لم يغادر الشعر موقعه في حياتنا، رغم مزاحمة فنون أخرى له، حاولت أن تنفرد بالمشهد. هذا على الأقل ما يقوله الشعراء المشاركون في هذا التحقيق، الذين يروون أن هناك «حراكاً قوياً للشعر»، مقابل إحجام قسم كبير من دور النشر عن طبع المجموعات الشعرية، لأنها «لا تبيع». ما حقيقة الأمر؟ هل هناك «حملة ضد الشعر يقوها كثيرون، منهم نقاد وناشرون وصانعو جوائز»؟
هنا آراء عدد من الشعراء المصريين:
- أمجد ريان: زمن تعدد الفنون الأدبية
في مراحل سابقة، كان الناشر مفكراً، وكان صاحب دور ثقافي مهم، وصاحب أهداف ثقافية يسعى لنشرها وإيصالها للناس، بل كان يناضل من أجل ذلك. ولكن المسألة اليوم انهارت انهياراً مريعاً، وأصبح بعض الناشرين تجاراً، يحسبون بدقة ما يمكن أن يجنونه من أرباح مادية سريعة تعود عليهم من نشر الكتاب، بل أصبح بعض الناشرين يطلبون من الشاعر مبالغ أكبر من تكلفة الكتاب، حتى يضمنوا مكسبهم قبل عملية البيع، أو كما يقولون «دوشة» البيع. ليس هذا فحسب، بل رأيت بعيني رأسي كيف يأخذ ناشر مبلغاً يساوي أضعاف التكلفة من شاعر يعمل في بلد عربي أو خليجي، أو يحسب الخدمات التي يمكن أن يقدمها شاعر يعمل في منصب كبير في مقابل نشر الكتاب، وأيضاً رأيت ناشراً بعد أن أخذ أضعاف التكلفة الفعلية، سأل الشاعر عن مهنته، فقال له إنه من عائلة تتاجر في البلح والتمور، فاشترط عليه في زيارته القادمة أن يحضر معه «شوال بلح»، فوافق الشاعر، إما عن طيب خاطر أو مضطراً، لأنه متلهف على نشر ديوانه!
ورأيت وتعجبت كيف أن ناشراً أخذ من كاتبة أكثر من التكلفة مقدماً، وأعطاها 25 نسخة من كتابها، وزعتها على الأصدقاء، وعادت للناشر مرة أخرى مضطرة، لأنها تحتاج إلى 100 نسخة إضافية، فباعها لها بمبلغ أكبر بكثير من التكلفة الحقيقية للنسخ... وهكذا.
هناك قضية كبيرة تخص هذا الموضوع، وهي أن شعراء من حقبة السبعينات في القرن الماضي كتبوا القصيدة التي تعتمد على المجازات والاستعارات المركبة، وصارت القصيدة صعبة في تلقيها، مما جعل قسماً كبيراً من الجمهور يهرب من فن الشعر لصعوبته آنذاك... ولكن الحال تغير الآن تغيراً جذرياً، وهناك أعداد كبيرة جداً من كتاب الشعر وقرائه، وأعداد من القراء بشكل عام لا يستغنون عن قراءة الشعر. ولا أوافق الرأي الذي يقول إننا صرنا في زمن الرواية، وهو الرأي الذي تحمس له عدد من النقاد، وعلى رأسهم د. جابر عصفور الذي كتب عدداً كبيراً من المقالات حول هذه المسألة، ونظّر لها بحماسة منقطعة النظير. وأعتقد أننا الآن في زمن تتعدد فيه الفنون الأدبية التي يتعامل معها جمهور القراء، ومن الصعب أن يتفوق فن أدبي على غيره لأن الفنون الأدبية تشبع مجموعة مختلفة من الحاجات الجمالية الضرورية بكليتها لدى الناس.
- محمد أبو زيد: إنه زمن الشعر
لا يكتب الشاعر لأنه ينتظر النشر، ولا بحثاً عن جائزة، ولا انتظاراً لمجد مالي، رغم أهمية كل هذا كداعم نفسي له؛ هو يكتب ببساطة لأنه لا يستطيع أن يحيا دون الشعر، لأن الشعر يسري منه مسرى الدم في العروق، هو دافع للحياة، ومُفسّر لها، وطارح لأسئلتها، ومسبب لدهشتها، ومعين على احتمالها. الشعر يكتب لذاته، وليس لأي شيء آخر، ولذا كنت أرى الكلام الذي يقال دائماً عن الشعراء الذين تحولوا للرواية، وأنهم فعلوا ذلك بحثاً عن الجوائز، مسيئاً لهم، لأن «الكتابة» ليست تجارة، ولأن الشعر لا «يُهجر»، بل الشعر هو من يفعل ذلك. قد يجد الكاتب في الرواية طريقاً لمشروع داخله، لكنه لا يفعل ذلك لأن «الرواية» تربح والشعر يخسر. أو هكذا أتخيل كيف تسير الأمور لدى جميع من مسّه وميض البرق الذي اسمه الشعر، كما عرّفه جبران. وكان بورخيس يقول: «إذا قُرئ النص كأنه يخاطب العقل فهو نثر، ويكون شعراً إذا قُرئ كأنه يخاطب الخيال». والحملة التي قادها كثيرون، منهم نقاد وناشرون وصانعو جوائز، ضد الشعر، تحت عنوان «زمن الرواية»، ليست محاولة لاغتيال الشعر فحسب، بل اغتيال الخيال إذا طبقنا مقولة بورخيس. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تغتال الخيال، حتى لو قال الناشرون إن الشعر لا يبيع، وحتى لو قال النقاد إن هذا ليس زمن الشعر، وحتى لو هجر البعض الشعر إلى الرواية، وحتى لو هاجمت المناهج التعليمية في المدارس الشعر. لا يمكن أن يموت الخيال لأنه لا حياة بلا خيال. الخيال يمنحنا حياة ثانية وثالثة وعاشرة تعيننا على احتمال واقعنا المأساوي.
ويتابع صاحب «سوداء وجميلة»: ما أكده الزمن - والزمن هو أكبر مصفاة - أن الشعر لا يموت، الشعر بالأساس ليس في معركة مع الرواية، من ينتصر فيها يتم تنصيبه ملكاً، لأن الشعر خارج المقارنة مع أي صنف آخر. الشعر أسمى من كل صنوف الكتابة الأخرى لأنه ينطلق من مستوى وعي وكتابة مختلفين، ويتوجه إلى قارئ مختلف بالأساس.
ربما أثرت الحملات السابقة على وجود الشعر في المكتبات، لكنه باقٍ في صدور الشعراء، وقد وجد فرصته التي أتاحها له ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبح الشعراء يملأون حوائطهم بمئات آلاف القصائد، كأنهم يتحدون من استبعدهم، كأنهم يعلنون الحرب، دفاعاً عن الخيال والحيوات التي سعى البعض لوأدها. لم يعد الشعراء ينتظرون موافقة مسؤول صفحة أدبية في صحيفة محدودة التوزيع على نشر قصائدهم، أو انتظار دورهم الذي لا يجيء في مجلات تتكبر عليهم، لأن المواقع الإلكترونية الكثيرة التي أصبحت تحتفي بالشعر، ومواقع التواصل الاجتماعي، أغنتهم عن ذلك. لم يعودوا يحتاجون إلى موافقة دور النشر الخاصة على نشر دواوينهم، فبعضهم صار ينشر دواوينه إلكترونياً، لا ينتظرون جوائز من مؤسسات ثقافية غير معنية بالشعر، فجائزتهم الحقيقية هي أن يُقرأوا، وهو ما صار يحدث بالفعل.
أعتقد أن الشعر تجاوز عثراته التي وضعها أمامه نقاد وناشرون ومسؤولون، وصار يعرف طريقه جيداً، والدليل عشرات، بل مئات، الشعراء الذين أصبحنا نقرأ لهم يومياً. كانوا يقولون إنه زمن الرواية، لكني أقول إنه زمن الشعر.
- نجاة علي: التجارة... والشعر
إن الحس التجاري يقف كثيراً حاجزاً أمام نشر الشعر، باعتباره مادة أدبية غير قادرة على تحقيق مبيعات كالتي تحققها الرواية مثلاً، وكذلك كتب الشعر المترجم، في مقابل الروايات المترجمة. فهناك هُوة بين الانتعاش في كتابة الشعر من جهة، وبين ما ينشر حقاً. وأتذكر في هذا الصدد الدور الراقي الذي كانت تقوم به دار «شرقيات» في دعم الشعر في التسعينات. ولكن في ظل عزوف دور النشر الخاصة حالياً عن النشر، فإن الدور الأكبر يكون لدور النشر الحكومية التي بالفعل تقوم بدور جيدـ خصوصاً أنها لا تبحث عن الربح، على حد تعبيرها.
لقد ارتبطت الرواية بسياق، ربما لم يتح للشعر، جعل من نشرها أولية للجوائز الأدبية المتاحة، وظواهر مروجة كـ«البست سيللر»، وهو ما لا يتاح للشعر. ومع ذلك، أتصور أن الشعر يستعيد دوره، لأنه في النهاية الألوان الأدبية تتأثر بتغير موجات التلقي، والشاعر الحقيقي يكتب الشعر بعيداً عن كل تلك الحسابات.
- عبير عبد العزيز: دعم الشعر
نشر الشعر يعاني من أزمات في العالم كله، لي أصدقاء من فرنسا يواجهون مشكلة نشر الشعر، وربما يميل الناشرون لطباعة 300 نسخة تجريبية للشاعر، ولا يطبعون نسخاً أكثر إلا للشعراء الكبار المعروفين. أما في مجتمعاتنا، فلا يمكن قراءة مشهد نشر الشعر إلا برؤية أوسع للمحيط المجتمعي الذي يحيا فيه. نحن نعيش أزمة ثقافية بشكل عام، الشعر عادة ما ارتبط صعوده بصعود مستوى التلقي والتأمل، ورغم أن هناك حراكاً كبيراً في قصيدة النثر، ألاحظه حتى بين أجيال أحدث، وألاحظ به تماساً أعلى مع الذات، وشجاعة، مما يجعل هناك تجارب ناضجة جداً. وقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تقديم شعراء كثيرين، وكذلك المجلات والمواقع الإلكترونية، بسبب ضعف حركة النشر. كما أصبح هناك من يلجأون لوسيط إلكتروني صوتي لإلقاء قصائدهم، كما يتيح «ساوند كلاود»، وهذا كله حراك مطلوب، فالقضية في الشعر هي مخاطبة الجمهور قبل بحث أزمة الشعر، فالناشر مهما كان مستنيراً ينتظر الربح، مما يجعله يسأل نفسه عن الجمهور المحتمل لشراء الديوان، بعكس الرواية التي لها جمهور كبير، لذلك عندما أسست مبادرة «ادعم شعر»، كنت أنظر للأمر باعتباره مشروعاً لدعم الشعر، وليس مشروعاً لدعم النشر، وكنت أتمنى أن أجد تكاتفاً أكبر من الشعراء لتحقيق حلم ازدهار الشعر من جديد في المجتمع، فمن خلال تلك المبادرة كنت أزور مدارس لأتحدث للطلاب، خصوصاً في المرحلة الثانوية، عن الشعر، وكنت أخرج مصدومة من شعوري بأن الشعر غير محبوب بسبب انطباعاتهم عن النصوص المقررة عليهم، وهي قديمة وغير جذابة بالنسبة لهم.
الشعراء محبطون، ولديهم مشكلاتهم الخاصة، ولكنني مؤمنة أنه لو توحدت جهود عدد من الشعراء الجادين في تبني مشروع لمخاطبة الجمهور بالشعر، سيستطيع هذا الحراك أن يجذب الجمهور، ثم سيجذب هذا الجمهور موجة ثانية من التأثير، أو التي يطلق عليها التفاعل بالعدوى. لقد مللنا من التحدث إلى أنفسنا في قاعات الندوات والأمسيات وحفلات التوقيع المحدودة، وقد قمت من قبل وعدد من الشاعرات بعمل أمسيات شعرية في بعض المراكز والمكتبات الحديثة، وكنا نلمس أثراً طيباً، فالشعر ينطق، وله روح يجب أن تُحلق، وعندما يشعر الناشر ويدرك أن الجمهور بدأ يألف الشعر الراقي، وتتسع دائرته، ربما يتحمس للنشر.
هل هناك مؤامرة ضد الشعر؟
شعراء ونقاد مصريون: نفتقد الناشر المثقف صاحب الدور الثقافي
هل هناك مؤامرة ضد الشعر؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة