جيل التسعينات الشعري وصراع الأشكال

أهل قصيدة النثر ينظرون إلى الشعراء العموديين على أنهم جزء من المتحف

جيل التسعينات الشعري وصراع الأشكال
TT

جيل التسعينات الشعري وصراع الأشكال

جيل التسعينات الشعري وصراع الأشكال

لا أظن أن جيلاً شعرياً احتدم فيه الصراع الشكلي على الجنس الإبداعي المكتوب، مثل جيل التسعينات. فالحرب على أشدِّها بين العموديين والنثريين، أو كُتاب قصيدة النثر، فيما شعراء التفعيلة من جيلنا قد أخذوا موقفاً وسطاً، وكأن الصراع لا يمرُّ بهم إطلاقاً، ويبدو هذا الأمر جزءاً من طبيعة العراقيين، في أنْ ينظروا بحدة إلى الأشياء، ولا يعترفون بالوسطية، فطرفا الصراع؛ عموديين ونثريين، كل يكفر الآخر حسب مزاجه وتوجهاته، فأهل قصيدة النثر ينظرون إلى الشعراء العموديين على أنَّهم جزءٌ من المتحف، وأنَّهم قبائل قادمة من الجاهلية، لا علاقة لهم بعصرهم، ولا بأي شيءٍ يدور حولهم.
وربما يتصالح شعراء قصيدة النثر - في التسعينات - مع المتنبي أو البحتري أو الجواهري، ولكنهم لا يطيقون النظر بوجه شاعر عمودي من عمرهم، فهم ينعتونه بشتَّى الأوصاف المهينة، والخارجة في بعض المرات عن الذوق، فيما ينظر شعراء العمود - في تلك الفترة - إلى أقرانهم من شعراء قصيدة النثر على أنَّهم مجموعة صعاليك لا يقرأون ولا يكتبون، ولا حظ لهم من المعرفة، لا بالتراث ولا بالمعاصرة، ولا يستطيعون أن يرفعوا فاعلاً ولا أن ينصبوا مفعولاً به، وأنهم يستنسخون ما يكتبه شعراء الغرب، أو أدونيس، أو أنسي الحاج، أو محمد الماغوط، وكنا مثل زملائنا أيضاً نحب أن نقرأ للماغوط أو قاسم حداد أو أي شاعر قصيدة نثر أو شعر مترجم ونتذوقه، ولكننا لا نقرأ لأقراننا الذين يكتبونها، وننعتهم بالجهل والتقليد.
وما بين هذين التيارين العاصفين في تلك المرحلة تدور القصص والنكات والمواقف، حتى إنَّ أحد الأساتذة يروي قصة طريفة جداً، مفادها أنَّ صدام حسين استقبل عدداً من الشعراء في الثمانينات، وبدأ يتحدث لهم، ومن ثم يسمعهم، فقام أحد شعراء قصيدة النثر، وقال له: «سيدي، نحن شعراء قصيدة النثر مظلومون في الأوساط الثقافية، فمحررو الصفحات الثقافية لا ينشرون لنا، وحظنا قليل من المهرجانات... إلخ»، فقال له صدام حسين: «شنو قصيدة النثر؟» فانبرى أحد النقاد لشرحها، وقال له: «سيدي هي القصيدة الخالية من الوزن والقافية»، فقاطعه صدام حسين وأجابه مباشرة: «عجل إذا هيج آني أكتبها وأصير من شعراء قصيدة النثر».
بقي العموديون يمارسون حيلهم بتمرير نصوصهم غير المرغوب فيها شكلاً، فقد كنَّا نطمح أنْ ننشر في مجلة «الأقلام»، والنشر فيها في تلك الأيام أشبه بالاعتراف بشاعرية الشاعر، إلا أن هيئة التحرير لا تنشر إلا الحديث، التفعيلة وقصيدة النثر، أما «العمودي» فكان مغضوباً عليه، وممنوعاً من النشر في المجلات الحداثية، وكان الفضاء الوحيد للقصيدة العمودية هو الصحف اليومية، التي لا تنشر إلا المدائح لصدام حسين، وتمجيد الحروب والمعارك، وبهذا نجح محررو الصفحات الثقافية في أنْ يحصروا القصيدة العمودية في خانة مدح النظام، وما عداها فلا تُنشر إطلاقاً.
فالشاعر العمودي إذا رغب في أنْ ينشر نصاً عمودياً، فيجب أنْ يكون هذا النص للمديح فقط، وكأنَّ العمود لا يصلح للوجدانيات الخاصة، ولا للهموم الحقيقية للإنسان، ولا لطرح الأسئلة الوجودية، ولكن أعترف أنَّ محرري الصفحات الثقافية هؤلاء، وهم لا يتجاوزون أربعة أشخاص، قد نجحوا في أنْ يحصروا العمود والعموديين الذين يرغبون في نشر نصوصهم بالصحف في خانة المديح، فحين تأتي بأي نص شعري عمودي غير المديح، فإنَّ القصيدة ستذهب إلى سلة النفايات.
أعود إلى مجلة «الأقلام» والحيل التي كنا نمارسها، فبسببهم اضطررت أنْ أكتب قصيدة «تفعيلة» وأنا - في وقتها طبعاً - غير مؤمن بهذا الشكل من الكتابة، ولكنِّي كنتُ راغباً في النشر بهذه المجلة، فكتبتُ وأرسلتُ لهم ونشروها مباشرة.
بعدها مرر الشاعر بسام صالح مهدي أحد نصوصه العمودية على هيئة التحرير؛ حيث وزَّع القصيدة بصرياً، وتحول من وحدة البيت العمودي إلى وحدة التفعيلة، وكأنها قصيدة تفعيلة، فيما هي بالأساس قصيدة عمودية، وما إنْ أرسلها للمجلة حتى نُشرت، وأصبحنا نتندر على هيئات التحرير الذين مرَّت عليهم مثل هذه النصوص، لنخرج بنتيجة أن هؤلاء لا يقرأون إطلاقاً، إنَّما يحكمون على النصوص من شكلها فقط، وهذا ما حدث معي حيث كتبتُ قصيدة في أواسط التسعينات، وكانت القصيدة مشطورة على قسمين، قسم عمودي من سبعة أبيات، والآخر تفعيلة، وكنتُ - وقتها - متأثراً بالسياب؛ حيث قرأتُ له عدداً من القصائد التي يتنازعها شكلان: عمود وتفعيلة، فأعجبتني الفكرة وكتبتُ قصيدة من هذا الشكل، ولكنها ذات موضوع واحد، وذهبتُ بها إلى شاعر كان مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في إحدى الصحف الأسبوعية، وكان لا يعرفني، فطلبتُ منه نشر القصيدة، وما إنْ أخذها منِّي ليقرأها، حتى قال لي: «سأنشر لك المقطع الثاني (التفعيلة) أما العمودي فلا»، فقلتُ له: «عزيزي، هذا نص واحد لا ينشطر»؛ لكنه رفض، فشكرتُه وخرجت. وأذكر في أواسط التسعينات أيضاً، أقامت دائرة السينما والمسرح مؤتمراً لقصيدة النثر، وتخلل المؤتمر قراءاتٌ شعرية، وقد وصل الدور للشاعر والناقد فائز الشرع، فقام ليقرأ قصيدته، وما إنْ سمع الحاضرون أنَّ فيها إيقاعاً - وكانت القصيدة تفعيلة وليست عمودية - حتى غادر معظم الجالسين في القاعة.
صراع محتدم انسحب من التنازع المعرفي والثقافي إلى الحياة الشخصية والعلاقات الاجتماعية. ففي تلك المرحلة لم تكن العلاقات فيما بين المتصارعين على ما يُرام، وكأنَّهم في حرب، أو كأنَّ الأشكال التي كنَّا نكتبها عبارة عن معتقداتٍ ندافع عنها، ونضرب كل من يخالفها، وأظن أنَّ هذا الصراع المحتدم نتيجة عوامل كثيرة، تقف السياسة على رأسها، فبلا شعور، هؤلاء الشعراء التسعينيون تسلل نمط تفكير الحزب الواحد الذي كان يحكم العراق إلى سلوكهم، في النظر إلى الأشياء، فكل من يخالفهم هو شخص مطرود من جنة الإبداع، وتجب محاربته والقضاء عليه، وهذا التشدد قوبل بتشددٍ آخر من المختلفين، وكأنَّهم يتمترسون في الشكل الشعري، الذي تحول إلى عقيدة أو عشيرة يجب الدفاع عنها، وبهذا انسحب الصراع من المنطقة الثقافية التي يجب أنْ تغتني بالاختلاف، إلى منطقة تعتاش على الخلاف وتغذيه.
ثقافة محدودة لأبناء هذا الجيل، أبناء العزلة الحقيقية، فالحصار أطبق بكل أسنانه على الكل، وبدأت الحياة تضيق شيئاً فشيئاً، فمستويات التعليم في انحدار هائل، لهذا أعتقد أنَّ الأمم كلما حوصرت ظنت أنَّها الأهم والأعظم، وهذا ينسحب على الأفراد الذين لم يختلطوا بالآخرين وينسجموا معهم، فإنهم يحسبون أنفسهم مهمين وعظماء ومختلفين، ولكن النتيجة الواضحة هي بسبب العزلة التي تُنتج تضخم الذوات وتنمرها على الآخرين، فالإنسان بمجرد خروجه من دائرته الضيقة، سيجد عالماً آخر مشابهاً له، وربما أفضل منه بكثير، وهذا ما حصل للعراقيين بعد 2003، وبالخصوص للمتصارعين على الشكل الشعري ومن يمثل جيله، أو الأصلح لهذا الجيل، أقول بمجرد ما انفتحت الحدود الحقيقية والثقافية في الوقت نفسه، حتى تجاورت الأشكال، وتصالح الشعراء؛ حيث بدأوا بالسكن في الأشكال التي يرغبون فيها، دون أنْ تكون هناك شتيمة، أو خوف من الشكل الذي يكتبون.
وهذا ما وجدتُه في الشعرية العراقية بعد 2003؛ إذ إن معظم الأجيال التي خرجت لم يشغلها هاجس الشكل الشعري الذي يكتب؛ بل أجد أنَّ الشعراء الشباب في خلطة سحرية يتجمعون، وكلٌّ له طريقته في الكتابة، وفي النظر إلى العالم، وأعود وأقول: إنَّ هذه التجمعات الجديدة من الأجيال الشعرية خرجت وهي بلا عقد سياسية، أو هيمنة حزبية تمنعهم من التفكير، أو تفكر بدلاً عنهم، فالأرض المفتوحة ستنتج عقلاً مفتوحاً وقلباً يسع الجميع، ولكني أعترف لكم بأنِّي أحنُّ إلى صراعاتنا الشعرية الآن، فقد كانت تمنحنا الحيوية في الحياة رغم ضيقها.
- شاعر عراقي



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).