دعا رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، إلى إعادة التفكير في مسألتين بالغتي الحساسية على الساحة السياسية الفلسطينية، الأولى ما إذا كان اتفاق أوسلو الذي قامت بموجبه السلطة الفلسطينية قائما ويمكن البناء عليه، والثانية، ما إذا كان التمثيل الفلسطيني يجب أن يبقى محصورا في منظمة التحرير الحالية.
ويرى فياض أن المنظمة فشلت حتى الآن في إيصال الفلسطينيين إلى حلم الدولة من خلال اتفاق أوسلو الذي فشل كذلك، ويدعو من أجل سلام حقيقي وليس مجرد إدامة عملية السلام، إلى اتخاذ عدة خطوات، تتمثل في سحب اعتراف إسرائيلي بالدولة الفلسطينية يماثل الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، والبحث عن قرار دولي ملزم بإنهاء الاحتلال بحلول موعد محدد وبإطار متفق عليه، والتخلص من أعباء وشروط اتفاق أوسلو، والعمل بشكل جدي على ترسيخ الدولة.
وقال فياض في كلمة مطولة ألقاها في 31 الماضي أمام مجلس أتلانتيك في الولايات المتحدة، إنه يجب فورا توسيع منظمة التحرير وإعطاء الحكومة الفلسطينية صلاحيات واسعة والذهاب إلى انتخابات عامة من أجل التخلص من إرث 20 عاما مضت.
وتنسجم طروحات فياض الذي طالما كان مثيرا للجدل أثناء توليه منصب رئيس الوزراء في فلسطين، مع التوجهات الفلسطينية الرسمية الأخيرة، وربما سبقتها، ولكن بعض مقترحاته، من شأنها إغضاب أصحاب القرار كذلك.
وإلى نص الكلمة:
قيل وكتب الكثير عن الواقع المفزع والمستمر لأكثر من 25 يوما الماضية، والمتمثل في الخسائر الفادحة في الأرواح، وخصوصا تلك التي طالت الأطفال، والدمار الهائل، والبؤس الذي بدد القليل مما كان متبقيا للفلسطينيين في غزة من الأمل في غد أفضل قبل بدء الجولة الأخيرة من هذا التصعيد الخطير. وبالنظر إلى البعد الإنساني القوي لهذه المأساة المتكررة، لا شك أن هنالك المزيد مما سيكتب ويقال عنها ولوقت طويل. ولكن هناك ما يكفي في الكلمات الحزينة لامرأة بدت متمالكة الأعصاب وهي تجلس فوق أنقاض ما كان قبل أسبوعين فقط بيتها في غزة، وتتحدث بشكل يومئ بوضوح إلى ما يتعين القيام به، لا بل إلى ما كان يجب إنجازه من الأساس، وبما يتعدى التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار. إذ قالت «أم أحمد» وهي تشير إلى ركام بيتها الذي تحول إلى أثر بعد عين جراء غارة جوية، وبؤس الوضع الإنساني المتصل بالحياة تحت الحصار لسنوات طويلة في قطاع غزة مُخيم على حواسها: «حتى قبل هذا، ما كان عندنا شيء نخسره... كنا عايشين من قلة الموت».
هذا الواقع لم يكن خفياً على الوسطاء الحاليين أو السابقين، بل على العكس من ذلك. إذ يمكن القول إن كل جهود الوساطة السابقة تضمنت إشارات واضحة إلى ضرورة أن يتبع وقف سفك الدم تنفيذ خطوات عملية تستهدف التعامل الجدي والفعال مع الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار. لكن هذا لم يحدث، ومن المرجح، ولأسباب عدة، ألا يحدث في هذه المرة ما لم يتم تبني نهج جديد ومختلف جوهرياً عما حصل سابقاً.
مما لا شك فيه، وكما في السابق، أن هناك تعقيدات متصلة بكون بعض التوقعات والشروط المطروحة للتوصل إلى اتفاق على وقف إطلاق النار غير واقعية أو غير قابلة للتطبيق على المدى المنظور، وذلك بسبب الواقع السائد وطبيعة العلاقة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، هناك اشتراط إسرائيلي بنزع السلاح في قطاع غزة، في الوقت الذي لم تكن فيه غزة منزوعة السلاح، حتى قبل إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي من القطاع في عام 2005. إذ، وباستثناء الصواريخ، كان كل شيء آخر، بما في ذلك الأنفاق، موجوداً وقائماً قبل إعادة الانتشار. فكيف، أتساءل، يمكن لأي طرف أن يعتقد أنه بالإمكان اليوم تحقيق ما لم يكن ممكناً تحقيقه من قبل، خصوصا في ظل التطور الحاصل في القدرات القتالية الفلسطينية منذ ذلك الحين؟ أما بالنسبة للمطالب الفلسطينية، فهي باختصار تتمحور حول المطلب المشروع المتصل بضرورة رفع الحصار عن قطاع غزة. وهنا أيضا يمكن التساؤل إن كان من الممكن تحقيق هذا الهدف الهام بسرعة في ظل الاحتلال، على الرغم من أن الجهود السابقة لرفع الحصار باءت بالفشل، حتى قبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزة في عام 2007، وفي ظل استمرار إسرائيل في فرض نظام تحكم وسيطرة تعسفي في الضفة الغربية أيضا.
بالطبع، لم تكن جهود الوساطة السابقة غافلة عن هذه الصعوبات والتعقيدات. وفي قراءة سريعة للتفاهمات السابقة، بما فيها التفاهمات التي تضمنها قرار مجلس الأمن 1860، نرى أن الوسطاء قد توصلوا في السابق إلى صيغ تتعامل مع القضايا الهامة بشكل يوفر فقط غطاء سياسياً للأطراف الرئيسية في وقت وصل فيه أحد أطراف القتال، أو كلاهما، إلى الاستنتاج بأن الاستمرار في القتال بات أكثر تكلفة من وقفه، وذلك على الرغم من إدراك الطرفين، على الأرجح، أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلا إليه لن يصمد طويلا. للأسف، القضايا الخلافية الهامة لم تتغير منذ ذلك الحين، وهي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. وعليه، فإن جهود الوساطة السابقة لم تعد كونها خطوات دحرجت المشكلة إلى الأمام، وبما أبقاها دون حل جذري وأفضى إلى الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة.
حتى يكون كسر هذه الدائرة ممكناً، يتعين توظيف جهد دبلوماسي دولي مختلف عن السابق، لجهة تركيزه أولاً على معالجة جوهر الخلل في العلاقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبما يمهد بشكل جدي لإعادة إطلاق ما تبقى مما اصطلح على تسميته بعملية السلام. وحري التوضيح بأن المقصود من مثل هذا الجهد ليس تجاوز الجهود المبذولة حالياً والرامية للتوصل لاتفاق حول وقف إطلاق النار بالطريقة التي جرى إنجازها، على سبيل المثال، في قرار مجلس الأمن 1860، أو من خلال هدنة إنسانية، بل دعمها والبناء عليها. في الوقت ذاته، يجب ألا ينظر إلى الجهد الدولي المطلوب باعتباره فرصة لإعادة استئناف المفاوضات المتعثرة بتسرع، لأن مآل هذا النهج كان دوماً الفشل، الذي كان ينبغي توقعه، والذي من شبه المؤكد أنه سيتكرر طالما استمر التركيز على إدامة عملية السلام بعينها، وليس على صنع السلام الحقيقي، وفي سياق إطار، ألا وهو إطار أوسلو، لم يعد منسجما مع افتراضات أساسية بني عليها. وبلا شك، فقد ساهمت عوامل وحيثيات كثيرة في الوصول إلى هذا الفشل خلال جولات سابقة من المفاوضات الثنائية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بوساطة دولية. ولكن ما من شك أيضا في أن ما حصل وتبين من فقدان هذا الإطار لصلاحيته وأهليته من الناحية البنيوية كان، من وجهة نظري، كفيلاً بحد ذاته بتحقيق الفشل حتى في غياب أية عوامل ضعف أخرى. وعليه، فإنني أجزم بأنه من دون تعديلات جوهرية في هذا الإطار، وبما يشمل مكونات أساسية فيه، فإن استمرار العمل بموجبه لا يمكن أن يفضي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، لا عاجلاً ولا ربما حتى أبداً.
قبل الانتقال إلى تلخيص الخطوط العريضة لأهم العناصر الواجب تعديلها، اسمحوا لي، أولاً، أن أؤكد بشكل قطعي أن ادعائي بوجوب هذه التعديلات لا ينطلق، ولا حتى تنويهاً من قريب أو بعيد، من فكرة التخلي عن مفهوم حل الدولتين، بل على العكس من ذلك تماماً. إذ في الواقع أن المنطق الذي تستند إليه هذه التعديلات يكمن، وبشكل كامل، في الحاجة لإنقاذ فرصة حل على أساس هذا المفهوم. ثانياً، إن جوهر هذه التعديلات يستند في المقام الأول إلى أهمية الحاجة إلى معالجة عدم التكافؤ في ميزان القوى بين القوة المحتلة والطرف الواقع تحت الاحتلال، وعلى نحو يكفل، وهذا أمر في غاية الأهمية، معالجة التآكل الخطير في مرجعيات عملية السلام، عبر جولات المفاوضات المتعاقبة، والتي بسبب فشل كل منها لم تفض إلاّ إلى اتساع مضطرد في ما أسميه «الفجوة في التوقعات»، والمتمثلة ببساطة في الفرق بين أقصى ما هو مطروح من قبل إسرائيل وبين الحد الأدنى المقبول فلسطينياً. ثالثا، أود التحذير، ولكن ليس بكثير من الجدية، أن مجرد النظر في التعديلات التي أعتقد أنها واجبة، وعلى وجه السرعة، قد يتطلب من الكثيرين، ولا أستثني نفسي، الاستعداد للتضحية بالسكينة الفكرية التي تلازم التمسك بالمواقف التقليدية.
أما بالنسبة لما أقترحه من تعديلات فهي تقع في مجالين مترابطين، يتصل الأول منهما بمدى ما إذا كان التمثيل الفلسطيني لا يزال ملائماً أو صحيحاً، سواء في سياق متطلبات إطار أوسلو أو متطلبات إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية. وأما الثاني، فإنه يتعلق بما إذا كان هذا الإطار (إطار أوسلو) لا يزال قائماً بما يعتد به من حيث المبدأ، خصوصا وأن الجدول الزمني الذي صمم على أساسه قد انتهى منذ وقت طويل. الإجابة على السؤالين السابقين هي بالنفي. ولذلك، فإن عملية التصويب أصبحت واجبة، لا بل طال انتظارها، خصوصا في ظل فشل مسار أوسلو في الوصول إلى اتفاقية حول «قضايا الوضع النهائي»، عبر ما يزيد عن 15 عاماً من انقضاء الفترة التي كان من المقرر حل هذه القضايا بحلول نهايتها، الأمر الذي جعل مما تبقى من مسار أوسلو تضارباً في المفاهيم لجهة كون إطار مرحلي أصبح من الناحية الفعلية إطاراً مرحلياً دون أجل.
بالنسبة لقضية التمثيل الفلسطيني، تجدر الإشارة إلى أن مسألة ماهية الجهة ذات الحق أو الامتياز في تمثيل الشعب الفلسطيني ظهرت بشكل بارز في الخطاب السياسي العربي والفلسطيني منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وكانت في كثير من الأحيان السبب الرئيس للتنافس الحاد داخل الفصائل الفلسطينية وبينها. ولكن، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، تنامى التوافق بشأن أن منظمة التحرير الفلسطينية هي وحدها صاحبة الولاية والحق في التمثيل. وقد تكرس هذا التوافق بشكل مطلق في نهاية المطاف باعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير «ممثلاً للشعب الفلسطيني» في إطار «إعلان الاعتراف المتبادل»، والذي يلاحظ فيه بوضوح، ولكن ليس من باب الصدفة، غياب توصيف التمثيل في هذه الصيغة بـ«الشرعي والوحيد». ليس هذا فحسب، بل ما هو أهم، فقد جاء هذا الاعتراف مشروطاً باعتراف منظمة التحرير الفلسطينية «بحق دولة إسرائيل في الوجود بأمن وسلام»، بينما قبلت منظمة التحرير بما هو أقل من اعتراف متبادل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، الأمر الذي جعل من هذا الاعتراف غير متكافئ وبما انطوى على القبول بالرواية التاريخية الإسرائيلية على حساب الرواية التاريخية الفلسطينية، وعلى منح إسرائيل، على الأقل ضمناً، حق النقض إزاء إمكانية قيام دولة فلسطينية في حال تعارض ذلك مع «حق دولة إسرائيل في الوجود بأمن وسلام». وعلى أي حال، وعلى الرغم من عدم التكافؤ في هذه الصيغة، فقد مهد «إعلان الاعتراف المتبادل» الطريق أمام منظمة التحرير لتصبح ممثل الشعب الفلسطيني المعترف به دولياً، ومن خلال ذلك، اكتمل جهد المنظمة في الحفاظ على هوية الشعب الفلسطيني وصونها. إلا أن السياق الذي تحقق فيه هذا النجاح حمل في ثناياه بذور فشل لم تكن بادية للعيان عند التوقيع على إطار تفاهمات أوسلو، والذي أدى فعلياً، ومنذ لحظة التوقيع، إلى وضع لم يعد فيه حكم صاحب الولاية (الشعب الفلسطيني في كل مكان) على الوكيل (منظمة التحرير) مستمداً من مجد المنظمة التليد، وإنما من قدرتها على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وهو بالمناسبة هدفٌ لم تتطرق له اتفاقية أوسلو، لا تصريحاً ولا تلميحاً. وكما هو مبين تالياً، فإن ما زاد الطين بلة لجهة المكانة المستقبلية للمنظمة كان الاشتراط الإسرائيلي الآخر الملازم للاعتراف بمنظمة التحرير، والمتمثل في أن تضع المنظمة سلاحها جانباً، وأن تتعهد وبشكل لا يقبل التأويل بالالتزام بنهج اللاعنف طريقاً للسلام.
على أساس هذا المعيار (مدى النجاح في الإنجاز في إطار أوسلو)، لا يمكن بموضوعية إلا الإقرار بفشل المنظمة الذريع في رهانها على هذا الإطار. وفضلاً على ما هو جلي من حيث فشل أوسلو في إنجاز قيام الدولة الفلسطينية المستقلة مع انتهاء الفترة الانتقالية، فإن ما لا شك فيه هو أن فرص تحقيق هذا الهدف باتت اليوم أضعف بكثير مما كانت عليه في بداية مرحلة أوسلو. ولقد ساهم فشل جولات المحادثات المتتالية، خلال الـ15 عاماً التي انقضت منذ نهاية إطار أوسلو الزمني، لجهة عدم تحقق إنجازات ملموسة على طريق إنهاء الاحتلال الذي بدأ في عام 1967، في خلق شعور متعاظم بانحسار فرص إقامة الدولة الفلسطينية. وقد تعزز ما صاحب ذلك من شعور بالإحباط في ظل الظروف الحياتية التي لا تُحتمل في الأرض الفلسطينية المحتلة. ففي قطاع غزة، حيث، بالإضافة إلى المآسي المرتبطة بالتصعيد الميداني المتكرر، فُرض على المواطن العيش في ظل نقص حاد في المياه والطاقة، فضلاً عن القصور في تقديم الخدمات العامة والمنع شبه التام من الحركة والسفر، وأيضا في الضفة الغربية، حيث طالما قوض نظام التحكم والسيطرة التعسفي المفروض من الاحتلال حق المواطن الفلسطيني في العيش بكرامة على أرضه، فضلاً عن تطرف المستوطنين وإرهابهم بحق الفلسطينيين. وبالإضافة للضرر المادي الواضح للتوسع الاستيطاني على فرص قيام دولة فلسطينية، فقد كان للضرر السياسي والمعنوي المتصل بالإمعان في النشاط الاستيطاني دور كبير في تقويض الثقة بإمكانية قيام الدولة ضمن إطار أوسلو القائم على نبذ العنف. وكذلك ساهمت اقتحامات الجيش الإسرائيلي المتكررة للمناطق المصنفة «أ»، على الرغم من تحقيق تحسن ملحوظ في الأوضاع الأمنية، في تعزيز القناعة بأن الاحتلال بات أكثر تجذراً من ذي قبل.
لقد كانت العوامل آنفة الذكر أكثر من كافية لإضعاف مكانة منظمة التحرير بوصفها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. ومما لا شك فيه كذلك أن القصور في أداء السلطة الفلسطينية، وهي الذراع التنفيذية للمنظمة في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، قد ساهم أيضا بشكل كبير في إضعاف مكانة المنظمة، الأمر الذي وجد تعبيراً عنه بشكل واضح في الفوز الحاسم الذي حققته حركة حماس في انتخابات عام 2006.
لعل الاستنتاج الأهم لأي تحليل موضوعي لعوامل الضعف آنفة الذكر يكمن فيما يمكن أن يسمى بالهزيمة المنهجية لرؤية منظمة التحرير الفلسطينية القائمة على اعتماد مبدأ اللاعنف سبيلاً لنيل المطالب الفلسطينية وتحقيق السلام العادل. إذ، وعلى خلفية تمسك المنظمة بهذا المبدأ منذ أوسلو وفشل إطار أوسلو في تحقيق المبتغى فلسطينياً، تنامت القناعة لدى الرأي العام الفلسطيني بعدم جدوى هذا النهج، في الوقت الذي أزكت فيه أحداث عدة (كصفقة شاليط، وقبلها إعادة الانتشار من قطاع غزة، وقبل ذلك الانسحاب من جنوب لبنان) الشعور العام بأن نهج المقاومة المسلحة هو السبيل المجدي، إن لم يكن الوحيد، لتحقيق التطلعات الوطنية الفلسطينية. وقد تعاظمت القناعة بهذا التوجه إبان فترات التصعيد العسكري كلها، كما هو الحال اليوم، وبما تزامن مع ما كان متوقعاً من فشل جولة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الأخيرة، الأمر الذي أفضى إلى تراجع غير مسبوق في مكانة منظمة التحرير وتعاظم في شعبية قوى المقاومة من الفصائل غير المنضوية تحت لواء المنظمة.
في ضوء ما سلف، اسمحوا لي أن أتناول الآن التعديلات التي لا بد من استحداثها في الإطار القائم، إذا ما كان لفرص تحقيق السلام أن تتحسن بشكل حقيقي، وبما يبعث على الثقة بمستقبل واعد ويقلل من احتمالات ومخاطر عدم الاستقرار الأمني لحين إحلال السلام الدائم. وكما أشرت سابقاً، تتمحور هذه التعديلات في جوهرها، وفيما يمكن تلخيصه فيما يلي، حول الحاجة الأساسية لمعالجة عدم التكافؤ في ميزان القوى بين القوة المحتلة والشعب الواقع تحت الاحتلال. أولاً، بعد انقضاء ما يزيد عن عشرين عاماً من الاعتراف الفلسطيني بحق دولة إسرائيل في الوجود بأمن وسلام، آن الأوان لأن تقابل إسرائيل ذلك بما يحقق التماثل، وذلك من خلال اعترافها بحق الفلسطينيين في دولة ذات سيادة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. ثانياً، يجب أن تكون إسرائيل مستعدة للقبول بقرار دولي ملزم بإنهاء الاحتلال بحلول موعد محدد وبإطار متفق عليه للوصول إلى ذلك الموعد. ثالثاً، وفي غضون ذلك لا ينبغي أن تبقى الجهود الفلسطينية لتحقيق الوحدة الوطنية مكبلة بإصرار المجتمع الدولي على فرض تطبيق صارم لشروط مستندة أساساً لإطار أوسلو، والذي، كما بينت سابقاً، فقد أهليته في جوانب هامة منه. وأخيراً يجب أن يكون هناك وقف لكل الممارسات التي تنتقص من حق الشعب الفلسطيني في الحياة بكرامة على أرضه، وهو يمضي قدماً نحو ترسيخ وحدته الوطنية ويثابر في جهوده لبناء مؤسسات دولته وتعزيز قدرته على تكريس واقع الدولة على الأرض.
هذا هو جوهر التعديلات المطلوبة. ولكن، في تقديري، يكمن مفتاح تحقيق هذه التعديلات في جهد وطني فلسطيني يهدف إلى تحقيق الشراكة الكاملة في إطار تمثيلي شامل. ولتحقيق ذلك، هناك عدد من العناصر التي تستدعي، في نظري، دراسة متأنية بغية التوصل أولاً لما يتجاوز المبادئ العامة على درب إنجاز خطة تفصيلية تأخذ في الاعتبار مختلف الآراء والتوجهات في سياق حوار حاضن لمثل هذه الدراسة. وفيما يلي عرض لهذه العناصر:
1. إلى أن يصبح توسيع عضوية منظمة التحرير ممكناً، سواء من خلال الانتخابات أو أية آلية موضوعية أخرى يتم التوافق عليها، أرى ألا يطرأ أي تعديل على برنامج منظمة التحرير مع الإبقاء على مكانتها ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني.
2. تفعيل الإطار القيادي الموحد والمكون من كافة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل غير المنضوية تحت لواء المنظمة، على نحو يجعل من المداولات والقرارات الجماعية فيه أساساً للقرارات التي تتخذها اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في القضايا المتعلقة بالمصلحة الوطنية العليا.
3. لا تتطلب عضوية الفصائل الفلسطينية من خارج منظمة التحرير في الإطار القيادي الموحد قبولها ببرنامج المنظمة. ولكن يجدر التنويه في هذا المجال أنه، ومن منظور فلسطيني محض، قد يكون من المناسب النظر في اعتماد الإطار القيادي الموحد بالإجماع التزام كل الفصائل باللاعنف لمدة زمنية محددة تأخذ بالاعتبار الوقت اللازم لإنجاز إعادة توحيد المؤسسات الرسمية والقوانين بعد ما يزيد عن سبع سنوات من الانقسام.
4. الاتفاق على أن تكون الحكومة الفلسطينية مخولة لأقصى درجة يوفرها القانون الأساسي بإعادة بناء وتوحيد المؤسسات والاضطلاع بكل المسؤوليات المنوطة بها على النحو المنصوص عليه في القانون.
5. الالتزام بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشاملة خلال فترة زمنية تسبق بستة أشهر على الأقل نهاية المرحلة الانتقالية المشار إليها في البند رقم 3 أعلاه، وضمان أقصى درجة من المساءلة من خلال إعادة انعقاد المجلس التشريعي الحالي للقيام بدوره كاملاً، مع السعي الحثيث لتوسيع نطاق المشاركة السياسية عبر الوسائل الديمقراطية.
أود التوضيح هنا أن مجموعة الإجراءات آنفة الذكر ليست حصرية أو نهائية، وأن هناك مسائل وأفكارا أخرى يمكن أن يتم تضمينها في النقاش بهدف التوصل إلى توافق وطني فلسطيني واسع حول السبيل الأمثل للمضي قدماً وفي أسرع وقت ممكن. ولكن يبقى الأساس هو أن يتم التوافق. وبمجرد التوصل إليه، وليس قبل ذلك، يصبح مضمونه والجدول الزمني الذي يتضمنه أساساً للتعامل مع إسرائيل والمجتمع الدولي، من منطلق الحاجة لتحديد تاريخ محدد ومؤكد لإنهاء الاحتلال والمضي قدما في حل كل المسائل العالقة.
مرة أخرى، الأساس هو التوصل إلى توافق وطني شامل حول القضايا الأساسية المذكورة أعلاه وغيرها، وفيما يشمل، على سبيل المثال، وضوحاً أكبر في الرؤية بشأن معبر رفح، خصوصا لجهة أن تشغيله يتطلب فقط تفاهماً ثنائياً بين مصر وفلسطين. وعليه، من الأهمية بمكان عدم الاستمرار في طرح هذا الموضوع في إطار ما هو مطلوب من إسرائيل لجهة رفع الحصار عن قطاع غزة، مع الأخذ بالاعتبار الأهمية الاستراتيجية القصوى لضمان ربط قطاع غزة شمالاً مع الضفة الغربية، وليس في اتجاه ما يستمر في دفع القطاع جنوباً أو يكرسه ككيان فلسطيني منفصل. وكذلك، وفيما ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار في إطار الحوار الوطني، هنالك ما يتصل بالأهمية القصوى التي يجب إيلاؤها لصلاح الحكم ورشده كمتطلب فلسطيني وطني أولاً، وفيما يعود أيضا بالقدرة والتمكين على الشعب الفلسطيني بسبب الاهتمام الدولي بالموضوع. وأخيراً، وليس آخراً، لا بد من الإشارة إلى أهمية التركيز على المنظومة القيمية التي ستقوم على أساسها دولة فلسطين لجهة اتساقها مع القيم الإنسانية السامية كالمساواة والتسامح وعدم التمييز والاحترام المطلق لحقوق المواطنة، وخصوصا على خلفية ما يسود المنطقة حالياً من مظاهر المغالاة في التطرف والعنف والنزعة العدائية.
في الختام، اسمحوا لي أن أختتم حديثي بما بدأت به، وتحديداً من أن الحاجة للتعديل في الإطار القائم مستمدة من الحاجة لتقليل احتمالات ومخاطر عدم الاستقرار، من ناحية، وتمهيد الطريق لإطلاق جهد يفضي إلى سلام وأمن دائمين، من ناحية أخرى. من وجهة نظري، يجب أن يأخذ الفلسطينيون زمام المبادرة للوصول لهذه الغاية، وذلك عن طريق البدء في عملية تفضي إلى تشكيل توافق وطني واسع، وبشكل سريع، حول برنامج يمكنهم من إدارة شؤونهم بكفاءة وقدرة، محلياً ودولياً. في الوقت ذاته، فإن هذا يتطلب أيضا تعديلاً أساسياً من قبل المجتمع الدولي فيما يتصل بتمسكه بفرض شروط على الطرف الفلسطيني في إطار تعامله على الصعيد الدولي، وبما يشمل إسرائيل. نعم، لا بد من إعادة النظر في هذه الشروط، لأن الاستمرار في استبعاد الفصائل غير المنضوية في إطار منظمة التحرير سيؤدي بلا شك إلى المزيد من الفشل والمآسي، خصوصا وأن الشروط المشار إليها لم يتم الالتزام بها أو حتى طرحها دوليا كمتطلب من الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1996. في هذا السياق، أعتقد أن أقوال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً بأن لا مكان لدولة فلسطينية مستقلة غرب نهر الأردن، تلخص المشهد ولا تحتمل الكثير من التأويل، حيث قال: «أعتقد أن الشعب الإسرائيلي يدرك الآن ما قلته دوما وهو أنه لا يمكن أن يكون هناك وضع، بموجب أي اتفاق، نتخلى فيه عن سيطرتنا على المنطقة غرب نهر الأردن».