ويمثّل جزءاً من شبه جزيرة عُمان كما تُجمع الدراسات المعاصرة. يذكر قصي منصور التركي هذا الاسم في كتابه «الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي»، ويقول في تعريفه به: «تعدّدت الإشارات النصية المسمارية عن المنطقة التي عُرفت باسم ماجان، وهي أرض لها ملكها وحاكمها الخاص، أي إنها تمثّل تنظيماً سياسياً، جعل ملوك أكد يتفاخرون بالانتصار عليها واحداً تلو الآخر». عُرف ملك ماجان بأقدم لقب عند السومريين وهو «إين» أي «السيد»، كما عُرف بلقب «لوجال»، ومعناه «الرجل العظيم». واشتهرت ماجان بالمعادن والأحجار، وشكّلت «مملكة ذات شأن كبير، لها ملكها واقتصادها القوي»، ودلَّت الأبحاث الحديثة على أن مستوطنات هذه المملكة، «بما فيها الإمارات العربية وشبه جزيرة عُمان الحالية، كانت لها قاعدة زراعية، ولكي تجري حماية استثماراتهم هذه شعر المستوطنون بضرورة بناء التحصينات الدفاعية الممكنة لقراهم، حيث احتوت كل قرية أو مدينة صغيرة على أبراج مرتفعة، بمنزلة حصن مغلق واسع، يتفاوت ارتفاعاً ومساحةً بين مدينة وأخرى». يُمثّل تل أبرق حصناً من هذه الحصون، ويُشابه في تكوينه قلعة نزوى في سلطنة عُمان، وموقع هيلي في إمارة أبو ظبي.

يتوقّف دانيال بوتس أمام اكتشافه قطعةً ذهبيةً منمنمةً على شكل كبش في مدفن تل أبرق، ويعبّر عن سعادته البالغة بهذا الاكتشاف الذي تلاه اكتشاف آخر هو كناية عن قطعة مشابهة تمثّل كما يبدو وعلَين متجاورين. وتحمل كلٌّ من هاتين القطعتين ثقباً يشير إلى أنها شُكّلت جزءاً من حليٍّ جنائزية. إلى جانب هاتين الحليتين الذهبيتين، تحضر حلقة على شكل خاتم، وقطعة على شكل ورقة نباتية مجرّدة، إضافةً إلى زر صغير، وتُكوّن هذه القطع معاً مجموعة ذهبية صغيرة تجذب ببيرقها كما بصناعتها المتقنة. يحضر الكبش في وضعية جانبية، ويتميّز بطابع تجسيمي دقيق، يتجلى في جانبيه. في المقابل، يحضر الوعلان متقابلين بشكل معاكس، أي الذيل في مواجهة الذيل، ويتميّزان كذلك بحذاقة في التنفيذ تظهر في صياغة أدّق تفاصيل ملامح كل منهما.

يذكر احد النقوش أن «لوجال ماجان»، أي عظيم ماجان، أرسل ذهباً إلى شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم من 2049 إلى 2047 قبل الميلاد. ويربط دانيال بوتس بين قطع تل أبرق الذهبية وبين هذا الذهب، مستنداً إلى هذه الشهادة الأدبية، ويجعل من هذه القطع قطعاً ملكية ماجانية. في الخلاصة، يبرز كبش تل أبرق ووعلاه بأسلوبهما الفني الرفيع، ويشكّلان قطعتين لا نرى ما يماثلهما في ميراث مكتشفات تل أبرق الذي ضمّ مجموعة من البقايا الحيوانية، تُعد الأكبر في شبه الجزيرة العربية.

من هذا الموقع كذلك، عثرت البعثة الإيطالية في عام 2021 على مجموعة من اللقى، منها تمثال نحاسي صغير على شكل وعل، يبلغ طوله 8.4 سنتيمتر. يعود هذا التمثال إلى فترة زمنية مغايرة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثالث الميلادي، ويتميّز بطابعه الواقعي الذي يعكس أثراً هلنستياً واضحاً. يماثل هذا التمثال مجموعة كبيرة من القطع مصدرها جنوب الجزيرة العربية، كما يماثل قطعاً معدنية عُثر عليها في قرية الفاو، في الربع الخالي من المملكة السعودية.