آندريا كاميلّيري... كتابات توغلت إلى أعماق النفس الإيطالية

كانت مشروعاته ومخططاته لا تحصى رغم أنه تجاوز التسعين

آندريا كاميلّيري
آندريا كاميلّيري
TT

آندريا كاميلّيري... كتابات توغلت إلى أعماق النفس الإيطالية

آندريا كاميلّيري
آندريا كاميلّيري

يأتيني خبر وفاة الكاتب الإيطالي «آندريا كاميلّيري» وأنا في المقلب الآخر من العالم، على مرمى حجر من السواحل الأميركية التي «غزاها» أبناء جزيرته صقلية مطالع القرن الماضي وزرعوا في خصب مجتمعها «نبتة» المافيا التي ما زالت تنمو وتزدهر في كل الفصول وكل الحقول إلى اليوم، والتي كانت محور معظم رواياته التي تزيد على المائة. يأتيني الخبر في الصباح الباكر عبر صوت صديق يعرف مدى شغفي بهذا الكاتب الذي «أدمنت» على قراءته ومتابعة أخباره منذ سنوات. يقول: «منذ ساعات الفجر الأولى تجتاح إيطاليا موجة من الحزن والحنان على رحيل الرجل الذي دخل قلوب كل الإيطاليين وتوافقت كل الآراء حول عبقريته في الدخول إلى أعماق النفس الإيطالية بريشة هي أقرب إلى ريشة الرسّام منها إلى يراع الكاتب». ويضيف صديقي بصوت يشوبه التأثر الواضح: «تصوّر أن قنوات التلفزيون الإيطالية خصصت نشراتها الإخبارية كاملة لنبأ وفاة كاميلّيري وعلّق مجلسا الشيوخ والنوّاب مناقشاتهما لثلاث دقائق وسط تصفيق متواصل تحية لذكراه».
أذكر، منذ لقائي الأخير بكاميلّيري منذ ثلاث سنوات في المقهى الذي يرتاده كل يوم على أحد أرصفة مسقط رأسه Porto Empedocle في صقلية، أنه رغم تجاوزه التسعين يومذاك وفقدانه البصر بالكامل، لم يكن يعدّ العدّة لمثل هذا الموعد. كانت مشروعاته ومخططاته لا تحصى، يواصل إملاءها على مساعدته «فالنتينيا» كل يوم في الصباح والمساء، ومن بينها إعادة كتابة مقاطع كاملة من روايات قديمة لم يكن راضياً عنها أو خطرت له أفكار جديدة بشأنها.
«الإنسان لا يملك سلاحاً يقاتل به مثل هذا الظلام» قال لي يومها عندما سألته كيف يواجه فقدانه البصر، وأضاف: «لكن منذ أن انطفأ النور من عيني صرت أرى الأشياء بمزيد من الوضوح، وأصبحت أشاهد أحلامي بالألوان الزاهية. فالبصر، مع مَرّ السنين، ينتقل إلى الحواس الأخرى. تتذكّر ما يستحق أن تستحضره الذاكرة، وكلما تقدّمت في العمر تزداد دقّة الاستحضار ووضوحه. هذا ما كان يسمّيه (ليوناردو شياشيا) ثقابة الذاكرة».
شياشيا، ملهم كاميلّيري ومعلّمه وأحد أكبر الأدباء والمفكّرين السياسيين والاجتماعيين في إيطاليا خلال القرن الماضي، كان أيضا من صقلية وكرّس حياته، الأدبية والسياسية، لإدانة الفساد السياسي وإجرام المافيا كما فعل كاميلّيري في أعماله، وخاصة في سلسلة رواياته التي تدور حول شخصيّة مفوّض في الشرطة يدعى «مونتالبانو» دخل منذ سنوات إلى بيوت الإيطاليين وقلوبهم عبر أشهر مسلسل في تاريخ التلفزيون الإيطالي، يتناولون العشاء معه ويحلمون بتلك الإيطاليا التي يعرفون أنها لن تعود. كتب كاميلّيري أعمالاً تلفزيونية ومسرحية، وكان يأمل في حضور العرض الأول لآخر مسرحياته على خشبة «حمّامات كركلّا» في الهواء الطلق هذا الشهر، لكنه أُدخِل المستشفى أواخر الشهر الماضي إثر إصابته بنوبة قلبيّة.
نشر كاميلّيري كتابه الأوّل بعنوان «مسرى الأشياء» عندما كان في الثالثة والخمسين من عمره، وفي نهاية القرن الماضي أصبح أشهر كتّاب إيطاليا وأوسعهم انتشاراً على الإطلاق. وكان يجاهر دائماً بأفكاره اليسارية وانتمائه إلى الحزب الشيوعي الذي كان أهم الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية وأصبح اليوم في طور الاندثار، ولا يفوّت مناسبة إلّا ويعرب فيها عن سخطه من السياسيين الإيطاليين وازدرائه لهم.
مطلع الشهر الماضي جلس كاميلّيري وحده على خشبة مسرح «سيراكوزا» الشهير في الهواء الطلق، مكتظّاً بجمهور معظمه من الشباب، تحت نور قمر فضّي في ليلة اجتمع ربع الطليان فيها حول شاشات التلفزيون لمشاهدة أحبّ الكتّاب إليهم يسرد حياته وخواطره في مونولوج على طريقة الحكماء الإغريقيين الذين كان مولعاً بأساطيرهم. تحدّث عن طفولته، وعن والده الذي كان فاشيا «مثل معظم الطليان»، وعن هوميروس ودانتي، وعن شياشيا الذي كشف أنه عندما حمل إليه كتابه الأول وقرأ عليه بعض مقاطعه بادره بالقول: «من هو القارئ الذي سيفهمك وأنت تكتب بهذا الأسلوب ؟!» ذلك أن كاميلّيري الذي يملك أسلوباً رفيعاً ومقدرة تعبيرية نادرة، يصرّ دائماً على استخدام مصطلحات اللغة المحكيّة في جزيرة صقلية، وغالباً ما يضيف إليها كلمات من جعبته الخاصة يقول إنها من لغة أهل «فيغاتا»، القرية التي تدور فيها أحداث روايات المفتّش مونتالبانو، والتي أصبحت أشهر بلدة في إيطاليا رغم أنها لا وجود لها إلا في خيال الكاتب.
أذكر أنه قبل أيام من دخوله المستشفى، وفي عزّ النقاش حول أزمة المهاجرين التي يوقد نارها منذ عامين ماتّيو سالفيني وزير الداخلية وزعيم حزب الرابطة اليميني المتطرف، قال كاميلّري معلّقاً على تصريحات لسالفيني: «أشعر برغبة في التقيؤ عند سماعه». لكن بالمقابل كان يغدق المديح على البابا فرنسيس ويقول عنه: «في السنوات الثلاث الأخيرة لم أسمع كلاماً عاقلاً وحسّاساً ويساريّاً كالذي سمعته عن لسان البابا في الفقر والهجرة والفوارق الاجتماعية».
يوم تجاوز كاميلّيري عتبة التسعين سلّم ناشره مخطوطات الروايات البوليسية الأخيرة التي تتضمّن نهاية المفوّض «مونتالبانو»، وطلب إليه عدم فتحها إلا بعد وفاته. وفي إحدى مقابلاته الأخيرة في أبريل (نيسان)- نيسان الفائت قال: «.. لن أفتقد شيئاً إذا جاءني الرحيل غداً، ولا أتحسّر على الماضي. في شبابي شهدت الحرب والدمار واليوم ننعم بما لم نكن حتى نحلم به في الماضي. اشتاق لبعض الناس، ولأصدقاء في صقلية. وعندما أعود إلى الجزيرة هذا الصيف، سأكون وحدي من كل أصدقاء الطفولة. ماذا سأفعل؟ سأجلس على رصيف ميناء قريتي وأتنشّق نسيم البحر».



مصر: اكتشاف مصطبة طبيب ملكي يبرز تاريخ الدولة القديمة

المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)
المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر: اكتشاف مصطبة طبيب ملكي يبرز تاريخ الدولة القديمة

المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)
المقبرة تضم رموزاً لطبيب القصر الملكي في الدولة القديمة (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت مصر، الاثنين، اكتشافاً أثرياً جديداً في منطقة سقارة (غرب القاهرة)، يتمثل في مصطبة لطبيب ملكي لدى الدولة المصرية القديمة، تحتوي نقوشاً ورسوماً «زاهية» على جدرانها، بالإضافة إلى الكثير من أدوات الطقوس والمتاع الجنائزي.

ووفق بيان وزارة السياحة والآثار، كشفت البعثة الأثرية الفرنسية - السويسرية المشتركة التي تعمل في جنوب منطقة سقارة الأثرية، وتحديداً في مقابر كبار رجال الدولة القديمة، عن مصطبة من الطوب اللبن، لها باب وهمي عليه نقوش ورسومات «متميزة»، لطبيب يُدعى «تيتي نب فو»، عاش خلال عهد الملك بيبي الثاني، ويحمل مجموعة من الألقاب المتعلقة بوظائفه الرفيعة، من بينها: «كبير أطباء القصر»، و«كاهن الإلهة سركت»، و«ساحر الإلهة سركت»، أي المتخصص في اللدغات السامة من العقارب أو الثعابين وعظيم أطباء الأسنان، ومدير النباتات الطبي.

جدران المصطبة تتضمّن نقوشاً ورموزاً جنائزية بألوانها الزاهية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ويُعد هذا الكشف إضافة مهمة إلى تاريخ المنطقة الأثرية بسقارة، ويُظهر جوانب جديدة من ثقافة الحياة اليومية في عصر الدولة القديمة من خلال النصوص والرسومات الموجودة على جدران المصطبة، وفق الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار بمصر، الدكتور محمد إسماعيل خالد.

من جانبه، أوضح رئيس البعثة، الدكتور فليب كولمبير، أن المصطبة تعرّضت للسرقة في عصور سابقة، حسب ما ترجح الدراسات الأولية، لكن الجدران ظلّت سليمة وتحمل نقوشاً محفورة ورسوماً رائعة الجمال، ونقشاً على أحد جدران المقبرة على شكل باب وهمي ملون بألوان زاهية. كما توجد مناظر للكثير من الأثاث والمتاع الجنائزي، وكذلك قائمة بأسماء القرابين، وقد طُلي سقف المقبرة باللون الأحمر تقليداً لشكل أحجار الغرانيت، وفي منتصف السقف نقش يحمل اسم وألقاب صاحب المقبرة.

رموز ورسوم لطقوس متنوعة داخل المصطبة (وزارة السياحة والآثار)

بالإضافة إلى ذلك عثرت البعثة على تابوت حجري، الجزء الداخلي منه منقوش بالكتابة الهيروغليفية يكشف اسم صاحب المقبرة.

وكانت البعثة الأثرية الفرنسية - السويسرية قد بدأت أعمال الحفائر في الجزء الخاص بمقابر موظفي الدولة، خلف المجموعة الجنائزية للملك بيبي الأول، أحد حكام الأسرة السادسة من الدولة القديمة، وتلك الخاصة بزوجاته في جنوب منطقة آثار سقارة، في عام 2022.

وكشفت البعثة قبل ذلك عن مصطبة للوزير وني، الذي اشتهر بأطول سيرة ذاتية لأحد كبار رجال الدولة القديمة، التي سُجّلت نصوصها على جدران مقبرته الثانية الموجودة في منطقة أبيدوس بسوهاج (جنوب مصر).

ويرى عالم الآثار المصري، الدكتور حسين عبد البصير، أن هذا الاكتشاف «يكشف القيمة التاريخية والأثرية لمنطقة سقارة التي كانت مركزاً مهماً للدفن خلال عصور مصر القديمة».

وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «المصطبة المكتشفة تعود إلى طبيب ملكي يحمل لقب (المشرف على الأطباء)، كان يخدم البلاط الملكي في الأسرة الخامسة (تقريباً في الفترة ما بين 2494 و2345 قبل الميلاد)، وجدران المصطبة مزينة بنقوش زاهية الألوان تجسّد مشاهد يومية وحياتية وأخرى جنائزية؛ مما يوفّر لمحة عن حياة المصريين القدماء واهتماماتهم بالموت والخلود».

ويضيف العالم المصري أن المصاطب تُعد نوعاً من المقابر الملكية والنخبوية التي ظهرت خلال بدايات عصر الأسرات الأولى، قبل ظهور الشكل الهرمي للمقابر.

المصطبة المكتشفة حديثاً في سقارة (وزارة السياحة والآثار)

وتضم النقوش داخل المصطبة صوراً للطبيب الملكي وهو يمارس مهامه الطبية، إلى جانب مناظر تعكس الحياة اليومية مثل الصيد والزراعة، ويلفت عبد البصير إلى أن «النقوش تحتفظ بجمال ألوانها المبهجة؛ مما يدل على مهارة الفنانين المصريين القدماء وتقنياتهم المتقدمة».

ويقول الدكتور حسين إن هذا الاكتشاف يعزّز فهمنا لتاريخ الدولة القديمة، ويبرز الدور المحوري الذي لعبته سقارة مركزاً دينياً وثقافياً، مؤكداً أن هذا الاكتشاف «يُسهم في جذب مزيد من الاهتمام العالمي للسياحة الثقافية في مصر، ويُعد حلقة جديدة في سلسلة الاكتشافات الأثرية التي تُعيد إحياء تاريخ مصر القديمة وتُظهر للعالم عظمة هذه الحضارة».

تجدر الإشارة إلى أن وزارة السياحة والآثار أعلنت قبل يومين اكتشاف 4 مقابر يعود تاريخها إلى أواخر عصر الأسرة الثانية وأوائل الأسرة الثالثة، في منطقة سقارة بالجيزة، وأكثر من 10 دفنات من عصر الأسرة الـ18 من الدولة الحديثة.