السفر و{غواية الجميل}... انعكاسات أدبية

على مدار التاريخ كان هناك مسافرون يتخلون عن بطاقة العودة

السفر و{غواية الجميل}... انعكاسات أدبية
TT

السفر و{غواية الجميل}... انعكاسات أدبية

السفر و{غواية الجميل}... انعكاسات أدبية

يحتاج المسافر إلى ساقين قويتين تحملانه وذراعين قويتين تجران الحقيبة، ومعدة قوية تستجيب لنزواته، لكنه يحتاج إلى عينين أكثر من كل شيء.
العين هي أول وأقوى مداخل الدهشة؛ لذلك أفكر بفاقدي البصر وحظوظهم من السعادة في السفر.
التنافس المحموم أوجد «سياحة المكفوفين» التي تتضمن وسائل الراحة والانتقال وإرشادا سياحيا خاصًا، يوفر إمكانية اللمس ويبتكر طرقًا مختلفة للشرح تمنح الأعمى تصورا أقرب إلى الحقيقة لتمثال أو معبد. لكن هذه الجهود التجارية المأجورة تبقى قليلة الجدوى؛ فغياب العينين لا يعوضه إلا الحب.
في كتابها «معك» تنقل سوزان مقتطفا من رسالة لطه حسين يبثها فيها أشواقه، عندما اضطرت للسفر بطفليها وبقي في مصر لمدة ثلاثة أشهر من عام 1921: «قبِّلي الطفلين وحدِّثيهما عني كثيرًا؛ فذلك يروق لي. وعندما تروق لك البيرينيه أو يروق لك أي مشهد آخر ففكِّري بي بهدوء وجذل. فكِّري أنني إلى جانبك وأنني أرى بعينيكِ وأنني أعاني كل ما تعانينه».
وهي، من جهتها، كانت قد اعتادت خلال 58 عاما من حياتهما المشتركة أن عينيها لهما معا: «وأمُرُّ أمام مقهى الكاردينال حيث كنا ننظر إلى زخرفته، وأتخيل إعجابنا وحماسنا».
في بداية النوفيلا التي كتبها توماس مان عام 1911 نتعرف على آشنباخ، الكاتب المجيد، الذي حاز لقب النبالة بفضل أعماله الأدبية الكبيرة، وقد أراد أن يسافر لأسبوعين أو ثلاثة إلى البندقية؛ لتجديد نشاطه إذ استشعر في نفسه مللا وخفوت همة، فإذا به يلقى موته بسبب تحديقة.
في لحظات انتظار عشاء أول يوم لوصوله، جلس آشنباخ ببهو الفندق، طافت نظرته المتلصصة على الآخرين وتوقفت على أسرة بولندية: ثلاث فتيات بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة ومراهق في نحو الرابعة عشرة مع مربية. وعندما أعلن رئيس النُدل أن العشاء جاهز، بدأ النزلاء يأكلون إلا أن الفتيات والفتى البولنديين ظلوا حول طاولتهم حتى جاءت الأم. لم يأبه آشنباخ بالعشاء، ولا بالنساء الخمس أو بغيرهن، بل وقع ضحية جمال الصبي تادزيو، موقنا بأنه لم يعرف طوال حياته مثالاً في الطبيعة أو الفن يضاهي كماله. ذلك الكمال سيسلبه حريته وينال من مكانته.
الغموض سبب من أهم أسباب عشقنا للسفر، وبالمصادفة هو أهم ركائز الأدب العظيم، وأحد أهم سمات الجميل بشكل عام. وقد اجتمعت لـ«الموت في البندقية» كل عوامل الغموض الممكنة التي جعلت الرواية تتخطى قرنا من الزمان بكامل عظمتها.
جمال تادزيو ينبع من استعصائه على الوصف، كأن الغموض والكمال اسمان لشيء واحد، حيث لا ارتواء أو راحة تقود إلى انتهاء الشغف. ولكن علينا أن ننتبه إلى أن آشنباخ، ربما يكون الوحيد الذي رأى في جمال تادزيو ذلك الكمال المُذل، فتقدير الجميل يدخل فيه كثير من العوامل، من النظرة الذاتية إلى السياق الزماني والمكاني الذي التقت فيه العين الناظرة بالموضوع الذي تحدق به.
من المؤكد أن البندقية شهدت في ذات وقت عطلة آشنباخ كثيرا من حالات الشغف لنساء برجال ورجال بنساء، وربما كان هناك فيتشي يجلس بجوار آشنباخ ولم يفتنه تادزيو، بل فتنته قدم من أقدام شقيقات تادزيو أو إصبع أمه أو جوربها أو مشد خصر يبدو تحت الملابس التي رآها آشنباخ كئيبة. ربما كانت هناك حالات شغف بمبان أو مطاعم، أو تحف وأدوات مائدة حقيقية أو زائفة، وربما حالات شغف بطحالب وزهور صغيرة عائمة. السفر يعد بكل تلك الألوان من الشغف غير القاتل.
لا يمكننا أن نرى في تعلق آشنباخ بتادزيو قصة شغف مثلي، ونطمئن ببساطة لهذا التفسير.
ليس بوسعنا أن نرى فيه شيخاً منحرفًا يلاحق الصبي، كما لا يمكننا أن نضع نظرات وإيماءات تادزيو في خانة البراءة باطمئنان؛ فبعض نظراته وإيماءاته صاخبة. لكننا لا نشرع في إدانة الشر الذي يمارسه تادزيو ضد آشنباخ حتى يبدو لنا غافلاً عن الشر الذي ينطوي عليه جماله، ثم لا نلبث أن نتأكد من وعيه بسلطته على الآخرين، وسعادته بالسيطرة عليهم والتلاعب بعواطفهم. للولد سلطة في المطلق، يمارسها على أمه وأختيه ومربيته، ما يجعلنا نميل إلى الاقتناع بأنه يراقب آشنباخ ويستمتع بنظراته، بل ويبادله التحديق، ثم يبدو لنا في لحظة أخرى وكأنه يجهل وجود آشنباخ!
الأذى متأصل في الجمال دون إرادة منه، يكمن بالتحديد في قوة غموضه. الموضوع الجميل له عين ترد على متأمله بتحديقة. ليس تادزيو الحي هو فقط القادر على التحديق بآشنباخ. التمثال الجميل الصامت يرد هجمة نظرتنا، نتوهم أمامه أنه يرى نقصنا.
في نوفيلا «تونيو كروجر» التي كتبها قبل «الموت في البندقية» بعشر سنوات، يشير توماس مان بوضوح أكثر إلى الشعور بالضعف الذي ينتابنا في مواجهة الجميل، البطل تونيو كروجر يؤيد كاتبا آخر هو «الروائي إدلبرت» التقى به في الشارع وتحدثا عرضا عن كراهيتهما لفصل الربيع، الروائي الأكبر سنًا يعتبره شهرًا للتشوش وتفاهة الأفكار، بينما يضع تونيو يده على سر كراهيته للفصل الجميل: «إنني أخجل منه، أخجل من طبيعته النقية وشبابه المنتصر». تونيو كروجر، الذي ذهب في رحلة إلى الشمال متوقفا في الدنمارك ثم السويد، هو نفسه آشنباخ الذي ذهب إلى البندقية بعد أن تقدم في السن.
في منتجع سويدي، على البحر الأدرياتيكي، يفاجأ كروجر بأنه في مواجهة هانس هانزن مع ماجدالينا فيرمين، الأول كان كروجر يميل إليه ميلاً غامضًا عندما كان في الثانية عشرة، والثانية أبدت إعجابها بكروجر في السادسة عشرة لكنه لم يعرها اهتماما، لأن مشاعره الصامتة كانت متعلقة بفتاة أخرى. في النزل السويدي كان الآخران مندمجين في المتعة، عبرته نظراتهما دون أن يجود عليه أحدهما بإيماءة تدل على أنه كان يوما يعرفه؛ فعاد إلى غرفته كسيرا!
هذه هي عزلة توماس مان نفسه، وهذه هي رؤيته التي يلح عليها: «لا نُحدِّق بالجميل إلا ونصبح أكثر وعيا بعيوبنا».
النظرة المرتدة اللاهية لتادزيو كنظرة تمثال هي التي جعلت آشنباخ يدرك كم هو عجوز ومتداع؛ فيعمد إلى الخضاب كي يداري شيخوخته، رغم أننا رأينا اشمئزازه طوال رحلته على السفينة من مسن مخضب وصفه بـ«الشاب المزيف».
أقدم آشنباخ على فعل استنكره من غيره قبل عدة صفحات، ولم يقنعه هذا التزييف بأنه صار بحال أفضل، بل أحس بإذلال أكبر في مواجهة فتوة الصبي، وفي كل مرة يؤجل الرحيل عن المدينة، تحرفا لنظرة قادمة يعوض فيها خسارة التحديقة السابقة، هكذا عاش أيامه مسلوب الإرادة، حتى إنه لم يقو على اتخاذ قرار بالمغادرة بعد أن علم بتفشي الكوليرا، وبقي حتى غمره زحفها.
على مدار التاريخ كان هناك مسافرون يتخلون عن بطاقة العودة، لأنهم وقعوا في غواية الجميل بمكان ذهبوا إليه ولم يقدروا على مغادرته. المصريون يسمون القاهرة «الندَّاهة» في تفسير أسطوري لسحرها. في المدينة جنية تنادي الغرباء. حامد بطل قصة يوسف إدريس «النداهة» لم يشعر بإذلال أقل، لكنه استطاع أن يعود إلى قريته، لم يستسلم كما استسلم آشنباخ. التي استسلمت هي فتحية زوجته. هي صنو آشنباخ.
بعض تفسيرات «الموت في البندقية» تلقي باستسلام آشنباخ للموت على تشاؤمية وسوداوية توماس مان اللتين استمدهما من إعجابه بشوبنهاور ونيتشه. يوسف إدريس أبعد ما يكون عن تشاؤمية شوبنهاور وسوداوية نيتشه الساخرة، لكنه جعل فتحية زوجة البواب تستسلم لضياعها. كانت تدرك أن الأفندي زير النساء يترصدها، وكانت تفهم طبيعته بوصفه صيادا شرها، ولم تكن مولعة به أو بوسامته، ورأت في ذهنها السيناريو الذي حدث معظمه: «إنها ستستجيب لمطارداته، وإن حامد سيفاجئهما في السرير ويقتلها». ومع ذلك مضت بعدمية في الاستسلام له، وأثناء لقائهما المرتجل السريع، يتلامس خداهما فتدرك كم هو ناعم وطيب الرائحة. لم يقتلها حامد كما رأت في خيالاتها، اعتزم العودة بأسرته إلى قريته. لملم متاعهما القليل، واصطحبها إلى محطة القطار عند الفجر ليفر بها من المدينة، لكنها كانت قد حدَّقت بوجه الأفندي. غافلت زوجها وهربت وسط الزحام.
الطلاب المصريون الذين كانوا يذهبون إلى أوروبا في عطلات الصيف سبعينات القرن العشرين، بعضهم أخذتهم ندَّاهات باريس وروما، فلم يعودوا لاستكمال دراستهم، لكنهم نالوا مصائر أفضل من مصير آشنباخ. أصبحوا أصحاب أعمال. التقيت كثيرا منهم، وهم يرون القاهرة الندَّاهة في أحلامهم فلا يستطيعون تلبية النداء ويعيشون على أسى الحنين الخالص.
هناك نصيحة للدفاع عن النفس، اقترحها توماس مان في «تونيو كروجر» ألا نتعمق في النظر للأشياء إلى الحد الذي يجعلها محزنة، لكن نصيحة الفتى تونيو، لم تنفع الشيخ آشنباخ، للأسف!
ربما، علينا أن نحسد الشغوفين بالتقاط الصور أثناء رحلاتهم؛ هؤلاء المحظوظون تتلقى عين الكاميرا، نيابة عنهم، نظرة الجمال المرتدة المدمرة.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.