الكتاب صناعة وطنية استراتيجية

الكتاب صناعة ثقافية قومية قابلة للتصدير باعتباره وجهاً من وجوه الهوية الوطنية، وهو الممر الأهم لمعرفة واقع وتاريخ ومستقبل أي مجتمع، أو السجل الحافظ لتفكير وشعور الأفراد والجماعات على مر التاريخ. وبقدر ما تكون المؤسسة الثقافية واعية وحاضرة لرعاية الثقافة بشكل عام تزدهر صناعة الكتاب. وهذا هو التحدي الأبرز للكِتاب في السعودية بعد تعيين سعد المحارب رئيساً تنفيذياً للدار السعودية للنشر والتوزيع، ومحمد حسن علوان رئيساً تنفيذياً لقطاع الأدب والترجمة والنشر، حيث تشكل هذه الخطوة قفزة لافتة في تاريخ العناية بالكُتّاب والكِتاب. إذ يؤمَّل عليها تغييراً بنيوياً في جوهر التعامل مع الكتاب على مستوى الشكل والمضمون والتوزيع والتأثير والتنوّع والتعبير عن وعي وأشواق الإنسان الجديد في السعودية الجديدة. وبالتالي تسجيل موقع متقدم في الترتيب الدولي لإصدارات الكتب الذي تنشره منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (يونيسكو).
حتى هذه اللحظة لم تظهر أي ملامح للمهمة التي سيضطلع بها القطاعان اللذان يكمل أحدهما الآخر، ولم تبرز أي إشارة إلى طبيعة توجههما أو المحطة التي سيبدآن منها. وهو أمر متوقع ومُتفهم. إذ من المبكر الحكم على أدائهما وهما في مرحلة الهيكلة والاستشارات وتشخيص حال ومآل الكتاب. وبالتأكيد هناك هيئة استشارية من الوزارة معنية بفحص الأداء في مختلف مراحله وتأكيد مضامينه الاستراتيجية. وهي طروحات ناتجة عن منظومة الورش الثقافية التي نُظمت خلال العام الماضي، ومتأتية في الآن نفسه من الخبرة الطويلة للمستشارين والخبراء في الشأن الثقافي. وإن كان كل ذلك لا يعني ألا يبادر المثقفون بعرض مقترحاتهم وإبداء آرائهم فيما يُفترض أن يؤديه القطاعان. ففي المقام الأول هذا شأن ثقافي عام.
بمقدور أي قطاع من القطاعين استنساخ تجربة من تجارب صناعة الكتاب المتوفرة في جميع أنحاء العالم واعتمادها أو إعادة تكييفها كخطة محلية. وستكون بالتأكيد فاعلة وصالحة للتطبيق، فهناك تجارب لافتة ومعروفة ومضمونة كوصفة عمومية. ولكن هذا الاستجلاب السهل سيترك فراغات واسعة وفاقعة في هوية الكتاب الذي يُفترض أن يكون عنواناً لحالة وطنية غير مسبوقة. بمعنى أن يكون إنسان هذه الأرض هو الركيزة لهذا المشروع، بحيث يجد مكانه في مختلف مراحل إنتاج الكتاب، تأليفاً وترجمة وتصميماً وطباعة وتوزيعاً. وهو منحى لا يعني الانغلاق على الآخر، وعدم الاستعانة به أو التفاعل معه، بل يؤكد معنى أن يكون الحسّ الوطني في سُلم أولويات صناعة الكتاب، خصوصاً أن المهمة تأتي على إيقاع موجة وطنية قومية عالية.
وطننا يزدحم بالمتعلمين والأدباء والفنانين والأكاديميين والمترجمين والمثقفين في كل المجالات الذين ساهموا قدر استطاعتهم في التنمية الثقافية خلال العقود الماضية على الرغم من غياب التخطيط والإسناد المؤسساتي المدروس. إلا أن نسبة كبيرة من المعنيين بالشأن الثقافي لم يتمثلوا سابقاً في المشهد لأسباب مختلفة، تتراوح ما بين التهميش والتيئيس والإحساس السائد بانعدام المكانة اللائقة للكاتب، وانحسار مد القراءة بشكل يطفئ أي مراودة لتأليف الكتب. وبالتأكيد هم اليوم بحاجة إلى إشارة من الجهات الموكل إليها النهوض بالكتاب للحضور والإبداع. إذ لم يعد الجهد الفردي مقبولاً في ظل وجود هيكل مؤسساتي مسنود وزارياً، ومغطى مالياً، وفي ظل وجود تخطيط استراتيجي وجهد إداري لإبراز الوجه الثقافي للوطن من خلال الكتاب بمختلف حقوله الإبداعية.
هذا يستلزم من الدار السعودية للنشر والتوزيع، وقطاع الأدب والترجمة والنشر، العمل بشفافية ووضوح مع المثقفين ودور النشر الأهلية والإعلام وكل من له علاقة بصناعة الكتاب. وذلك من خلال عرض خططهم بشكل مرحلي لإطلاع المشهد على المنحى الذي تسير فيه خطة الوزارة بشأن الكتاب. ومن المهم ألا ينتظر مديرو النشر تواصل الكُتّاب معهم، بل ينبغي عليهم الاندفاع نحوهم وترغيبهم في التأليف، على قاعدة التكليف ضمن خطة مدروسة لاستظهار أفضل ما في هذا الوطن من العقول. وتقديم أكبر قدر من الحوافز للحد من ظاهرة النشر العابر للحدود. وكذلك الحرص على إقناع المترجمين بالاشتراك في مشاريع ترجمة ذات قيمة. وذلك بعرض مكافآت مجزية تتجاوز ما يمكن أن يحصل عليه المترجم من الناشرين. فهذه الجهات الحكومية المعنية بصناعة الكتاب ليست شركات ربحية، بقدر ما هي واجهات وطنية، تتصدى لمهمة صناعة استراتيجية لا تقل أهمية وخطورة عن مجمل الصناعات.
إن تأكيد ضرورة حضور الكادر الوطني في مهمة صناعة الكتاب يستلزم أيضاً وجود هيئات استشارية وطنية عارفة بواقع الإبداع المحلي وأحدث وأبرز المنتجات الفكرية العالمية. وهذا الكادر موجود بالفعل، إلا أنه يعاني من اليأس والتبعثر بين أروقة الجامعات ومواقع التواصل الاجتماعي والاجتهادات الفردية أو بمعزل عن سياقات الحدث الثقافي. فلدينا من العارفين بما تجب ترجمته ومن المترجمين الأكْفاء أيضاً ما يكفي لإنجاز مشروع لافت على كل المستويات، بمعدل كتاب شهري، يكون نواة لمشروع مؤسساتي أوسع وأشمل. بدل انتظار ما تجود به المراكز الثقافية العربية من ترجمات. كما يوجد من الباحثين ما يكفل لتأسيس مراكز أبحاث فكرية تنتج عنها دراسات ذات قيمة معرفية. إلى جانب ما يمكن تحشيده من الإبداع الروائي والشعري والفني وغيرها من الاشتغالات التي تشمل التراث والفلكلور والطبخ والأزياء، حيث يوجد لكل حقل خبراء يمكنهم تأطير معارفهم في كُتب.
هذا ما تستوجبه وظيفة المركز الثقافي لمغادرة الهامش، أي الإنتاج والتّماسّ مع آخِر مكتسبات صناعة الكتاب التقنية والمعرفية والتشريعية، من الإيداع الوطني، مروراً بحقوق الملكية الفردية، وصولاً إلى الكتاب الرقمي. بمعنى استدعاء جميع الفاعلين في حقل صناعة الكتاب. وهي مهمة تتطلب في المقام الأول تشخيص الوضع الذي يبدو عليه الكتاب المحلي، انطلاقاً من بؤس الحضور للكتاب العربي في التقرير السنوي لاتحاد الناشرين الدولي، ومن ضآلة الإصدارات العربية التي تسجلها تقارير التنمية الثقافية العالمية. بمعنى تفكيك الأزمة وتحليلها ضمن إطارها الأشمل. إذ لا حياة لكتاب في السعودية بمعزل عن ارتدادات الحالة العربية. وهذا يفترض إجراء دراسة ميدانية محيطة بمآزق المهمة وتحدياتها كافة. والبحث الجاد عن مديري نشر وطنيين بالدرجة الأولى، بمقدورهم إعداد الدراسات والخطط التسويقية والتوزيعية، والأهم الاهتداء إلى كُتّاب هذه الأرض، وتفعيل حضورهم الثقافي من خلال صناعة كتاب يُعتد به.
الرهان على الشكل سينفضح بسرعة تفوق أوهام الحالمين بخداع القارئ. وكذلك الرهان على الكم ولغة الأرقام المضللة. وهنا تبرز أهمية ومهمة مديري النشر الذين يشكّلون جوهر هذه المبادرة. إذ لا يكفي تحفيز الكُتّاب للالتحاق بهبّة وطنية، بل لا بد من فتح آفاق التفكير باتجاه مناطق فكرية غير مطروقة. أي تنظيم العمل بموجب سياسة مرسومة بوعي وجرأة ومسؤولية. فهذا المشهد الذي ظل لفترة مجرد غنيمة للطارئين على الثقافة يستحق اليوم أن يكون ورشة مفتوحة للإبداع، واستثمار النشاطات الحوارية كافة التي تحدث في معارض الكتاب ومهرجان الجنادرية ومركز الحوار الوطني والصالونات الأهلية، بعد ضبطها بشكل علمي وتأكيد البعد الهوياتي فيها، لتتأهل ضمن إصدارات دورية على شكل كتب أو مجلات. المهم أن تكون صناعة وطنية خالصة. محايثة لخطط التنمية الثقافية وقابلة للتصدير.
- ناقد سعودي