قتيبة الجنابي في فيلم «قصص العابرين»... هروب من الموت إلى المجهول

يسرد فيه حياته وحكاية وطن مجروح عانى من المجازر والحروب

من فيلم «قصص العابرين» للمخرج العراقي قتيبة الجنابي
من فيلم «قصص العابرين» للمخرج العراقي قتيبة الجنابي
TT

قتيبة الجنابي في فيلم «قصص العابرين»... هروب من الموت إلى المجهول

من فيلم «قصص العابرين» للمخرج العراقي قتيبة الجنابي
من فيلم «قصص العابرين» للمخرج العراقي قتيبة الجنابي

مغامرة قتيبة الجنابي السينمائية الأخيرة، تحكي قصة حياته منذ طفولته وغربته ومعاناته الطويلة إلى أن تمكن أخيراً، من أن يخرج كل ما في روحه من أسى وذكريات أليمة في فيلمه «قصص العابرين».
شخصياً، كنت أفضل تسمية الفيلم «حكايات العابرين»، وذلك أن العابرين أو الناجين من الاعتقال والتعذيب والموت في الغالب ينخرطون بسرد حكاياتهم نوعاً من التفريغ النفسي، وهذا في رأيي ما يفعله قتيبة الجنابي في فيلمه. الفيلم إذن، يتضمن قدراً كبيراً من الحزن والألم والخيبة والرحيل ومشاهد الحرب والغربة. ولكن قتيبة يتمكن باستخدامه عناصر كثيرة في فيلمه من نقل كل هذه التجارب والمشاعر لنا في ساعة واحدة تقريباً، في عمل مذهل بصرياً وشريط صوتي متميز، بحيث تتداخل الموسيقى والأصوات مع الصور بطريقة رائعة تأسر المشاهد وتشده لمتابعة جميع لحظات الفيلم بكل شغف، هذه اللحظات الذاتية القتيبية، والموضوعية العراقية. تقوم قصة الفيلم وأحداثه على سرد حكاية البطل - الضحية قتيبة الجنابي صانع الفيلم وحكاية الوطن - الضحية العراق الذي يشكل خلفية الأحداث، الوطن الذي عانى من مجازر ارتكبها حزب البعث في عام 1963 عندما قُتل والد قتيبة، وأُخرى ارتُكبت بحق الشيوعيين ومطاردتهم منذ عام 1978 في العراق، وبعدها في 1980، جاءت الحرب العراقية - الإيرانية الطويلة التي حصدت مئات الألوف من المواطنين بين قتيل وجريح ومُعاق وأسير.
منذ المشهد الأول يشدّ الفيلم انتباه المشاهدين. سيارة منطلقة بسرعة ساعات الليل الحالك، وسط جو عاصف من الأمطار والزوابع الرعدية، تنبثق معها كلمات بصوت أجش. شخص ما يتحدث عن هروبه من الظلم والديكتاتورية والحرب إلى غربة لا يعرف أين تأخذه، ذاهب إلى المجهول بعد حياة مليئة بالخوف والملاحقة والمراقبة وتهديد بالموت. إنّه صوت بطل الفيلم أو مخرجه قتيبة الجنابي.
قتيبة البطل الغائب في الفيلم، والبطل المحاصر الهارب الذي نتعرف عليه وعلى ما عاشه، من خلال الصور الفوتوغرافية والشريط الصوتي والبيانات الإذاعية والمشاهد التمثيلية، ورغم أنّنا لن نشاهد قتيبة، فإننا ندرك أنّه الراوي والبطل والضحية ومخرج الفيلم. إنّه فيلم من أفلام الناجين من الموت. لكن مشهد البداية المتميز، ذكرني مباشرة بمشابهة مشهد البداية في فيلم المخرج ديفيد لينش (Lost Highway)، لبداية قصص العابرين. بل هناك أكثر من جو من السوداوية، وكذلك استخدام الصوت بطريقة تتلاعب بأعصاب المتفرجين، كما لو أنّ قتيبة متأثر بأسلوب لينش الإخراجي. كثيرون يحبون هذا الأسلوب الغامض المرعب أحياناً لدى لينش، وكذلك قتيبة معجب به كثيراً. لكنه أكد لي، أنّ مشهد البداية صنعه عدة مرات وتركه، وأخيراً صوره في بداية التسعينات مع سائق صديق في ليلة ليلاء في أربيل، قبل ظهور فيلم «الطريق السريع المفقود» في عام 1997. كما أنّ هناك كثيراً من المشاهد التمثيلية الغامضة التي تثير الانتباه. وأكد لي أنّها من أيام حياته في المجر، إذ كان يفكر في الفيلم منذ 30 سنة ويجمع العناصر المختلفة من أجل صنع هذه السيرة الذاتية الوثائقية - الروائية.
والآن إلى وقفة مع بعض الجوانب الفنية في هذا الفيلم، الذي حصل على جائزة أفضل فيلم روائي - تجريبي في مهرجان لندن الدولي للأفلام السينمائية لعام 2019 قبل أشهر قليلة. أول هذه الجوانب، هو الصور الفوتوغرافية التي يستخدمها قتيبة ببراعة، خصوصاً صور والده؛ الزعيم داود الجنابي، رئيس أركان الجيش العراقي، الذي اختطفه البعثيون من بيته، وأعدموه وأخفوا جثته إلى الأبد في عام 1963. إنّ صور الأب والأم وصور الناس البسطاء في العراق، ظلّت ترافق قتيبة طوال حياته. وفي كل حقبة من حكاية عبوره من الوطن، كانت تُضاف صور جديدة إلى ألبوم الحياة. وكل هذه الصور شكّلت نواة الفيلم، وعلى حد قول الجنابي: إنّ الفوتوغراف هو حياتي الأخرى، حياتي الموازية، التي استخدم فيها مختلف أنواع الكاميرات عبر 40 عاماً من الترحال. ثم أضاف إليها لاحقاً، مشاهد تمثيلية صممها بنفسه أثناء إقامته في المجر، ربما كان أجملها تصويره الغربة كصخرة سيزيف، التي نحملها معنا أينما ذهبنا، وقد نخبئها أحياناً، لكن سرعان ما نضطر لإخراجها وحملها مجدداً، لنكمل رحلة العبور من الموت إلى الحياة في المنافي. وهنا نتنبّه إلى مشهد الركض خلف القطارات، التي تصبح جزءاً مهماً من حياة قتيبة الهارب من الموت المجاني في العراق، إلى حيث التنقّل وسوء التفاهم في بيئات غريبة لا تتعاطف مع معاناته. والعنصر الآخر المهم هو الشريط الصوتي، ونقصد أولاً، الموسيقى التصويرية الرائعة والمؤثرة للفنان الإنجليزي توم دونالد، التي تصطادنا منذ مشهد البداية، وتستمر بعدها في مختلف مشاهد الفيلم، لتعمّق إحساسنا بالفكرة من دون أن تبعدنا عن الأحداث.
وتضاف للموسيقى، النداءات الإذاعية الديماغوجية التي تطبّل للحرب والموت طيلة الفيلم، من خلال مذياع لعين لا ينفكّ عن الصراخ، يبحث عنه البطل الغائب بجنون كي يغلقه، ليستريح المشاهد من نداءات الموت والقتل للذات والآخر، النداءات التي عاشها العراقيون بين عامي 1980 و1988 في الحرب مع إيران. هذه النداءات المؤثرة التي يقشعرّ لها البدن، ليست تمثيلاً بل حقيقية تماماً، بصوت مذيعنا الأستاذ غازي فيصل، الذي كان يذيع البيانات الحربية التي تكتبها القيادة العامة للقوات المسلحة. وكان عليه أن يقرأها بكل حماسة وثقة وصوت جهوري، يلاحق كل الهاربين من الموت داخل العراق وخارجه.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».