دور مثير لمانديلا في فوز جنوب أفريقيا بكأس الأمم

بالنسبة للمدير الفني كليف باركر، جاء فوز جنوب أفريقيا أمام الكاميرون في المباراة الافتتاحية لجنوب أفريقيا لبطولة كأس الأمم الأفريقية عام 1996 ليثير شعوراً كبيراً بالارتياح.
قبل ستة أشهر من ذلك الحدث شاهد باركر، لاعب الرغبي جويل سترانسكي يحرز هدفاً مميزاً من كرة أسقطها داخل منطقة المرمى على أرض استاد إليس بارك، وبعدها شعر المدرب بأن منتخب جنوب أفريقيا لكرة القدم قد تلقى شحنة معنوية قوية.
ونجح منتخب الرغبي لجنوب أفريقيا في تحويل استضافته البطولة إلى استعراض مستمر لمهارته وتألقه. وكان السؤال: هل بمقدور منتخب كرة القدم إنجاز المثل؟ ولم تكن الضغوط على عاتق فريق كرة القدم واضحة، وإنما جاء الجزء الأكبر منها في صورة تلميحات قوية، مثلما شعر باركر في أحد أيام العطلات الأسبوعية في مدينة دربان قبل انطلاق بطولة كأس الأمم الأفريقية عندما أخبرته ابنة شقيقه، سوزي، وكانت حينها في الـ8 من عمرها، أن لديه اتصالاً هاتفياً. وقالت الفتاة: «إنه نيلسون مانديلا ويقول إنه يرغب في الحديث إليك».
على امتداد الشهور التالية، تواصل رئيس جنوب أفريقيا بانتظام مع باركر وأفراد الفريق، وحرص على تحفيزهم بعيداً عن الأضواء، بينما في العلن شرع في جهوده لبناء الدولة. وقال باركر عن تلك الفترة: «أضاف مزيداً من الضغوط على عاتقنا لأنه حرص على توصيل رسالة محددة لنا مفادها: (لقد رأيتم ما حدث مع منتخب الرغبي)، لكنه كان رائعاً في تعامله مع اللاعبين، وحرص دائماً على الاستفسار عن أسر اللاعبين وكان ودوداً للغاية في اختلاطه بهم. وفي بعض الأحيان، كان يأتي بأحفاده إلى الفندق. في الواقع، ترك تأثيراً كبيراً علينا».
وأثناء الكلمة التي ألقاها ليعلن من خلال انطلاق فعاليات البطولة، تحدث مانديلا عن «أفريقيا الصاعدة». وكان تعبيراً موفقاً، فقد نجحت الكاميرون في تحقيق إنجاز تاريخي بوصولها دور ربع النهائي ببطولة كأس العالم عام 1990. بينما قدمت نيجيريا أداءً أثار الاهتمام وخطف القلوب في ثاني بطولة لكأس العالم خلال التسعينيات، وقبل انطلاق بطولة كأس الأمم الأفريقية لعام 1996 بثلاثة أسابيع، حصل لاعب دولي أفريقي للمرة الأولى على جائزة «الكرة الذهبية»، وهو أعلى تكريم فردي بمجال كرة القدم، وكان من نصيب الليبيري جورج ويا، لاعب ميلان الإيطالي. وقد وصل ويا مطار دربان قبل المباراة الأولى لليبيريا تحيطه هالة ملكية، وبدا وكأنه يشعر بأحقيته في اقتناص البطولة. جدير بالذكر أن أفضل لاعب في العالم اعتاد تمويل الرحلات الجوية والإقامة في الفنادق والتجهيزات والمعدات الخاصة بمنتخب بلاده التي كانت تعاني أزمة مالية حادة، علاوة على تسجيله الأهداف، وقد أحرز وحده نسبة كبيرة من مجمل أهداف المنتخب.
في تلك الأثناء، استقبل بورت إليزابيث منتخب غانا المتألق بقيادة عبيدي بيليه، صانع الألعاب والفائز سابقاً ببطولة دوري أبطال أوروبا مع نادي مرسيليا. ومن بين أبرز المشاركين في البطولة، كان توني ييبواه الذي قدم أداءً قوياً وأهداف مذهلة من على مسافات بعيدة مع ليدز يونايتد، بدرجة جعلت فيل ماسينغا بمثابة بديل له داخل النادي.
وقد تبادل ييبواه ولوكاس راديبي وماسينغا ـ ثلاثي ليدز يونايتد ـ الكثير من الحديث حول البطولة خلال الفترة السابقة مباشرة لانطلاقها. ومع هذا، فإنه مع اقتراب أعياد الكريمساس، بدا واضحاً أنه من غير المحتمل أن يشارك الثلاثة جميعاً بالبطولة. كان راديبي قد تعرض لإصابة خطيرة في ركبته. وفي أواخر مارس 1995، خضع لجراحة في الرباط الصليبي، ولم يبدأ في الشعور ببعض التعافي سوى بحلول ديسمبر (كانون الأول). أما باركر، فقد تعرض لسلسة من الاستدعاءات الموجزة والمكدرة من جانب هوارد ويلكنسون، مدرب ليدز الناجح والعنيد. في النهاية، اضطر راديبي شخصياً للتدخل في هذا الصراع العنيف، وشرح لويلكنسون أن المشاركة في منتخب جنوب أفريقيا أمر يتعلق بالقلب، وأن استضافة بطولة كأس الأمم الأفريقية حدث تاريخي لا يمكن تفويته.
أثناء المباراة الافتتاحية أمام الكاميرون، جلس راديبي في المدرجات داخل استاد سوكر سيتي. وبعد أسبوع، قطع خطوة كبرى بمشاركته في آخر 13 دقيقة كلاعب بديل في المباراة التالية بدور المجموعات، أمام أنغولا. ونجح مارك ويليامز، الذي لطالما اشتهر بنجاحه في اختراق منطقة جزاء الخصم، في تسجيل هدف التقدم لمنتخب جنوب أفريقيا لتصبح النتيجة 1 - 0. ونزل راديبي أرض الملعب لضمان الحفاظ على النتيجة، واختبار ركبته.
كانت تلك بمثابة أنباء سارة لمنتخب جنوب أفريقيا الذي ربما كان سيبدأ في التخطيط لركلات الترجيح لولا الهدف. وبعد أسبوعين من تجاوز عقبة الكاميرون، وقفت جنوب أفريقيا في مواجهة الجزائر للتنافس على مكان في دور الأربعة على أرض سوكر سيتي. واحتسب الحكم ركلة جزاء لصالح دكتور كومالو خلال الشوط الأول، لكن تصدى لها حارس المرمى في وقت كانت المباراة قد بدأت لتوها في التحرك نحو بعض الهدوء. ولحسن الحظ، نجح منتخب جنوب أفريقيا في التقدم بهدف قبل 18 دقيقة فقط من النهاية، إلا أن منتخب الجزائر نجح في تسجيل هدف التعادل إثر ركلة ركنية بالملعب. ومع ذلك، سرعان ما حسم جون موشويو الفوز بإحرازه هدفاً من تسديدة صاروخية من خارج منطقة جزاء المنتخب الجزائري، لتصبح النتيجة 2 - 1 لصالح الفريق المضيف وتشتعل مدرجات سوكر سيتي بصيحات الفوز والفرحة.
ومع ذلك، شهدت المباراة انتكاسة كبيرة بحصول ماسينغا على إنذار، مما يعني عدم مشاركته في مباراة قبل النهائي التي كانت غانا في طريقها إليها، بعد فوزها على زائير في بورت إليزابيث، بفضل هدف أحرزه ييبواه. ونجح اللاعب صاحب أكبر عدد من الأهداف في الدوري الألماني الممتاز، والذي سجل 22 هدفاً في الدوري الإنجليزي الممتاز في غضون أقل عن عام منذ انتقاله إلى ليدز يونايتد، في نقل مستوى أدائه على مستوى النادي إلى بطولة كأس الأمم الأفريقية.
وتميز ييبواه بمجموعة واسعة من المهارات جعلت من المنطقي تخصيص لاعب لمراقبته داخل الملعب. ومع اصطفاف لاعبي الفريقين، قدم ييبواه التحية لزميله في ليدز يونايتد راديبي وقال الأخير: «على مهلك. أتمنى ألا تصيبني في ركبتي من جديد».
وبذلك انطلقت المبارزة الثنائية بين النجمين، والتي شكلت محور مواجهة دور ما قبل النهائي. وجاءت الهجمة الأولى لييبواه لكنه سدد الكرة بضعف شديد في مواجهة حارس المرمى أندريه أريندسي، لتبلغ قلوب جماهير جنوب أفريقيا الحناجر من الخوف في المدرجات. لكن فيما تبقى من المباراة كان في مراقبة راديبي لييبواه نموذج يدرس.
على الطرف الآخر من الملعب، صعدت جنوب أفريقيا من وتيرة أدائها وجاءت أولى خطواتها نحو دور النهائي لافتة عبر كرة عالية سكنت شباك منتخب غانا. وفي أعقاب بداية الشوط الثاني بفترة وجيزة، سجل شون بارتليت، الذي شارك بديلاً عن ماسينغا، هدفاً شكل اللمسة الأخيرة على كرة أطلقها راديبي ليتقدم منتخب جنوب أفريقيا بهدفين. وسجل موشويو هدفاً آخر لتنتهي المباراة بفوز جنوب أفريقيا بنتيجة 3 - 0.
الآن، أصبحت جنوب أفريقيا في طريقها نحو مواجهة تونس التي نجحت في الزحف إلى دور النهائي بهدوء دون أن يلحظها أحد تقريباً. كانت تونس قد خسرت في دور المجموعات أمام غانا، ثم تجاوزت الغابون بصعوبة من خلال ركلات الترجيح، ثم ارتفع مستوى أدائها بوضوح أمام زامبيا وفازت عليها بنتيجة 4 - 2.
في ذلك الوقت، كان لدى باركر معلومة جديدة صعبة عليه إعلانها: سيجري إقصاء ويليامز عن التشكيل الأساسي. كان باركر قد تابع بارليت وهو يقود ببراعة خط الهجوم أمام غانا، في الوقت الذي عاد ماسينغا، أكثر مهاجميه الموهوبين، من الإيقاف. أثناء الرحلة من بارك تاون إلى سوكر سيتي، حيث احتشدت الجماهير ـ كان الآلاف منهم دون تذاكر ـ قبل ساعات من انطلاق المباراة، أصيب ويليامز بحالة اكتئاب. وقال باركر: «كان الوضع هادئاً بعض الشيء داخل الحافلة، وشعر مارك بذلك. وعليه، نهض من مقعده وشرع في الرقص والغناء وقلت في نفسي: (يا له من لاعب عظيم). ولا يمكن أن أتعامل مع الأمر باستخفاف».
في النهائي، جلس ويليامز منتظراً على أحر من الجمر بينما مرت الساعة الأولى من المباراة دون أهداف وفي خضم حالة واضحة من التوتر. بعد ذلك، نزل إلى الملعب وسار على طول خط التماس، ثم طرأت على رأسه فكرة. وعن ذلك، قال باركر مبتسماً: «أخبرني البعض أنه عندما كان يمارس الإحماء أوعز إلى الجماهير بأن: (ادفعوا المدرب كي يشركني في المباراة!) حسناً، لقد نال الفرصة بالفعل».
نزل ويليامز أرض الملعب في الدقيقة 65 بدلاً لماسينغا، وكانت النتيجة ما تزال التعادل السلبي دون أهداف. في الدقيقة 73. أطلق دكتور كومالو الكرة برأسه لتسقط عند إريك تنكلر ومنها إلى لاعب الظهير سيزوي مواتونغ. ومررها الأخير إلى ويليامز ليسكنها برأسه في الشباك ويسجل هدفاً تاريخياً. وبعد دقيقتين، وجه ويليامز زميله كومالو من أمام حارس المرمى ليضع لمسة أخيرة بساقه اليسرى على الكرة ويحرز الهدف الرابع له بالبطولة ويقضي على أحلام تونس في الفوز، لتنفجر صيحات الفرحة في مقاعد المقصورة الرئاسية بالاستاد.