يان نيرودا يكتب عن فقراء براغ في القرن التاسع عشر

تأتي قصص «حكايات من براغ» التي صدرت ترجمتها العربية في القاهرة حديثاً عن دار «مصر العربية»، باعتبارها واحدة من أهم أعمال يان نيرودا، وأهم كتابات الأدب التشيكي في القرن التاسع عشر التي أسست لتيار الواقعية هناك. وتدور أحداث القصص التي صدرت بعنوان «حكايات مالاسترانا» في حي صغير بمدينة براغ التشيكية، حملت اسمه المجموعة، وليس اسم المدينة كما في النسختين العربية والإنجليزية، وقد نشرها نيرودا في البداية منفصلة في كثير من المجلات الأدبية، ثم جمعها في عام 1878 في مؤلف واحد وأصدرها في كتاب.
وترصد المجموعة التي تضم 13 حكاية، وصدرت بترجمة الدكتور خالد البلتاجي أستاذ اللغة التشيكية بكلية الألسن جامعة عين شمس، المؤثرات الاجتماعية وذكريات الطفولة التي تركت بصماتها على روح يان، الذي تأثر به فيما بعد واحد من أفضل شعراء القرن العشرين، وهو الشاعر بابلو نيرودا.
يتجلى في القصص المنحى الواقعي، حيث تفوح رائحة خشب الصنوبر، مختلطة برائحة السلع المختلفة والخوخ والثوم، من محلات البقالة، وحيث أنواع مختلفة من البشر بدءاً من الخادمات والبقالين والأرامل وحتى الأطباء وصغار المسؤولين، كما تظهر أجواء حي مالاسترانا، الذي عاش به يان نيرودا منذ 1840 وحتى عام 1869 وحمل اسمه فيما بعد، فتبرز حاراته وأزقته التي تمتد حتى تبلغ جبل بترشين، وترتسم البيوت المزخرفة بأسطحها الملونة، وسلالمها وحدائقها وقصورها. ويتعرف القارئ من خلال كل هذه التفاصيل على حياة البشر هناك.
يكشف لنا نيرودا في الحكاية الافتتاحية، وكذلك الختامية أفكار ومشاعر وسلوكيات مختلف الشخصيات، كما ينعكس موقفه من الواقع الاجتماعي على طبيعة أبطاله وحكاياتهم، ونلاحظ قدرة نيرودا على أن يغلف الحكاية بغلاف ساخر أو فكاهي أو جاد مع لهجة تعاطف، وتفاهم إنساني بالغ الإنسانية، يبدو هذا جليّاً في سخريته من البيروقراطيين المتحجرين، ووقوفه إلى جانب الأشخاص الذين يتعرضون للإذلال أو المهانة، وتهكمه من السيدات المتمدينات وبناتهن الغبيات.وتكشف الحكايات ما يدور تحت سطح حي مالاسترانا الهادئ من تناقضات اجتماعية عميقة يكشف من خلالها الكاتب قدرة الكذب والحقد الكامن في النفس على تدمير الإنسان. فهناك بين شخصيات القصص من يلقى حتفه، ومن يقبل على الانتحار، ومن يعاني من فراغ ورعونة تكمن خلف قناع المهابة والوقار الذي يفسره البسطاء بطريقة مغايرة تماماً لرؤية السادة له.
إنه، كما يقول، لا يكتب إلا عن الطبقات الدنيا في المجتمع، لأنها فئات اجتماعية مرهفة الحس، تعلي من الحقيقة وتفضلها عن أي كذب براق، لذلك غاصت كتاباته السردية في أعماق المجتمع، وقد تجلى هذا واضحاً في مجموعته «أرابيسك»، وكتاب «دراسات مختصرة ومختصرة جداً». وقد سعى لتسليط الضوء على حالة الفقر والمهانة التي يتعرض لها المواطن التشيكي، والكشف عن أسبابها، ولا يمكن أن ننسى قصة «الصعاليك» التي كتبها وخصصها لعمال السكك الحديدية! يصف فيها حياة عمال السكك الحديدية الرُّحل الذي يمهدون الطرق ويشقون الجبال.
خلال مقدمته المسهبة، يتابع المترجم البلتاجي حياة نيرودا في حي مالاسترانا، الذي عاش فيه لأكثر من 30 عاماً. وقد ولد في 9 يوليو (تموز) 1834 في بيت يحمل اسم «عند الشمسين»، وكانت العادة وقتها إطلاق أسماء على البيوت بدلاً من ترقيمها، وهناك قضى طفولته، وشبابه، وبلغت قدراته الإبداعية ذروتها. كان والده جندياً في جيش الإمبراطور زمن الإمبراطورية النمساوية المجرية. وعندما عاد لم يكن يحمل سوى الفقر والمهانة. أما والدة يان فكانت خادمة في بيوت المتمكنين، لم تعرف الهدوء ولا الراحة حتى موتها. وقد تأثر بها كثيراً، واختصها بمجموعة من قصائده المفعمة بالحب. نلاحظ وجود نيرودا في كل الـ«حكايات من براغ»، ونتابع تأثيره على مصائر شخصياته، أو يظهر فيها كأحد شخوصها، كما في حكاية «أحاديث المساء»، وكذلك في حكاية «زهور السوسن الثلاث»؛ القصة القصيرة الرائعة التي تحبس الأنفاس بدراميتها، التي يصور فيها مستوى التضامن الذي يمكن أن تصل إليه النفوس البشرية ضد الظواهر الطبيعية العمياء.
وينتقد نيرودا في حكايات أخرى، وبصورة ساخرة، منظومة القيم السائدة آنذاك، كما في رسمه شخصية «السيد ريبارش» الذي يتوهم أن قيمته مستمدة من مجموعة الأحجار الكريمة التي يمتلكها، ثم سرعان ما ينتابه شعور إنساني خالص بعدما يكتشف ماهية الأشياء وقيمة الإنسان. كذلك يكشف نيرودا زيف الأوهام التي تتعارض مع الواقع مجسداً هذا في مغامرة صبي في حكاية «قداس منتصف الليل». ويروي لنا نيرودا سنوات صباه في حكاية «كيف حدث هذا»، ونكتشف فيها مدى تأثره بالحراك الشعبي التشيكي في عام 1848 من أجل الحرية، ومصائر أبطاله المأساوية.