تصاعد اليمين المتطرف يزيد مخاوف المسلمين

مع تنامي قضايا الإرهاب وتغلغل «الإسلاموفوبيا»

جاسيندا أردين رئيسة وزراء نيوزيلندا أثناء مشاركتها مع المئات من مواطنيها في تشييع ضحايا مذبحة المسجدين مارس الماضي (ا.ب)
جاسيندا أردين رئيسة وزراء نيوزيلندا أثناء مشاركتها مع المئات من مواطنيها في تشييع ضحايا مذبحة المسجدين مارس الماضي (ا.ب)
TT

تصاعد اليمين المتطرف يزيد مخاوف المسلمين

جاسيندا أردين رئيسة وزراء نيوزيلندا أثناء مشاركتها مع المئات من مواطنيها في تشييع ضحايا مذبحة المسجدين مارس الماضي (ا.ب)
جاسيندا أردين رئيسة وزراء نيوزيلندا أثناء مشاركتها مع المئات من مواطنيها في تشييع ضحايا مذبحة المسجدين مارس الماضي (ا.ب)

يتنامى في الآونة الأخيرة الشرخ ما بين الثقافات والشعوب وأزمة الهويات المختلفة، التي أدت إلى تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا وعدد من الدول الغربية، وجنوح البعض إلى جرائم تمازج ما بين الكراهية والإرهاب، على نسق ما حدث في نيوزيلاند، حين استهدف اليميني المتطرف برينتون تارانت مسجدي مدينة كرايست تشيرش 15 مارس (آذار) الماضي.

نشر اليميني المتطرف تارانت بياناً بعد مذبحة المسجدين في كرايست تشيرش (نيوزيلندا)، ذكر فيه أن هدفه أن يقلص من معدلات الهجرة في البلاد ولكي يؤكد «للغزاة» أن بلاده لن تكون بلادهم أبداً. وتظهر الإشكالية نفسها في مناطق أخرى، مثل تصاعد أعمال العنف في سريلانكا ضد المسلمين الذين يشكلون عشرة في المائة من نسيج مجتمعهم ذي الغالبية البوذية، واستهداف مجموعات مسيحية مساجد ومتاجر لمسلمين مثل مدينة كينيياما التي تم التهجم فيها على أحد المساجد، الأمر الذي أدى لفرض حظر تجوال ليلاً في مايو (أيار) الماضي، وتعد الهجمات انتقامية في أعقاب عمليات إرهابية استهدفت كنائس وفنادق في عيد الفصح في سريلانكا، نتج عنها مقتل نحو 253 شخصا، والتي تبناها تنظيم «داعش»، فيما اتهمت الحكومة السريلانكية جماعة «التوحيد الوطنية» بارتكاب الهجمات الانتحارية التي استهدفت كنائس وفنادق فخمة، في 21 أبريل (نيسان) الماضي، رغم التحذيرات المسبقة من تخطيط جماعات أصولية لها. وعلى وجه العموم فإن الهوة ما بين المسلمين الذين يعدون أقليات في عدد من الدول تتسع سواء كان ذلك نتيجة عدم قدرتهم على الاندماج الكلي مع مجتمعاتهم أو نتيجة الشعور بخطر اجتياح الثقافات المختلفة، بالأخص مع تنامي قضايا الإرهاب وربطها بالإسلام مما عمق من تغلغل «الإسلاموفوبيا» في عدة مجتمعات.

جرائم الكراهية والإرهاب

ولا تزال الصلة ما بين جرائم الكراهية والإرهاب غير واضحة، وغالباً ما ترتبط تلك الجرائم باليمين المتطرف المفضي إلى عنصرية ضد الشعوب؛ إلا أن كلاً من جرائم الكراهية والإرهاب تنم عن وجود توتر واضطراب في النسيج الاجتماعي والسياسي، كما أن هناك عدداً من جرائم الكراهية تحمل أبعاداً إرهابية فيما تظهر عمليات إرهابية تحمل بعداً عنصرياً محملاً بالكراهية. ويفرق البروفسور والباحث الأميركي بروس هوفمان، المختص في دراسات الإرهاب، ما بين مفهوم الإرهاب والكراهية، بإيضاحه أن الإرهاب في الأصل يرتكب لأغراض سياسية، بمعنى آخر هو القيام بالتخويف والإرغام والمعاقبة أو التأثير على الآخرين باستخدام العنف والتهديد به من أجل أغراض سياسية. فيما تعرّف جرائم الكراهية حسب القانون الأميركي بأنها التسبب المتعمد بأضرار جسدية لأي شخص سواء بإطلاق النار أو استخدام الأسلحة الخطرة أو المتفجرات أو مواد حارقة، بغرض التسبب في إصابة شخص ما، وذلك عادة ما يكون بسبب عرق أو لون أو دين أو ميول أو إعاقة ما.
وعلى الرغم من وجود فروقات ما بين المفهومين؛ فإن كثيراً من جرائم الكراهية ترتكب من خلال جماعات إرهابية مثل ما قام به «داعش» من هجمات إرهابية استهدفت الشيعة والإيزيديين ووصلت لحد الإبادة الجماعية في العراق، فيما تكرر تهديد «داعش» للمسيحيين في الموصل ومناطق أخرى، فإذا لم يتحولوا إلى الإسلام أو دفع الجزية أو المغادرة فسيتم قتلهم، إضافة إلى استهداف الأقباط في الكنائس وأماكن تجمعهم في مصر.
فيما تبدو العلاقة ما بين الأقليات واليمين المتطرف علاقة سببية، كل منهما يأتي نتيجة الآخر بشكلٍ ما، حيث إن من مسببات انضمام البعض إلى تنظيمات مثل «داعش» شعورهم بالتهميش والانعزال في مجتمعاتهم.
ويظهر تصاعد اليمين المتطرف نتاجا تراكميا لزيادة عدد المهاجرين في المجتمعات الغربية وشعورهم بالتهديد، فيما تنحو الأقليات مثل المسلمين إلى الانعزال، إضافة إلى انعكاسات الجماعات المتطـرفة مثل عمليـات إرهابية لـ«ذئــاب منفـردة» في أرجـاء أوروبـا تبناها تنظيم «داعش»، الأمـر الـذي أدى إلى تخويــف العالم من المسلمين وعزز من «الإسلاموفوبيا»، لا سيما مع تزايد أعداد المسلمين في المجتمعات الأخرى، يقابل ذلك تصاعد اليمين المتطرف سواء من خلال النازيين الجدد أو القوميين البيض ممن لديهم قناعة بتفوق العرق الأبيض والتطرف والعنصرية والمعاداة للمهاجرين، على شاكلة النرويجي أندرس بريفيك الذي استلهم عدد من المتطرفين عملياتهم الإرهابية منه، وهو يميني متطرف قام بقتل 77 شخصا في النرويج عام 2011 نتيجة معاداته للمسلمين، وذكر أنه استوحى عمليته من تنظيم «القاعدة» بعد دراسته لعملياته الإرهابية.
ولا يعد الفكر اليميني المتطرف جديداً، إذ ظهرت جماعات متطرفة كثيرة مثل جماعة «الكوكلوكس كلان» المتطرفة التي نشأت في عام 1865 في ولاية تينيسي في أعقاب الحرب الأهلية الأميركية، وهي مبنية على مبدأ تفوق العرق الأبيض ومعاداة ما يخالفها مثل العرق الأسود واليهود والمهاجرين، ونشأت في طياتها عمليات إرهابية كثيرة شهيرة تستهدف «الآخر» ممن ترفضهم «الكوكلوكس كلان». ولم تنقرض هذه الجماعة إذ إن مسيرة نظمتها مجموعات من اليمين المتطرف تضمنت الكوكلوكس كلان والنازيين الجدد في 11 أغسطس (آب) 2017 في تشارلوتسفيل في فرجينيا، حيث تم رفع شعارات معادية للإسلام والسامية، وقد قام جايمس أليكس فيلدز جونيور وقتئذ بدهس أسفر عن مقتل امرأة وإصابة 19 آخرين، وقد عرف بهوسه بالنازية وبشخصية هتلر.
لكن مثل هذه التوجهات المتطرفة لا تستهدف المسلمين، وإنما الأقليات بشكل عام فيما يبدو انعكاسا لشعور البعض بتهديد الأقليات لوجودهم لمجرد اختلافهم عنهم عرقياً أو دينياً، ويظهر ذلك على وجه التحديد لدى معتنقي اليمين المتطرف الذين يتزايد عددهم كلما ازداد عدد المهاجرين إلى دولهم. على نسق ما حدث حين قام الأميركي جون إرنست، المعادي للسامية والإسلام، بإطلاق نار في سان دييغو على كنيس يهودي. وذكر أنه استلهم ذلك من حادثة إطلاق النار على مسجدي كرايست تشيرش (نيوزيلندا)، وكذلك إطلاق النار على كنيس لليهود في مدينة بيتسبرغ الأميركية مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، حيث إن مرتكب الجريمة روبرت باورز صاح وهو يطلق النار «يجب على كل اليهود أن يموتوا». وعلى شاكلته تظهر حادثة إطلاق النار على كنيسة تشارلستون في 17 يونيو (حزيران) 2015، مما أسفر عن مقتل 9 أشخاص، وهي من أعرق كنائس السود في الولايات المتحدة، وقد قام بالهجوم الإرهابي بها ديلان ستورم فيما يعد من جهة أخرى من جرائم الكراهية.

الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية

صراع الحضارات والشعور بالتهديد لا يقتصران فحسب على المتطرفين، ممن لا يترددون في القيام بعمليات إرهابية، إذ تظهر تصريحات لسياسيين معادين للثقافات الأخرى على نسق رئيس وزراء المجر اليميني فيكتور أوروبان، الذي أعرب في أكثر من مناسبة عن مخاوفه من التهديدات من حوله، مؤكدا على اتخاذه سياسات لمواجهة تزايد أعداد المهاجرين خوفاً من ضياع الثقافة والهوية المسيحية. وفي ألمانيا، قام مركز ليبزيق لدراسات وأبحاث اليمين المتطرف والديمقراطية بدراسة أظهرت أن ما يزيد على 44 في المائة من الألمان يرغبون في منع المسلمين من الهجرة إلى ألمانيا، فيما ذكرت الدراسة أن 56 في المائة، من الألمان يشعرون بأن أعداد المسلمين المتزايدة في ألمانيا تجعلهم يشعرون بأنهم أغراب في وطنهم.
وكانت الشرطة في إنجلترا وويلز أصدرت في 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، إحصائيات نوهت إلى أن جرائم الكراهية قد ارتفعت فيها بنسبة 40 في المائة ضد المسلمين، كما بلغت جرائم الكراهية رقماً قياسياً يصل إلى 94098 في الفترة من أبريل 2017 إلى مايو 2018 يصنف أكثر من ثلثيها ضمن جرائم العنصرية. وتظهر أحداث أخرى مبلغ سوء الفهم والشعور بتهديد الثقافات الأخرى، مثل ما حدث عقب حريق كاتدرائية نوتردام في باريس من اتهام أليس فيدل من حزب «بديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف بأن ما حدث هو هجوم متعمد يستهدف المسيحيين وذو صلة بالإرهاب، على الرغم من استبعاد السلطات الفرنسية وجود هجوم متعمد.
وهناك أكثر من تساؤل حول ما حدث مع البريطانية الداعشية شاميمة بيغوم الملقبة «عروس تنظيم داعش» والتي سافرت إلى سوريا للانضمام للتنظيم لمدة تجاوزت الأربع سنوات، وتزوجت هناك من الهولندي ريدجيك الذي اعتنق الإسلام واتهم بانتمائه للتنظيم، وما لحق ذلك من حيثيات قرار الحكومة البريطانية نزع الجنسية منها، وعلى شاكلتها منع الرئيس الأميركي الإرهابية هدى مثنى من العودة إلى الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن مثل هذه القرارات تهدف لحماية الدول من شخوص لا يتوقع أن يكون هناك مجال لإعادة تأهيلهم نظراً لآيديولوجياتهم المتطرفة أو ما ارتكبوه من جرائم إرهابية؛ فإن من الممكن أن تؤدي مثل هذه القرارات الصارمة إلى تعزيز الشعور بالفروقات والعنصرية تجاه الأقليات، مثل ما أكدته الحكومة البريطانية من رفض لمقترح تحديد تعريف رسمي لمصطلح «الإسلاموفوبيا» أو معاداة الإسلام لما فيه من تقويض لجهود مكافحة الإرهاب وحق إيقاف المشتبه بهم دون الحصول على إذن سابق. فإن بعض ما يحدث من ممارسات أمنية مثل الاشتباه بالمسلمين بتورطهم بالإرهاب نتيجة لأعراقهم أو معتقداتهم الدينية يعمق من الهوة بين الأقليات ومجتمعاتهم ويشجع على تصاعد اليمين المتطرف.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.