الشعبوية في أوروبا وخطر الربط بين الهجرة والتراجع الاقتصادي

رئيس الوزراء الإيطالي سابقاً والنائب الأوروبي حالياً سيلفيو برلوسكوني (إ.ب.أ)
رئيس الوزراء الإيطالي سابقاً والنائب الأوروبي حالياً سيلفيو برلوسكوني (إ.ب.أ)
TT

الشعبوية في أوروبا وخطر الربط بين الهجرة والتراجع الاقتصادي

رئيس الوزراء الإيطالي سابقاً والنائب الأوروبي حالياً سيلفيو برلوسكوني (إ.ب.أ)
رئيس الوزراء الإيطالي سابقاً والنائب الأوروبي حالياً سيلفيو برلوسكوني (إ.ب.أ)

لئن فقدت أوروبا الكثير من قوتها العسكرية والاقتصادية وبالتالي السياسية بعد حربين عالميتين طاحنتين شهدهما القرن العشرون، فإنها لم تفقد مكانتها الفكرية ودورها كبوتقة لأفكار الحداثة والتجديد المستمدة من الماضي المديد والتاريخ العريق. وهي بالتالي لم تفقد دورها كبوصلة للمجتمعات ونموذج للدولة بمعناها القانوني والمؤسساتي.
إلا أن القارة القديمة بدأت تُظهر أعراض الإصابة بـ «مرض» الشعبوية، بدليل ما تبدّى في الانتخابات وتركيبة السلطة في عدد من الدول، كإيطاليا والنمسا والمجر والسويد، وما أسفرت عنه انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً. وليس سراً أن الشعبوية إذا تقدّمت إلى الواجهة و«قبضت» على السلطة تسبب كوارث...

«الشعب» و«النخبة»
يمكن تعريف الشعبوية بأنها مجموعة من المواقف السياسية التي ترتكز على فكرة «الشعب» وغالباً ما تضع الأخير في خانة، و«النخبة» في خانة أخرى. بمعنى آخر، الشعبوية هي أيديولوجيا تقدم «الشعب» كقوة خيّرة وتصوّر «النخبة» على أنها فئة الفاسدين والباحثين عن مصالحهم الشخصية دائماً.
وُلد مصطلح الشعبوية في القرن التاسع عشر وأطلقه «الآخرون» على أحزاب وقوى وشخصيات، بمعنى أن المعنيّين نادراً ما يصفون أنفسهم بأنهم شعبويون. واستُخدم هذا التعبير أيضاً في إطار الحديث عن حزب الشعب الذي أُنشئ في الولايات المتحدة عام 1892 وانهار عام 1909.
في العام 1954، نشر عالم الاجتماع الأميركي إدوارد شيلز بحثاً استخدم فيه الشعبوية كمصطلح لوصف الاتجاهات المعادية للنخب في المجتمع الأميركي بالمعنى الواسع. وقد انتشرت الكلمة بعد ذلك من دون الاتفاق على معنى محدد لها، وهو أمر متوقع لأن أي مفهوم سياسي يجري النظر إليه وتفسيره بطرق ذاتية وغير موضوعية غالباً. إلا أن المؤكد، أن كل جهة سياسية شعبوية يقف على رأسها زعيم يتمتع بالكاريزما، ويحسن مخاطبة الناس وإثارة حماستهم و«استنفارهم» ودغدغة مشاعرهم بتقديم الحلول التي تبدو بسيطة وسهلة لمشكلات معقّدة.
ولا بد من الإشارة إلى أن «النخبة» كما يراها الشعبويون لا تقتصر على السياسة وأهلها، بل تشمل النخب الاقتصادية والثقافية والإعلامية باعتبارها مجموعة واحدة متجانسة وفاسدة. وفي الدول الديمقراطية، يدين الشعبويون الأحزاب السياسية المهيمنة ويضعونها في خانة «النخبة»، بيد أنهم لا يرفضون النظام السياسي الحزبي، بل يقدمون أحزابهم على أنها مختلفة عن الأحزاب الأخرى.
واليوم عشية مرور 75 سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية التي كان «بطلها» الشعبوي أدولف هتلر، والتي سببت أهوالاً كبيرة خصوصاً في أوروبا، نرى الشعبويين يعودون بقوة إلى الساحة.
ولعلّ الرائد في هذا المجال هو الإيطالي سيلفيو برلوسكوني الذي كان رئيس الوزراء في إيطاليا أربع مرات، وطبع السياسة الإيطالية بطابعه سنوات طويلة، وهو الآن عضو في البرلمان الأوروبي الجديد من غير أن يثنيه عن خوض الانتخابات بلوغه عامه الثاني والثمانين. فهذا الرجل الملقّب بـ «كافالييري»، أو الفارس، دخل عالم السياسة في تسعينات القرن الماضي من بابين: عالم الأعمال عبر شركتيه فينينفيست وميدياسيت، وعالم كرة القدم عبر امتلاكه نادي آ سي ميلان سنوات عدة قبل بيع حصصه فيه عام 2016.
ضرب برلوسكوني ضربته في وقت كانت السياسة الإيطالية تعاني حالاً من انعدام الوزن، مع ترنّح الحزبين التقليديين اللذين تناوبا طويلا على تولي الحكم، أي الديمقراطي المسيحي والاشتراكي، تحت ضربات سوء الإدارة والفساد. فجاء الرجل المولود في ميلانو عام 1936، بكلام جديد، وبث روح الحماسة في نفوس الإيطاليين، مقنعاً إياهم بإمكان استعادة أمجاد الماضي وتحقيق الازدهار والعظمة...
هكذا ضمنَ برلوسكوني شعبية واسعة لحزبه «فورتسا إيطاليا»، وحكم طويلاً رغم ارتكابه سلسلة من الأخطاء والفضائح. والواقع أن الائتلاف الحاكم حالياً في إيطاليا وعماده حزب الرابطة وحركة الخمس نجوم هو امتداد للمدرسة البرلوسكونية، لكن مع جرعة إضافية من الشعبوية، بل والتطرّف.

تاريخ الشعبوية في أوروبا
بصرف النظر عن الشعبوية كمصطلح، مورست هذه السياسة في أوروبا في العصور اليونانية والرومانية اليونانية. وعلى سبيل المثال، عكست معارضة الجنرال والسياسي بوبليوس كلاوديوس للنبلاء الرومان أواخر الجمهورية الرومانية الطريقة التي يؤثر بها الخطاب الشعبوي في الجمهور.
ومع مرور القرون والأزمنة، عرف العالم الكثير من القادة الشعبويين من يمين السياسة ويسارها. إلا أن الحرب العالمية الثانية أحدثت تحولاً جذرياً في بنية السياسة الأوروبية تحديداً، ذلك أن النموذج الاقتصادي الجديد الذي فرضته الآثار المدمّرة للحرب، وولادة دولة الرعاية بمعناها الحقيقي، عزّزا الديمقراطية والتسامح وقبول الآخر، وبالتالي لم يعد ثمة مساحة كبيرة للخطاب الشعبوي الناري والمتطرف، أقلّه في أوروبا الغربية حيث نشأت فكرة الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الانفتاح الكبير والليبرالية الواسعة في أوروبا الغربية كانا في الواقع بداية تراجع مناخ الاستقرار، فكان انضمام عدد من دول أوروبا الشرقية الفقيرة إلى التكتل وهجرة عدد وافر من مواطنيها إلى الشطر الغربي من القارة، ثم توالي موجات الهجرة من افريقيا والشرق الأوسط إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، وراء الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية التي مهّدت الطريق لتغيّر المشهد السياسي، فخرج المتطرفون من غياهب الهامشية إلى صلب الساحة، وكانت المراكز المتقدمة من نصيب الأحزاب والقوى التي يقف على رأسها شعبويون بارعون، من أمثال ماتيو سالفيني في إيطاليا، وفيكتور أوربان في المجر، ومارين لوبن في فرنسا، وياروسلاف ماتشينسكي في بولندا...

آفاق واحتمالات
لا بد من القول إن الواقع الحالي ينبئ باحتمالات متضاربة، وربما متكافئة. فالقوى الشعبوية في صعود، لكن ليس بالشكل الذي تخوف البعض منه. وربما كان السبّاق في هذا التخوّف هيرمان فان رومبوي رئيس الوزراء البلجيكي بين 2008 و2009 ورئيس المجلس الأوروبي بين 2009 و2014. فقد قال عام 2010 إن «الشعبوية هي أكبر خطر يهدّد أوروبا»، من غير أن يفرّق بين يمين ويسار.
وجاءت انتخابات البرلمان الأوروبي أخيراً لتثبت صعود القوى الشعبوية، إنما ليس بصورة كاسحة تغيّر المشهد السياسي تغييراً جذرياً. لكن حضورها الحالي يطرح سؤالاً بالغ الأهمية: هل إن القوى الشعبوية المتطرّفة ضيف ظرفي سيرحل قريباً، أم انها باتت من ثوابت المعادلات السياسية في أوروبا؟
الجواب مرهون بعوامل عدة أخرى أهمها إثنان، الأول مرتبط بما يجري خارج القارة، وتحديدا بموجات الهجرة التي لا تزال مستمرة والتي يسبب أسلوب التعامل معها خلافات بين دول الاتحاد الأوروبي. فإذا تعاظمت مشكلة الهجرة وتفاقمت آثارها الاقتصادية والاجتماعية، سيزداد خصب التربة التي تنمو فيها الشعبوية.
أما العامل الثاني فهو الوضع الاقتصادي، بمعنى أن ضعف النمو وارتفاع معدلات البطالة واحتمال حصول أزمة كبيرة كأزمة 2008 – 2009، ستضعف حتماً القوى السياسية التقليدية لمصلحة الأصوات الشعبوية الصارخة. أما إذا استقر الاقتصاد وتعزز النمو وازدادت فرص العمل، فسينحسر الخطاب الشعبوي لأنه سيفقد مبرراته و«عيدان الثقاب» التي يشعل بها مشاعر الجماهير.
إلا أن الآفاق الاقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي لا تبدو مشجعة على الإطلاق، فنسب النمو في التكتل ككلّ تدور حول 1.5 في المائة هذه السنة والسنة المقبلة. يضاف إلى ذلك أن الحروب التجارية على المستوى العالمي والتداعيات الغامضة لخروج بريطانيا من الاتحاد، تزيد تلبّد الغيوم الرمادية في سماء الاقتصاد الأوروبي.
ولا شك في أن المشكلة تعظم في عقول الناس، متى تم الربط بين التعثر الاقتصادي ووجود المهاجرين... وهذا هو المعين الذي يغرف منه أبطال الشعبوية والوتر الذي يعزفون عليه. لذا على القادة الأوروبيين المتعقّلين إيجاد حلول للأزمات الاقتصادية قبل أن تتفاقم ويصبح حقيقياً خطر تفكك الاتحاد، مع ما لذلك من تداعيات وآثار على مستوى العالم كلّه.



العالم يخسر المعركة ضد الجريمة المنظمة

تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
TT

العالم يخسر المعركة ضد الجريمة المنظمة

تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)
تتلقى امرأة المساعدة عندما أحرق مدنيون غاضبون جثث أفراد عصابة مشتبه بهم في هايتي (رويترز)

بينما يشهد العالم ركوداً في التجارة العالمية وتراجع الاستثمارات عبر الحدود، هناك استثناء صارخ لهذه الفوضى الاقتصادية: العصابات الدولية والجريمة المنظمة التي تشهد ازدهاراً غير مسبوق، مستغلة التكنولوجيا الحديثة وانتشار المخدرات الصناعية لتوسيع نفوذها عالمياً. وفقاً لتقرير لمجلة «إيكونوميست».

الجريمة المنظمة تنمو بمعدلات قياسية

يورغن ستوك، الذي أنهى مؤخراً فترة عمله أمينا عاما لـ«الإنتربول»، أكد أن العالم يشهد نمواً غير مسبوق في احترافية واتساع نطاق الجريمة المنظمة. وبينما أظهرت الإحصائيات انخفاضاً عالمياً في معدلات جرائم القتل بنسبة 25 في المائة منذ بداية القرن، تحذر منظمات دولية من ارتفاع هائل في أنشطة العصابات التي تتجاوز الحدود الوطنية لتتحول إلى شبكات عالمية متعددة الأنشطة.

التكنولوجيا: سلاح جديد في يد العصابات

أسهمت التقنيات الحديثة، مثل التطبيقات المشفرة والعملات الرقمية، في تسهيل عمليات الاتصال ونقل الأموال بين العصابات دون ترك أي أثر. الإنترنت المظلم بات سوقاً مفتوحاً لتجارة البضائع الممنوعة، بينما ظهرت الجرائم الإلكترونية كمجال جديد يدر أرباحاً بمليارات الدولارات.

تقديرات تشير إلى أن عائدات الاحتيال والسرقات الرقمية بلغت 7.6 مليار دولار في عام 2023، في وقت يستغل فيه المجرمون أدوات الذكاء الاصطناعي لابتكار طرق جديدة للاحتيال.

يحمل الناس أمتعتهم أثناء فرارهم من حيهم بعد هجمات العصابات التي أثارت رد فعل مدنياً عنيفاً في بورت أو برنس بهايتي (رويترز)

المخدرات الصناعية تغير قواعد اللعبة

مع التحول إلى المخدرات المصنعة كالميثامفيتامين والفنتانيل، أصبحت العصابات أقل اعتماداً على مناطق زراعة النباتات المخدرة مثل الكوكا أو الأفيون. هذه المخدرات، الأرخص والأقوى تأثيراً، ساهمت في توسيع نشاط العصابات إلى أسواق جديدة، خصوصاً في جنوب شرق آسيا، حيث زادت المصادرات بأربعة أضعاف بين 2013 و2022.

تنويع الأنشطة والانتشار الجغرافي

لم تعد العصابات تقتصر على نشاط واحد؛ فهي الآن تجمع بين تجارة المخدرات، الاتجار بالبشر، القرصنة الرقمية، وحتى تهريب الأحياء البرية. على سبيل المثال، أصبحت عصابات ألبانيا لاعباً رئيسياً في سوق الكوكايين بالإكوادور، بينما تستغل عصابة «ترين دي أراجوا».الفنزويلية أزمة اللاجئين لتعزيز أرباحها من تهريب البشر.

يستجوب السكان شخصاً ليس من الحي بعد محاولة هجوم ليلي شنتها عصابات على ضاحية بيتيون فيل الثرية ما أثار استجابة مدنية عنيفة في بورت أو برنس بهايتي (رويترز)

العصابات والسياسة: تأثير متصاعد

امتدت أيدي العصابات إلى التأثير على السياسة في بعض الدول. ففي الإكوادور، اغتيل مرشح رئاسي على يد أفراد يُعتقد ارتباطهم بعصابات كولومبية، بينما شهدت المكسيك مقتل عشرات المرشحين السياسيين في الانتخابات الأخيرة.

العالم في مواجهة تحدٍّ عالمي

على الرغم من النجاحات الفردية لبعض الدول في مكافحة الجريمة، يبقى التعاون الدولي في مواجهة العصابات محدوداً مقارنة بتوسعها السريع عبر الحدود. خبراء يؤكدون أن النهج التقليدي لإنفاذ القانون يحتاج إلى تحديث جذري لمواكبة التحديات التي تفرضها الجريمة المنظمة في عصر العولمة.